حوارات

المؤرخ والمفكّر هشام جعيّط : التونسي اليوم ينتخب حسب أهوائه والسياسة التونسية تدور في أمور ذهنية أو عاطفية لا أرى حلا سحريا لتونس.

سيماء المزوغي
صحفية

تحدّث المؤرخ والمفكر التونسي هشام جعيط عن تاريخ الإنسانية والأوبئة، واعتبر أن تونس في فترة الحجر الصحي الشامل لم تشهد وباء، كما قيّم جعيط خصوصيات النظام البرلماني والواقع التونسي واعتبر أنّ هذا النظام لم يتلاءم مع تونس، وليستخلص أيضا أن الدستور التونسي فيه نقطة ضعف كبيرةويقول أن الشعوب لا تنتقل فجأة من وضع ديكتاتوري امتد قرابة الستون عاما، إلى نظام ديمقراطي سياسي على شاكلة مثلا بريطانيا، ولا يتحدّث الدكتور جعيط عن عامل الزمان، بل عامل التركيبة الاجتماعية والاقتصادية لتونس وللبلدان الديمقراطية واعتبر في حوارنا معه أن الوضع السياسي في تونس سيء جدا، كما تحدّث عن مستقبل تونس كما يراه كمؤرخ ومفكّر، واعتبر أنّ الأولويات الحقيقية هي اقتصادية واجتماعية وتربوية وفكرية.. وأن الرأي العام متشائم جدا، ولا يطرح المشاكل من الأصل. ويذكر أن هشام جعيّط نشر العديد من الأعمال الفكرية والأكاديمية صدرت باللغتين العربية والفرنسية. وهو أستاذ فخري لدى جامعة تونس، درّس بعدة جامعات عربيّة، أوروبيّة وأميركية منها جامعة ماك غيل بمونتريال وجامعة كاليفورنيا، وغيرها، وتولى رئاسة المجمع التونسي للعلوم والآداب والفنون “بيت الحكمة” ونال العديد من الجوائز والأوسمة حول أعماله وانتجاته.

كيف ترى الإنسانية التي باغتها فيروس كوفيد19؟ وهل سيغيّر هذا الفيروس ربما العالم الاقتصادي والاجتماعي والثقافي نحو الاعتراف بحقوق الإنسان الاقتصادية والإجتماعية والثقافية بأكثر عدل، بعيدا عن منطق الكونية والعولمة وعلوم الاقتصاد الحر ونهب الثروات وانتهاك الطبيعة؟

بصفتي مؤرخ أستطيع أن أقول أنّ الإنسانية عاشت أوبئة بصفة مستديمة تقريبا، ففي العالم الإسلامي القديم، ذكر الطبري في حولياته أماكن المجاعات في كل سنة، ابن أبي الضياف تحدّث أيضا عن الأوبئة التي حدثت في القرن التاسع عشر حتى أنّ أحمد باي الأوّل خرج من قصره وذهب إلى مكان آخر لم ينتشر فيه الوباء، كذلك تحدث ابن خلدون عن الوباء الكبير الذي سمّي بالوباء الأسود أو الطاعون، ففي القرن الرابع عشر ميلادي أصاب بلاد المغرب ومصر وأوروبا وبقي طيلة خمسين سنة، ويقول المؤرخون أن هذا الوباء قتل نصف سكان أوروبا.. وهو وباء انتشر من الشرق الأقصى، تقريبا من الهند.. حدث أيضا وباء في القرن العشرين، ما يسمى بالحمّى الإسبانية والذي قتل تقريبا مليوني شخص.. أذكر أيضا أن رئيس وزراء فرنسا نفسه في 1830 تقريبا توفي بالكوليرا، وغيرها من الأمثلة حتى في الفترات القريبة، إذن الوباء ملازم للإنسانية، هذه التي عرفت الحروب والزلازل، والجنس الإنساني مسيطر عليه، من قبل نفسه ومن قبل الطبيعة. 

