حوارات

حكيم بن حمودة للجريدة المدنية «التيار الشعبوي البارز في الانتخابات الأخيرة هو تيار مغامر ومنهجه محفوف بالمخاطر»

حكيم حمودة
حكيم بن حمودة
حاتم بوكسرة
حاتم بوكسرة
صحفي

يمثل حكيم بن حمودة أحد الاقتصاديين التونسيين البارين لا من حيث المناصب التي تقلدها في تونس أو في الهيئات المالية الدولية فحسب وانما من حيث كتاباته العلمية في المجالين الاقتصادي والسياسي الشيء الذي أعطى لنظرته بعدا نقديا وهو ما أهله ليكون أحد المرشحين لتشكيل الحكومة في جانفي 2020، وهو نفس الشهر الذي شهد اصدار كتابه الجديد «ديمقراطية اجتماعية أم ثورة محافظة؟» . 

ويقدم هذا الكتاب قراءة في نتائج الانتخابات الأخيرة وتحليلا للمشهد السياسي المتشكل إثرها أضافة إلى التطورات السياسية والاقتصادية الأخيرة في تونس والتي شكلت موضع حوارنا معه.

كيف تقدم كتابك الصادر حديثا  «ديمقراطية اجتماعية أم ثورة محافظة؟» إلى القارئ؟

هذا الكتاب هو نتيجة لمتابعة الفترة الانتخابية التي بدأت بعد رحيل الرئيس السابق الباجي  وانطلاق الماراطون الانتخابي منذ نهاية شهر جويلية  لتتواصل إلى غاية نهاية شهر أكتوبر، مع تقديم  قراءة لنتائج الانتخابات عبر قراءة دقيقة في الأرقام وتحليل لتطور الأربعة  قوى سياسية التي لعبت دورا كبيرا في هيكلة المجال السياسي في بلادنا منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر.

في علاقة بنتائج الانتخابات الأخيرة وصفت الوضع الحالي ب»فوضى الحواس» نسبة للكاتب النمساوي Stegar ZWEIG، المتبني لقيم الحداثة والمساند للنظام الليبيرالي أوائل القرن العشرين، رغم تخوفه من آثار هذا النظام على الواقع الاوروبي آنذاك، فما مدى صحة هذا التشبيه وتطابقه مع الواقع التونسي والمنظومة السياسية الحالية؟

إن أزمة النظام الديمقراطي لا تقتصر فقط على بلادنا فالنظام الديمقراطي منذ أربعة أو خمسة سنوات شهد أزمة عامة في أغلب البلدان الرأسمالية لعدة أسباب اقتصادية وسياسية.

وتتمثل أبرز الأسباب الاقتصادية في عدم قدرة هذا النظام على الخروج من الأزمة المالية العالمية التي عرفها في 2008 و2009 وهي أزمة كبيرة تم إيجاد حلول لها لكنها لم تمكّن النظام الرأسمالي من خلق دينامكية استثمار ودينامكية تنمية جديدتين. أما السبب الاقتصادي الثاني فيتمثل في مسألة التفاوت الاجتماعي واتساع الفوارق الاجتماعية، وهي قضية محورية، إضافة إلى تهميش الطبقات الشعبية وتقهقر الطبقة الوسطى وغيرها، ونتج عنها فقدان الثقة في النخب التقليدية وتنامي الظاهرة الشعبوية التي تغذت من هذه الازمات كما تغذت من غياب الأمل عند الطبقات الوسطى والطبقات الشعبية، ودافعت على مبدأ خيانة النخب الاقتصادية والسياسية لها وقد تأثرت بلادنا كغيرها بهذا الوضع العالمي الذي نعيشه بسبب انفتاحها على مختلف التيارات والموجات السياسية المؤثرة في العالم.

ولكن السبب الأساسي بالنسبة لي، والذي يجب علينا فهمه واستيعابه، هو المسألة السياسية ممثلة في أزمة القوى السياسية التقليدية في تونس، وهذه الفوضى في الحواس هي نتيجة الأزمة التي تعيشها هذه القوى السياسية التونسية وعدم قدرتها على بناء مشروع جديد.

وكنت قد ذكرت  هذه القوى في الكتاب وهي أربعة قوى سياسية، أولاها القوة الوسطية الحداثية التي هيمنت على الحياة السياسية منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر، أي منذ الحركة الإصلاحية فالحركة الوطنية إلى أن أخذت بدواليب الحكم في دولة الاستقلال. وارتكز برنامج هذه القوة على أربعة محاور أساسية وهي مدنية الدولة، وهو مبدأ هام بالنسبة لها، ويعود إلى التأثر بالتطورات التي شهدتها أوروبا منذ الثورة الصناعية وعصر الأنوار، حيث سعت هذه القوة إلى بناء مؤسسات مدنية للحكم. أما المحور الثاني فهو الجانب الاقتصادي وذلك عبر الخروج من الاقتصاد التقليدي ودخول مجال  الصناعة كمحرك أساسي للدورة الاقتصادية الشيء الذي تضمنه برنامج دولة الاستقلال.

