مقالات

إدارة التعايش … إكراه أم ضرورة

فطين حفصية
صحفي

في العام ألفين وواحد خرج أوليفيي شراماك مدير ديوان رئيس الحكومة الفرنسية ليونال جوسبان عن واجب التحفظ المحمول على كبار الموظفين في الدولة أثناء مباشرة مهامهم ونشر كتابا بعنوان “ماتينيون الضفة اليسارية 1997/ 2001” تضمن انتقادات لاذعة لما يعرف في السياسة الفرنسية بعرف التعايش الذي تمليه أحيانا صناديق الاقتراع بين رأسي السلطة التنفيذية.

أثار الكتاب جدلا سياسيا واسعا في فرنسا خصوصا عندما اتهم شراماك الرئيس الفرنسي جاك شيراك بتعطيل تعيينات جوسبان ووضع “عصا صلاحياته” أمامها وانتقد “التعايش تحت الإكراه” ونتائجه على سير دواليب الدولة والعلاقة بين قصري الأليزي والماتينيون في حين مضى شيراك أبعد من ذلك ذات مناسبة عندما أرسل مكتبه تأنيبا رسميا إلى جوسبان ردا على تصريحات له تتعلق بانقلاب عسكري جد في كوتديفوار وخالف فيه رؤية الإليزي للمسألة.

لا يقاس النموذج الفرنسي على التونسي أصلا لاختلاف طبيعة النظام السياسي لكن يوميات الحكم تفيد أن عرفا سياسيا بدأ يتشكل ب”الضرورة” لتعايش ولو كان “شبه مغشوش” بين الرؤساء ورؤساء الحكومات كحال ماتم بين الراحل الباجي قايد السبسي ويوسف الشاهد ثم ما ساد قبلها من “تعايش المكرهين” بين الرئيس منصف المرزوقي ومهدي جمعة و”تعايش من كان الأسرع” بين المرزوقي وحمادي الجبالي خصوصا في قضيتي تسليم رئيس الوزراء الليبي البغدادي المحمودي إلى سلطات بلاده المؤقتة من عدمها أو الهدف من تنظيم مؤتمر أصدقاء سوريا.

أما الآن فقد بدأ التونسيون والرأي العام السياسي في متابعة فصول “حرب توجهات وصلاحيات باردة” بين الرئيس قيس سعيد ورئيس الحكومة هشام المشيشي بعد خروجها للعلن عند تداول سلسلة تسميات استشارية لرئيس الحكومة في محيط القصبة أو ما شبهه آخرون ب”التأنيب” المباشر الذي تلقاه المشيشي بسببها.

وقد نقل رئيس الحكومة السابق الحبيب الصيد في تصريحات صحفية متواترة أننا بتنا أمام هذا الواقع منذ زمن وانه عندما كان يدير الحكم من القصبة وضع أمام هذه الضرورة كما أنه أقنع – بعد جهد كبير – الرئيس الراحل الباجي قايد السبسي عندما كان مستشارا له بالتراجع عن قراره بعدم التقاء رئيس الحكومة يوسف الشاهد ومتابعة العمل ب”نواميس الدولة” مهما كانت حدة الخلافات.

تقول القاعدة العامة في السياسة 《لا يمكن للفرد أن يحكم بلكن》 أما في الحالة التونسية فإن هذه “اللكن” قائمة إذ تتباعد المسافات بين الحاكمين وتتداخل نحو منطقة رمادية بمقتضى الصلاحيات الممنوحة للسلط التنفيذية والتشريعية حد أن عددا من المختصين أصبحوا يتداولون “مربع” الصلاحيات الممنوحة لكل رئيس ويعتبرون أن أي تجاوز “للحدود المشتركة الفاصلة بين الجميع” هو اعتداء على “سيادة” سلطة ما وبالتالي فتح أبواب هي في الأصل مخلوعة وقيام خلافات بطبعها عميقة بل أن أحد أساتذة القانون الدستوري اعتبر أن طبيعة النظام السياسي في تونس لا وجود لأي شبيه لها في أي بلد وأنها لا تشبه إلا نفسها ومن وضع أسسها وهو ما يجعل من تغيير طبيعة هذا النظام أم المعارك السياسية القادمة.

ما أعاد طرح مشهد التعايش أو المساكنة هو متابعة التونسيين والرأي العام السياسي ما أطلق عليه اتصاليا “بالدرس الحكومي” الذي قدمه الرئيس قيس سعيد لرئيس الحكومة هشام المشيشي بعد تناقل أنباء عن تعيينه شخصيات من النظام السابق تعلقت بهم جملة قضايا فساد أمام المحاكم في دائرته الاستشارية، ولم يفت أي متابع أن هذا “الدرس الخصوصي غير المجاني” لا استدراك بعده أو ربما يكون الإنذار الأخير قبل الإعلان الرسمي عن فك الارتباط التشاركي مرة أخرى بين قصري قرطاج والقصبة وبالتالي العودة إلى “تعايش المكرهين”.

ورغم تخفيف مصادر مقربة من المشيشي من منسوب “التوتر” بين القصبة وقرطاج بالقول إنه سيتم الحرص على ان تكون العلاقة مع رئاسة الجمهورية على قدر كبير من الوضوح بما لا يحدث أي لغط في المستقبل فإن ارتدادات “مضمون لقاء السبع دقائق” لن تختفي في المستقبل المنظور إذا علمنا أيضا أن رئيس الحكومة لقي دفعا برلمانيا مشروطا بتأكيد رئيس البرلمان راشد الغنوشي أن التعيينات التي قام بها المشيشي او سيقوم بها نافذة مادامت لا تخالف القانون والدستور.

كل ذلك يجعل من المشيشي كمن يلاعب الرمل بيديه لإثبات أنه لا يرتهن لأحد سوى لصلاحياته وأن حكومة الفاتح من سبتمبر التي يقودها تتحرك خارج دائرة الصراع المكشوف بين رئيس الجمهورية والبرلمان من جهة ورئيس الجمهورية وجزء من الفسيفساء البرلمانية من جهة أخرى أو العكس في ترتيب محركي هذا الصراع.

إن كل القراءات الآن تفيد بأن الجميع في قرطاج والقصبة وباردو قد دقق صورة الوضع المتشكل جيدا و خنادق التمترس المتاحة بعد مرور عام عن الانتخابات كما تم تحديد محركات كل تحالف مصلحي أو تكتيكي ممكن وكيفية تسجيل النقاط والتقاطها عند كل فرصة وأن البلاد مرة أخرى تجر إلى “خندق التعايش” بعد انتهاء الصلاحية السياسية ل”خندق التوافق” ما سيجعل من هذه الحكومة التي تعمل تحت الضغط العالي لثقل الملفات الاقتصادية والاجتماعية والصحية والأمنية أمام حتمية الاستناد إلى حائطين إما “تعايش الضرورة أو الإكراه” مع الجميع رئاسة وبرلمانا أو العمل بنصيحة أن آلة السياسة سعة الصدر إلى حين تغيير هذه السياسة أمرا كان مقضيا.

Skip to content