مقالات

تونس وحقيبة المصالح من الحوار الليبي

فطين حفصية
صحفي

لم تكن ثمانية أيام من ملتقى الحوار السياسي الليبي  المنعقد بتونس مدة كافية لوفد الخمسة والسبعين المجتمعين على طاولة واحدة للخروج بخارطة طريق كاملة وتفاهمات واضحة تؤدي إلى تهدئة حقيقية في البلد المتحرك بين الأزمات منذ ما يقرب من عقد، وبقي السقف الأعلى المنتظر من جدول عملها وهو تسمية حكومة انتقالية تشرف على إجراء الانتخابات القادمة مرحّلا  إلى الاجتماعات القادمة، أو معلقا إلى ما سيعقبها  مع مفارقة تفصيلية دقيقة  في  هذه  المشاورات وهي تحديد تاريخ هذه الانتخابات في 24  ديسمبر من العام القادم  ما يجعل من تونس رمزيا، بوصفها بلدا حاضنا لأهم لقاء ليبي تمثيلي، “عاصمة الحل الطبيعية” ولو كان هذا الحل مشوها أو منقوصا أو جزئيا  أو مؤجلا.

بدا في كل ذلك أن  المجتمعين اقتنعوا  طوعا أو إجبارا  بأن دوامة الاستنزاف طالت وأنهم في حاجة إلى الوعي المشترك والتام بضرورة الحل الجماعي والتقدم خطوات عملية إلى الأمام  بدل ما ساد سابقا من  توجه سياسي ضيق أو مصلحي أو فئوي أو قبلي أو مناول بالوكالة لأطراف إقليمية ودولية، كما سارت الأطراف الليبية بقناعة تامة ولو عبر الترحيل الزمني في  طريق ملائمة الأساسي مع الفرعي عبر محاولات تحديد  خطوط الحل ومواعيده القريبة والمتوسطة وترتيب الأولويات للبقاء في المشهد أو الانقراض مثلما حدث للديناصورات مثلما خيرت رئيسة البعثة الأممية بالإنابة ستيفاني ويليامز التشكيلات الليبية المشاركة  في كلمتها التي توجهت بها إليهم، كما بدت صورة التقارب أرجح من أي وقت مضى لجملة تقاطعات إقليمية ودولية قد تصب بعض منافعها في مصلحة تونس إن سارت الرياح بشكل جيد وتؤشر على مكانتها كبلد مهم في عين العاصفة الليبية بعد الفراغات التونسية المتروكة لعدة اعتبارات.

إن التاريخ والجغرافيا يتحدثان عن فصول العلاقات التونسية الليبية فهي متسعة لكل المفاهيم والعناوين: سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية وأمنية وأخيرا صحية قومية بالمعنى المجازي لحالة الدولتين والشعبين فإذا اشتكى عضو من الجسد الليبي تداعى له سائر الجسد التونسي بالسهر والحمى تأثيرا وتأثرا وذلك مثبت في مفاصل زمنية بعيدة التاريخ وقريبته  ومنها  الأحدث الذي غطى حقبتين ليبيتين متناقضتين : سبتمبرية قذافية وفيفرية ما بعد قذافية.

 عرف  المثال الأول باقتصاد لوكربي منذ التسعينات حين كانت تونس عبر منفذ رأس جدير الحدودي رئة التنفس لليبيا المحاصرة دوليا بشكل شامل، وحديقة خلفية تجارية واقتصادية وسياحية وصحية للشعب الليبي، أما  الثاني فيأتي أثناء انتفاضة الشعب الليبي على نظام العقيد الراحل  وإثرها بعد تدفق ما يزيد عن مليون ليبي إلى تونس فضلا عن مئات الآلاف من الأجانب العابرين نحو بلدانهم وفي الحالتين دفع الاقتصاد التونسي الثمن عدا ونقدا صعودا ونزولا رغم صبغة “النفط مقابل الغذاء” في المثال الأول والانتعاشة الاقتصادية التونسية العابرة عبر ما يعرف “بتجارة الخط” حينها حيث غطى رماد هذا النوع من التجارة القادمة من السوق الليبية لهب كل احتجاج شعبي في خارطة اجتماعية تمتد من المنطقة الحدودية ببنقردان مرورا  بالجم  نهاية بسوق المنصف باي الشهير ومن ذهيبة إلى الصخيرة فقفصة في معطى سوسيواقتصادي ثان وخط تماس “جنوبي شرقي وغربي” كان يخبأ وقتها هدوء اجتماعيا حذرا.