المحور الثالث، هو المسالة الاجتماعية المتمثلة في تحديث أدوات التضامن الاجتماعي والخروج من الأدوات التقليدية كالعشائرية والقبلية وجعل التضامن الاجتماعي مسألة تهم الدولة وتهم المؤسسات الحديثة.  وارتكز المحور الرابع على الحريات خاصة بالنسبة إلى المرأة، ومسألة المساواة من خلال مجلة الأحوال الشخصية.
لكن هذه القوة عرفت أزمات كبيرة منذ نهاية الثمانينات، وخاصة في التسعينات، على عدة مستويات أولها المستوى السياسي عبر ظهور أزمة سياسية خانقة بحكم اقتران هذا المشروع بالاستبداد وارتباطه بمفهوم الدولة القوية المتسلطة. وثانيها المستوى الاقتصادي الذي عرف صعوبات كبيرة وعجزا على المرور إلى نمط تنمية جديد، وأصبح نمط التنمية الاقتصادي القديم متآكلا، خاصة مع بداية الثمانينات واندلاع الأزمة الاقتصادية لسنة 1986. أما على المستوى الاجتماعي فقد اهترأت المؤسسات التي لعبت دورا كبيرا في التضامن الاجتماعي كالصناديق الاجتماعية وتدهورت وضعية القطاعات الأساسية كالصحة والتعليم ليقترن هذا كله بمسألة الحريات العامة التي وقع التراجع فيها منذ تأسيس دولة الاستقلال.

القوة الثانية هي القوة اليسارية، والتي تعود نشأتها الى بداية القرن العشرين مع بدايات الحزب الشيوعي التونسي والحركة اليسارية في تونس، والتي أصبحت بعد ثورة «ماي 68» تسمى باليسار الجديد مع ظهور حركة العامل التونسي وافاق وغيرها من القوى اليسارية بمختلف تلويناتها، والتي أصبحت تعاني منذ سقوط جدار برلين سنة 1989 من إشكالية بناء بديل اقتصادي واجتماعي. فمشروعها الأساسي كان معتمدا على الدور المركزي للدولة بشكل محوري. ومع تعقّد الاقتصاد ومفاهيمه لم تعد هذه القوى قادرة على بناء نمط جديد واقتصرت على مناهضة العولمة كما أضحى خطابها مركزا على  الرفض فقط.

أما القوة السياسية الثالثة وهي الإسلام السياسي، فقد كانت بداياتها مع الحركات الاسلامية التقليدية، أي منذ مشايخ الزيتونة وكل القوى والنخب التقليدية التي تطورت إلى حركة دعوية في السبعينات حول مجلة المعرفة لتصبح  تيارا سياسيا مع حركة الاتجاه الإسلامي ثم حركة النهضة فيما بعد. وقد قدمت هذه القوة مشروع الرجوع إلى العصر الذهبي ودولة الخلافة كحل لأزمة الدولة الديمقراطية وبديلا لدولة الحداثة، إلا أن هذا المشروع قد عرف أزمة متمثلة أساسا في كيفية الدخول في مشروع الدولة الديمقراطية والمدنية كقوة سياسية محافظة.

المشروع الرابع وهو القوى الشعبوية، وهي اتجاه عام نجده في الكثير من الأحزاب ويعبر على مخاوف من المستقبل حيث تتجلى مواقفه في محاولة المحافظة على الواقع الموجود وعدم المغامرة بفتح آفاق جديدة ومشاريع جديدة.

هل يمثل الحكم المحلي إحدى الحلول للخروج من الأزمة الحالية ؟

إن الحكم المحلي واللامركزية هي مسائل أساسية وهامة وقد أتى المشروع الديمقراطي في تونس بآفاق كبيرة عبر دستور 2014 وبآليات كالمجالس الجهوية والأقاليم. لكن يجب الأخذ بعين الاعتبار التوازن بين الجهات والتنسيق فيما بينها مع الأخذ بخصوصية كل جهة وهو الدور الذي على الدولة أن تقوم به على الصعيد المركزي الذي يحدد هذه الخيارات عبر مختلف السلطات والمؤسسات وعبر مجلس النواب أيضا.

فلابد أن يؤخذ الصوت المحلي والجهوي بعين الاعتبار، ولكن في إطار عام وعبر تأطير مركزي  تتفق عليه الأحزاب الفائزة في مجلس النواب الذي سيقرر التوجهات الكبرى للمشاريع التنموية. ذلك أن المشاريع تناقش على المستوى المحلي  ولكن حل الصعوبات المتعلقة بها وخاصة الجانب التمويلي لا يكون إلا مركزيا. الأمر الذي يتطلب الكثير من المجهودات على مستوى التنسيق، وعملا هاما باعتبار كل ما سبق ذكره.