كانوا يعتقدون أن الهواء هو ناقل الأوبئة، لكن تبيّن بعد ذلك أنّ البشر أنفسهم هم ناقلوها، وعندما يتمركز الوباء في مكان ما وفي فترة زمنية معينة، وحدهم الأمراء وأصحاب السلطة والجاه من يستعطون الابتعاد عن مركز الأوبئة تجنبا للعدوى.. وكما قلت حدثت العديد من الأوبئة على مر التاريخ.. وحول الوباء الذي نعيشه في الزمن الراهن، تبّين أنه فيروس فتاك يمتد بسهولة، خرج من الصين، التي أعتقد أنها بلد متقدّم تقنيا واقتصاديا،

لكن لهم نوعية حياة أخرى من حيث ثقافتهم الغذائية، وهذه الفيروسات تخرج أساسا من الحيوانات، ففي القرن الواحد والعشرين سمعنا بالعديد من الأوبئة من مصدر حيواني، كأنفلونزا الطيور، والخنازير وغيرها، وهي قادمة جميعها من الصين، وهذا لا يعني الصينيين هم من أخرجوا الوباء عمدا أو حتى عن خطأ، بل نمط حياتهم في أسواقهم وفي طبخهم يسهّل حدوث ذلك. الإنسان الحالي سيّطر على الجراثيم الميكروبية ولم يسيطر على الفيروسات التي هي مصدر الأوبئة الأخيرة. وأعتقد أنّ الإنسانية الحالية مترابطة كثيرا ومتشابكة.

بأي ناحية مترابطة ومتشابكة هذه الإنسانية؟
من ناحية الاقتصاد والسياسة والسياحة، من ناحية وجود الطيران بكثرة في العالم أجمع، وهو ما ساهم في انتشار الفيروس في العالم، رغم محاولات السيطرة عليه في المنطقة التي ظهر منها في وهان الصينية، وعندما نلاحظ نرى أنّ كوفيد19 انشر بسرعة في البلدان المصنعة والتي فيها مدن كبرى وتجمعات بشرية كبرى، وفيها حركية.. كل هذا سهّل انتشار الوباء في أوروبا ثم في الولايات المتحدة الأمريكية واليابان وكوريا والصين ثم فترة ثانية انتشر في بلدان أقل حركية اقتصادية وإنسانية مثل الهند، ولاحظ العديد أنّ القارة الأفريقية لم ينتشر فيها بكثرة وحتى البلدان العربية.
في البلدان “المتقدمة” بين ظفريين فيها عدد كبير من الشيوخ، ومعدل الحياة مرتفع.. وفي البلدان “المتخلّفة” _المتخلفة صناعيا واقتصايا_ مثل البلدان الافريقية، عدد شيوخها أقل ونظامها الاجتماعي ليس فيه تجمعات إنسانية كبرى، وليس فيها شبكة طيران قوية.. وهذا ما يفسر أنّ هذه البلدان فيها انتشار للفيروس أقل..

يعني أنّ انتشار الوباء مرّده للنظام العالمي الحالي؟
الانتشار القوي لهذا الوباء مرّدة للنظام العالمي الحالي.. وبالخصوص في البلدان التي لها حركية اقتصادية قوية ولها تجمعات إنسانية كبرى..

وفيما يخص تونس وفيروس كوفيد19؟
فيما يخص تونس وفيروس كويفيد19 لست موافقا على مسألة الحجر الصحي الذي بقي إلى حدود شهر ماي، بين قوسين فرنسا هي النمط التي نقلّده وهو المثل الذي نبتغيه في العديد من الأمور، وهذا راجع للتاريخ ولعدة معطيات أخرى، في تونس في أواخر شهر مارس عندما أعلن عن الحجر الصحي وتمادي إلى أفريل وماي، لم يزد عدد الوافيات عن ثلاثين وفاة، بين الوفيات بأمراض أخرى عددها كثير، في فرنسا في نفس الفترة بلغ عدد الوفيات ثلاثين ألف، وهنا نرجع دائما إلى عدد السكان، ونحن عدد سكاننا سدس عدد سكان فرنسا، لو كنا في نفس وضع فرنسا لتوفي في تونس خمسة آلاف شخص، والحمدلله لم يحدث هذا، هنالك فارق كبير جدا بين ثلاثين وفاة وخمسة آلاف، لدرجة أني أقول أن كوفيد19 لم يكن بدرجة وباء في تونس في شهر مارس وافريل وماي، لا يكمن أن نسميه وباء.