سياسة ملء الفراغات في الملف الليبي

لم يكن فتح الحدود البرية مع الجارة الليبية تزامنا مع نهاية الفصل الأول من المشاورات الليبية وفي ذروة جائحة كورونا حسب توصيفات العلاقات المصلحية بين الدول قطعة حلوى تقدم لطفل صغير لينعم بها بل هو هدية ينتظر مقدمها من أهل هذا الطفل  قطعا من الحلوى الألذ لطفلهم في أول فرصة،  وفي الحالة التونسية الليبية هو أن تجد تونس الغائبة عن المشهد الليبي مثلث تحرك سياسي وتجاري واقتصادي واستثماري في مكعبات السوق  الليبية التي يتسابق لترتيبها لاعبون إقليميون ودوليون كل حسب الأوراق التي يمتلكها  بل لم يجانب رئيس الحكومة هشام المشيشي الصواب حين اعتبر في تصريح صحفي من رأس جدير أن هذا المعبر شريان حياتي فكل حركة عبور منه وإليه تعني نقاطا كثيرة في العداد الاقتصادي التونسي.

أعاد الحوار الليبي، وإن لم تكتمل فصوله، تونس أيضا إلى رقعة الموجودين في خارطة الأزمة وذلك في الحد الأدنى بعد أن ملأت قبل انطلاقته بمدة “الفراغ الديبلوماسي” الذي كان سائدا في طرابلس بتسمية سفير بعد ست سنوات من الغياب وتأكيد رأس السلطة في كلمته أمام المشاركين أن تونس لن تكون جهة خلفية لأي طرف وبالتالي تحاول تونس، وإن بتأخير كبير، تدارك “سقطة التغييب” من مؤتمر برلين ومخرجاته وتركها مساحات فارغة أمام فاعلين آخرين في الملف الليبي والحال أن كل قوانين التاريخ والجغرافيا وقواعد الجوار تجعلها منطقيا طرفا أساسيا في المعادلة.

تتكلم السياسة جيدا حين يكتمل معها حضور الاقتصاد فليبيا ظلت في كل الأوقات الشريك الاقتصادي الأول لتونس في منطقة المغرب العربي والخامس دوليا بعد فرنسا وإيطاليا وألمانيا وإسبانيا استنادا إلى تقارير البنك الدولي، وإذا اعتبرنا أن 1300 شركة تونسية في قطاعات مختلفة لحقتها أضرار مباشرة وغير مباشرة من الأزمة الليبية فإن بوادر أي حل ستعطيها أجنحة للطيران من جديد وما يعني ذلك من مردودية مالية وتشغيلية.

تدفع تقديرات اقتصادية محلية ودولية  أخرى بالتأكيد أن مساهمة تونس في إعادة إعمار ليبيا ستزيد تونس نقطة نمو كاملة حيث تمتلك في مجالي البناء والأشغال العامة كفاءات بشرية مؤهلة وعمالة كبيرة ستدفع بلا شك من مؤشرات التشغيل والتنمية لكن سباق الإعمار في ليبيا بعد سكوت البنادق يجب أن  تستعد له تونس بأشكال تصنيعية وتجارية ولوجيستية وبشرية مهمة تمهيدا لتحديد نصيبها من “كعكة الإعمار الليبية المفتوحة” والتي تقدرها أرقام ب100 مليار دولار في حجمها الأدنى وبضعفها في الحجم الأقصى، ويصف اقتصاديون سباق الإعمار في ليبيا بسباق المائة متر السريع فمن يحقق انطلاقته أولا وبنسق قوي يصل حتما أولا ومن تأخر عن ركبه  منذ البداية لا أمل في الفوز.

إن توصل الفرقاء السياسيين الليبيين إلى بسط الأمن وإلقاء الأذرع العسكرية التابعة لهم والميليشيات المسلحة والمرتزقة المنتصبين للحساب الخاص لأسلحتهم وإعادة “احتكار العنف” للدولة الليبية الواحدة والموحدة سينقص عن تونس – ولو بعد أمد متوسط لطبيعة هذه الأشياء- وزر حمل أمني هو الأشد على حدودها الممتدة ل500 كيلومتر  مع ليبيا فالبلد  أصبح منذ أحد عشر وألفين، وبفعل الانفلات الأمني، خاصرة رخوة في النسيج الأمني التونسي أمام تنامي نشاط الجماعات الإرهابية وشبكات التهريب والاتجار بالبشر ما يجعل من معادلة الحل الممتد جغرافيا من طرابلس نحو برقة ففزان في حال الوصول إليها من قبل  ب” لفبرايريين (تاريخ انطلاقة الثورة) والسبتمبريين (تاريخ أتباع القذافي) والديسمبريين (تاريخ الملكية) غيمتها عامة على ليبيا الموحدة وبعض من خراج أمطارها في تونس.

Skip to content