وعلى السلطات وممثلي الشعب وكل المؤسسات الرسمية أن تنصت وتهتم لمطامح ومطالب قطاعات عريضة من الشعب التونسي، على أن تبوب هذه المطالب في برنامج تنموي وتوجهات وخيارات اقتصادية تخضع لاعتبارات عديدة منها قدرتنا على التمويل وقدرتنا على التنسيق بين مختلف الجهات وبالأساس إلى قدرتنا على انجاز هذه المشاريع.

أنا أؤكد مرة أخرى على ضرورة أن لا تكون الخيارات التنموية الكبرى والمشاريع الاقتصادية الكبيرة مسقطة بطريقة فوقية وبيروقراطية محضة. وأنا مع ضرورة الحديث والنقاش مع المنتفعين بهذه المشاريع ولكن مع التنسيق بشكل مركزي فالعيش في المجموعة الوطنية يقتضي توزيع العمل بين الجهات حسب خصوصياتها. فعلى أهمية الحديث عن الحكم المحلي فإن هذه الرؤى يجب تكون موحدة في برنامج وطني عبر سياسة عامة وتوجهات كبرى.

هل سيحدث الحكم المحلي تغييرا كبيرا على مستوى المنظومة السياسية؟

فعلا سيحدث تغيير كبير، فالأنظمة الاستبدادية والتسلطية القوية تعتمد على مركزية الدولة عكس الرؤية المجالسية والتي ترى في المجالس السلطة الأكبر. وأنا أرى أنه يجب إيجاد توافق بين الحكم المحلي ومساهمته في التنمية وبين الرؤية المركزية، فمساهمة الحكم المحلي في التنمية تكاد تكون منعدمة الآن ما عدى في بعض البلديات التي تقوم ببعض التدخلات على المنطقة البلدية التابعة لها بالنظر ولكنه لا يمكنها أن تربط المنطقة بطريق سيارة على سبيل المثال.

لذلك في المستقبل، يجب على  البناء السياسي الجديد أن يوفق بين الرؤية الفوقية الضرورية لرسم الاستراتيجيات والرؤية التشاركية على المستوى المحلي من أجل الخروج من هذا التضاد بين الرؤيتين.

وهناك أمور عملية يمكنها المساهمة في هذا التوجه مثل الاقتصاد الاجتماعي والتضامني، الذي انحصر في تجربة واحات جمنة وبعض التجارب الأخرى، وذلك عبر المصادقة على مشروع الاقتصاد الاجتماعي والتضامني المودع بمجلس نواب الشعب، واحداث وزارة خاصة بهذا الاقتصاد والتي من مهامها توفير التمويل والخبرات اللازمة. فتجربة جمنة تحوي عديد الدروس وهناك عمل كبير عبر تفعيل كل ما جاء به دستور 2014، وأيضا إرساء منظومة الاقتصاد الاجتماعي والتضامني مما سيعطي للنماذج المثيلة لتجربة جمنة تنظيما أحسن ومجالات تدخل وامتيازات ذات فعالية أكبر أضافة إلى تمويل هذه المشاريع ودعمها من قبل البنوك.

عندما كنت وزير مالية في حكومة المهدي جمعة كيف رأيت نظرة الدولة إلى الاقتصاد الاجتماعي والتضامني؟

اقتصرت نظرة الدولة لهذا الاقتصاد على المداخيل المتأتية من تأجير الأراضي كضيعات جمنة بشكل هو أقرب للعلاقة بين «مالك ومؤجر» منه إلى دور منوط بعهدة الدولة وهو تعاط مقصر وتقليدي تجاوزه الزمن، الشيء الذي عكسته أزمة واحات جمنة الحالية نتيجة للتصور السائد في مؤسسات الدولة في التعامل مع الاقتصاد الاجتماعي والتضامني وغيره من المجالات التي تقتضي تنزيل وتفعيل التوجهات الديمقراطية الكبرى التي جاء بها دستور 2014 على مستوى تنظيم الحكم المحلي والجهوي.