إذن كيف تقيّم سياسة الحكومة تجاه كوفيد19؟
الحكومة التونسية في تلك الفترة، أحسنت في شيء، كونها أغلقت الحدود من الأول، وكان له الدور الإيجابي في الحد من انتشار الفيروس، إنما بعد شهر من الحجر وبعد كل الاجراءات التي اتخذوها في محاصرة الفيروس، استمرّ الحجر الصحي حتى لشهر ماي، لماذا؟ لماذا منعوا الجولان من السادسة مساء وطوال شهر رمضان؟ في اعتقادي أنه لا يوجد ما يبرّر بقاء الحجر الصحي كل تلك الفترة، ومنع الجولان وإدخال الهلع على قسم كبير من السكان، هذا الهلع جعل البلاد في حالة ركود تام.. من ناحية الإقتصاد والمصالح العامة والعلاقات الإجتماعية، وكأننا في حالة حرب، في الحقيقة كانت حرب في دول أخرى، ولكن تونس لا يصحّ أن تقول أنها في حالة حرب، هذا قلّة واقعية، ينظرون إلى الخارج دائما ولا يفكرون في الوضع الداخلي بطريقة واقعية..
الطبقات الضعيفة في الشعب التونسي وهي الاغلبية سواء في العاصمة أو في داخل الجمهورية، لم تأتمر بهذه الأمور، ليست لديهم الإمكانيات الاقتصادية لقوم بالحجر الصحي الصارم دون أن يفقد معيشته.
والحمدلله كانت الأسواق مفتوحة وإلا حدثت مجاعة أو شيء من هذا القبيل.. كل هذا جعلني أفكّر أن هناك سوء تقدير في الوضع الواقعي الداخلي وليس ما يفعلونه في الخارج، وأتعجب أن لا أحد قيّم الوضع بطريقة واقعية..هنالك صمت على هذه الأمور.
ربما هناك تقصير، هنالك نوع من الاغتراب في كل ما يحدث في الخارج، ربما ساهم الحجر الصحي كل تلك الفترة في مساعدة الحكومة في تدجين الشعب.. لا تقع مطالب اجتماعية أو اقتصادية أو اضطرابات داخل البلاد.. والحكومة لا تخاف شيئا من هذه الناحية، لا أعرف إن فكّر القادة السياسيون في الموضوع بهذه الصفة؟ ولكن حجر الحريات يساعد دائما الحكومات..
وقع استغلال الموضوع في الإعلام، ووقع نوع من سلطة الأطباء، وأصبحوا هم المرجع، ولو سمعوا كلام الأطباء لكان الحجر إلى حد الآن..
في تونس الاقتصاد سينهار أكثر وستزيد البطالة، وعند رفع الحجر رجعت الصراعات السياسية، الوضع في تونس سيء جدا من الناحية السياسية، العجيب كون الصحافة وما يجري من كلام عند كل من يهتم بهذا الشأن لا يتحدون عن القضايا الأساسية، وهي الوضع الاقتصادي..

وكيف تقيّم المشهد العام إذن؟
البرلمان حالما تم رفع الحجر الصحي، دخلوا في تشابكات وصراعات بصفة فيها تخلّف كبير، من الناحية السياسية والذهنية، نتيجة الانتخابات نفسها أظهرت تشرذما كبيرا.. وأظهرت أن الحكم البرلماني لا يتماشى مع الوضع التونسي في رأيي، وأنه فشل حتى قبل دستور 2014، فشل منذ العمل بالدستور الصغير في عهد الترويكا.
وقع تخوف من الحكم الرئاسي من ناحية أن يرجعنا إلى الديكتاتورية، الفكرة الأولى بعد الثورة كان فيها جانب من الصحة بإعطاء الحكم للبرلمان، لكن الذي حصل لم يكن فيه وعي سياسي واضح من طرف البرلمانيين،
أعتقد أن الدستور فيه نقطة ضعف كبيرة، في النظام البرلماني لا ينتخب الرئيس من طرف الشعب، في النظم البرلمانية الرئيس ليس له صلاحيات لأنه منتخب من طرف البرلمان لا من طرف الشعب، نحن في تونس نقلّد الأوروبيين في كل كبير وصغيرة، ونحن لسنا مثل الأوروبيين، وفي فرنسا من عهد الجنرال دي غول، قامت الجهورية الخامسة، وله صلاحيات لأنه منتخب من قبل الشعب، وريس الجمهورية دائما له حزب يؤيده، والأحزاب الأخرى موجودة ولها الحرية، منذ الستينات عندما لا يتم التصويت للحزب الذي يتكلّم باسم الرئيس يكون الوزير الاول منتخب من الاغلبية البرلمانية وهذا ما حدث في فرنسا مرتين تقريبا.. ثم أصلحوا أمورهم بعد ذلك..
لو أفكّر في تونس، أعتقد أنه في يوم من الأيام لا بدّ أن نرجع للنظام الرئاسي، وهنالك فرق بين النظام الرئاسي والنظام الديكتاتوري، بورقيبة وبن علي أنظمة ديكتاتورية وليست رئاسية، يمكن تماشى ذلك مع فترة بورقيبة ولكن الآن لا يتماشى مع الوضع، عندما نفكّر في نظام رئاسي يوما ما، وهو الأصلح للبلاد، وليس ذلك الآن، لا بدّ أن نفكّر بأن رئيس الجمهورية يكون له حزب له الأغلبية، وبما أننا نتبع ما يجري في فرنسا في كل صغيرة وكبيرة لماذا لم نتبع النظام الفرنسي؟ الأفضل في المستقبل أن نتبعه..

لماذا أكدت أن تغيير الدستور لا يجب أن يكون الآن، هل تعتقد النخبة سياسية قادرة على هذا؟
في تونس لم تتكوّن نخبة سياسية حقيقية، ولم يتكون اختصاص في السياسة، هنالك ترابط كبير بين رجال الأعمال والسياسيين، _ رجال الأعمال غير الجديين، لأنّ هنا في تونس الاقتصاد ليس له ركائز صلبة وقوية _ اليوم لا اعتقد أنه من الممكن أن يبقى هذا النظام..
في اليوم الذي نتجه فيه إلى نظام رئاسي لا بدّ من تكوين حزب رئاسي يتماشى مع برنامج رئاسي وليس حزب لشخص الرئيس، ثم أحزاب أخرى معارضة، في البلدان المتقدمة التي ترسخت فيها الديمقراطية لا يوجد تشرذم في الأحزاب، كما أنّ هذه الأحزاب لديها تحتية فكرية.
كما أنّ كل فرد له الحق في الانتخاب، الشعب التونسي ليس له تقاليد سياسية في هذا المجال، لم يتعلم بعد في أي صندوق يضع صوته، التونسي اليوم ينتخب حسب أهوائه، في البلدان المهيكلة اجتماعيا وهي النظم الديمقراطية، عادة ما يصوّت في مصلحته لا أهوائه..كأن ينتخب رئيس لأنه نظيف.. هذا لا يكفي.. أو كأن ينتخب النهضة لخلفيتها الأيديولوجية،_ وهذا ما واقع في العالم الإسلامي_، (مازلنا في صراعات اديولوجية، لا ننسى أنّ منذ عشرة سنوات إلى حد الان، هنالك العلمانيين وهناك الإسلاميين) التونسي لا ينتخب حسب الواقع، الواقع الحقيقي هو الواقع الاقتصادي والاجتماعي والمؤسسات والصحة والتعليم.. المجتمعات الديمقراطية هي مجتمعات مهيكلة من هذه النواحي..بالتالي هذه هي المشاغل الحقيقية لتونس، ولكن السياسة التونسية تدور في واقع غير الواقع، تدور في أمور ذهنية أو عاطفية..
ما تذكره الصحافة وما يذكره الرأي العام حول الأزمة السياسية هو واقع لا شكّ فيه، البرلمان غير مستعد للقيام بسياسة البلاد، أي الأحزاب بصفة معقولة وعقلانية، رئيس الجمهورية غير مستعد للقيام بدوره كما يجب خصوصا في تصريحاته المتعددة، ولكن في نقطة أساسية من الأفضل أن توجد حكومة تكنوقراط تقوم بتحسين الوضع الاقتصادي والاجتماعي، هنالك نقطة إيجابية كون هذه الحكومة سواء كانت سجينة الرئيس أو سجينة البرلمان، لا يهم، يجب أن يقوموا بتحسين الوضع الاقتصادي إلى حد ما، لأن الوضع متردي جدا.. هنالك نقطة أساسية أيضا وهي كيف يمكن أن تتغلّب تونس على الفوضى من خلال منع تعطيل الإنتاج؟

هنالك من يتحدّث عن تونس سيناريو لبنان؟
تونس لن تكون مثل لبنان، ولكن في تقدري أنّ الأخطر من كل هذا، أن فئات من الشعب التونسي غير مؤهلة للديمقراطية، هناك وضع اجتماعي اقتصادي حضاري، ولا أقول الشعب التونسي برمته إنما من يهتم بالوضع السياسي، لأن الديمقراطية الغربية بالخصوص راسخة في التاريخ، والشعوب لا تنتقل فجأة من وضع ديكتاتوري عشناه قرابة الستون عاما، إلى نظام ديمقراطي سياسي على شاكلة مثلا بريطانيا، هذا ليس ممكنا بريطانيا لها قرون من الديمقراطية، ليس فقط عامل الزمان، هنالك عامل التركيبة الإجتماعية والإقتصادية، لا يمكن ترسيخ الديمقراطية إلا في بلد فيه تقدّم صناعي واقتصادي بصفة عامة، أغلبية الشعب يكون له نوع من الرفاهية،

نأخذ فرنسا مثلا أو غيرها من البلدان الأوروبية، تكون لها هيكلة اقتصادية واجتماعية تجعل أغلبية السكان من الطبقة المتوسطة، وحتى الفقراء لا يصلون إلى الثورة العارمة بسبب الوضع لأنّ هنالك نظام اجتماعي مهيكل..

يعني في تونس ليس هنالك نظام اجتماعي واقتصادي مهيكل؟
في تونس الطبقة المتوسطة لم تعد أغلبية، كذلك مازلنا متأخرون من الناحية التكنولوجية، ولا ننسى أننا في عالم مفتوح، لم نعد كالماضي عندما كانت الدول مغلقة على أنفسها، كل هذه الامور تجعلني أن أقول أن من يسيّر الاقتصاد والسياسية غير مستعد فعلا لنظام ديمقراطي من هذا القبيل، عندما نشاهد العالم أجمع، أين النظام الديمقراطي الحقيقي موجود؟ في بلدان راسخة في هذا المجال، في أوروبا الغربية، في الولايات المتحدة، في كندا، في البلدان الأنغلوسكسونية، مثلا روسيا ليست بالنظام الديمقراطي، ولو أنّ نظامها الحالي ليس كالنظام الستاليني، تحسّن ووقع تدرج، الصين التي تمثل تقريبا ربع الإنسانية، هي نظام ديكتاتوري، أمريكا اللاتينية نصف نصف ، كانت في التاريخ الحديث نظم عسكرية،
لا أعرف بالنظر إلى الوراء كمؤرخ أتساءل هل القفزة التي قمنا بها في 2011 هل وجدت الجو الكافي لإرساء الديمقراطية على المثال الاوروبي أم لا؟ ولكن لا يمكن أن نتراجع على الديمقراطية، لا بدّ من إرساء الحريات الأساسية وتوفير مناخ ملائم لحقوق الإنسان ونحن في فترة انتقال ديمقراطي كما يقال، ولكن هذا الانتقال من سوء إلى أسوء، أرجو أن لا ندخل في مآزق أخرى، ولكن أريد أن أتحدّث بنبرة تفاؤل، مثلا لو ننظر إلى بلدان مثلنا، كسوريا مثلا، وقعت في حرب أهلية، نحن تجنبنا الحرب الأهلية، مثلا لبنان، مثلا العراق التي عرفت اجتياحات، نحن لم نعرف ذلك، مصر مثلا نظامها ديكتاتوري، لكن اقتصاده (ماشي إلى حد ما) لعلّ النظام العسكري هو الذي تعوّدوا عليه، كل ما يمكن أن ننتقده على مصر أن الجيش يلعب دورا كبيرا في الاقتصاد ، يجب تمدين الاقتصاد هناك، ومن ناحية أخرى لماذا وضع الناس في السجون لأفكارهم فقط؟
أحسن نظام في المغرب العربي متماشي في المنطقة هو النظام المغربي، هنالك انفتاح كبير، هنالك أحزاب، إلى غير ذلك، لكنهم تعودوا على سلطة الملك، التقدّم يقع عندما تضعف سلطة الملك وعندما تتدرب السلطة السياسية شيئا فشيئا، هذا التدرب والتدرج لم نعرفه نحن..
لكن التخوفات حول أن يعيدنا النظام الرئاسي إلى الديكتاتورية هي تخوفات مشروعة..
في تونس، هنالك مؤسسات، في وقت الحجر الصحي وفرت الضروريات، ولكننا مازلنا نعيش في همجية نسبية، ولا أرى أنه سيقع تحسن فجئ، سواء من نادى بالأحزاب أو بالرئاسي، لن يقع تحسّن فجيء، كل مرة سيقع ترميم الوضع السيئ حتى لا يصل الأمر إلى أزمة لا تطاق..
أنا أفكر كمؤرخ أفكّر خارج الدائرة السياسية أرجو أن لا تتعطّل الأمور أكثر من هذا.. ولعلّ الأمور في المستقبل أن تتحسن داخل هذا الخيار الديمقراطي الذي لا رجعة فيه. بالفنرسية نقول on vit avec،
مثل الفيروسات، يجب أن تعوّد بالعيش معهم، ولا أرى حلا سحريا لتونس.

كيف تعلّق كمؤرخ عن اعلان الحكومة الانتقالية السودانية عن توقّيع اتفاق مبادئ يقرّ العلمانية وفصل الدين عن الدولة؟
السودان بفصل الدين عن الدولة هل يعني هذا أنها ستكون مثل فرنسا العلمانية؟ طبعا لا هم يقصدون فصل الإسلاميين عن الحكم، ولكن هل سيكون الشعب السوداني في سلوكه علماني؟ هذا غير متوقع..

وهذا في كل البلدان الإسلامية، ربما الخطوة الصحيحة تبدأ بفصل السياسي عن الديني، وعبر التاريخ الإسلامي لهذه الدول يلعب فيها الدين دورا كبيرا مقارنة بأغلبية بلدان العالم، في الولايات المتحدة الأمريكية هنالك اتجاه ديني ولكن الدين لا يتحكم في المؤسسات الاقتصادية والاجتماعية..

الهوس الديني في اتجاه الدين واتجاه اللادين يجب تجاوزه على الأقل فيما يخص تونس.. ومن غير المقبول أن ندخل في صراعات إيديولوجية، كذلك الرأي العام متشائم جدا، ولا يتنبأ إلا بما هو شر، وغير متفائل، ولا يطرح المشاكل من الأصل..

وعلى ذكر الرأي العام، هل يمكن أن تقدّم له نصيحة؟
كيف أعطي نصيحة للرأي العام الذي لا يتابعني؟ هنالك نقص كبير في ظهور المفكرين والعقلاء والمثقفين من يقومون بتوعية الرأي لعام، في أوائل الثورة أو حتى في فترة بن علي من تحرّك؟ المفكرون والمثقفون، اليوم لا نجدهم في البرلمان أو في الحكومات، مغيبون، أنا شخصيا، (لا محالة كبرت في السن الآن)، في عهد بن علي كانت أصرّح بآرائي للصحافة الحرة أكثر من اليوم..
هناك عدم اهتمام بالثقافة، ينظرون لها فقط كمهرجانات، من ناحية أخرى ليس لدينا انتاج ثقافي أو استهلاك ثقافي من الناحية الفكرية، أو لنقل انتاج ضعيف جدا، على غرار جميع بلدان العالم العربي، أذكر في فترة الثمانينيات كانت هنالك حركية فكرية ثقافية في لبان ودمشق والقاهرة وتونس..
استهلاك الكتاب ضعيف جدا، مازالت ثقافتنا شفوية، حتى الأحزاب يجب أن تكون لها تحتية فكرية، الأحزاب التي تتلاشى سريعا ليس لديها خلفية فكرية اديولوجية..

Skip to content