قلت في كتابك إن الموجة الشعبوية، المنادية بتخوين النخب التقليدية والقطع معها من خلال الدعوة إلى الاتصال المباشر بالجماهير دون المرور بالمؤسسات التقليدية للحكم، قد برزت في الانتخابات الأخيرة فما هو تأثيرها على الديمقراطية المعروفة (عبر المؤسسات التقليدية للحكم وإدارة الشأن العام) وأي تغيير ستطرحه في علاقة بإدارة الشأن العام؟

تظهر القوى الشعبوية في فترة الأزمات وفي فترات تزايد الخوف من الحاضر وخاصة الخوف من المستقبل وغياب المشاريع السياسية الديمقراطية والاجتماعية، وديدنها في ذلك خيانة النخب للجماهير وبالتالي رفض كل المؤسسات الوسطية كالأحزاب والمنظمات الجماهيرية والمرور مباشرة إلى الجماهير. لكن يبقى منهجها مغامرا حسب رأيي وانتهى في بعض الأحيان إلى تجارب تسلطية واستبدادية  كما حدث على سبيل المثال في أوروبا مع نهاية الحرب العالمية الأولى عبر صعود الأنظمة الفاشية والنازية التي كانت في بدايتها حركات شعبوية. لذلك فإن الحلول الحقيقية لهذه الازمات لا تكمن في هذا النوع من المغامرات وفي رفض الآخر المختلف ورفض المهاجر وغيرها من العديد من المظاهر وإنما يبقى الحل الوحيد حسب رأيي هو بناء عقد ديمقراطي واجتماعي  جديد.

في الكتاب توصيف لما حدث في هذه الانتخابات على أنه ثورة داخل الثورة استنادا على مصطلح المفكر الفرنسي Régis Debray عبر تيارات وأشخاص يسعون إلى إعادة نقاوة المسار الثوري، فهل سيستطيعون تحقيق ذلك؟

عندما ذكرت هذا التوجه فإني لا أقصد شخصيات بذاتها أو أحزابا بعينها بل هي توجهات قد تكون موجودة حتى داخل أحزاب تقدمية أو يسارية، وهي تعكس تعبيرة عن الخوف من المستقبل وتبقى الحلول المطروحة لديها هي الانغلاق ورفض الآخر وعدم مواجهة التحديات الحقيقية وإيجاد حلول لها لا يكون إلا عبر إعادة انتاج القديم. وهذه الظاهرة ليست وليدة الثورة التونسية. وقد استعملت  مصطلح «ريجيس دوبراي»  الذي عرف  حدوث الثورة داخل الثورة عند تراجع الثورات عن تحقيق مطالبها التي اندلعت لأجلها أو عدم نجاحها في تحقيق أغلبها.

ففي كوبا على سبيل المثال كان زعيما الثورة «فيدال كاسترو» و»ارنستو غيفارا» في نقاشاتهما يعتبران أن الأحزاب الشيوعية أو الحركات الثورية التقليدية غير قادرة على القيام بثورات نظرا لانتهاجها منهجا ديمقراطيا في مواجهة الأنظمة الاستبدادية التي لا ترد إلا بالعنف والاستبداد في مواجهة الأزمات الاجتماعية والحراك الجماهيري.

لذلك كان القيام بثورة داخل الثورة بالنسبة إليهما يمر عبر الكفاح المسلح ضد الانظمة والمرور إلى «العنف الثوري» من أجل قلب هذه الأنظمة. لكن هذا التوجه أظهر عبر التاريخ حدوده. فالذي نظّر لمثل هذا المصطلح وهو غيفارا انتهى وحيدا في بوليفيا ليقتل من طرف المخابرات الأمريكية وهذا لا يمنع أن كل الثورات تشهد  توجهات تدعو إلى العودة  نحو النقاوة الثورية وأن الرد على أزمة التحولات التي تعيشها الثورات لا يكون إلا بـ»الثورة داخل الثورة».

وفي تونس فإن الثورة داخل الثورة لا يمكن أن تكون إلا بمواصلة تدعيم المسألة الديمقراطية وحل المسألة الاجتماعية بطريقة جذرية وبحلول جديدة تفتح آمالا وأحلاما وآفاقا جديدة للحركة الاجتماعية.

هل تقدر الأطراف السياسية  الممثلة للموجة الشعبوية فرض الشعبوية الاقتصادية أيضا؟

قمت بدراسات حول الشعبوية على المستوى الاقتصادي، والجهة الوحيدة التي عرفت أهم هذه التجارب في العالم هي أمريكا اللاتينية، وهي تنطلق في أولها من حس ايجابي عبر الرغبة في تحقيق كل مطالب الشعب وتلبية رغبات الجماهير وبذلك فهي تنطلق في بعث استثمارات كبرى وتوزيع أكبر للزيادات في الدعم والأجور لتنتهي في أغلبها إلى أزمات خانقة من النواحي الاقتصادية والاجتماعية وإلى مديونية ثقيلة تعيد صندوق النقد والبنك الدولي إلى هذه البلدان.

وفي تونس فإن المخاوف تجتاحني عند قراءة بعض الوعود الموجودة في برامج بعض الأحزاب التونسية. فعلى سبيل المثال أجد في إحدى البرامج مواصلة منظومة الدعم بشكل لا مشروط ودون مراجعة للمنظومة الحالية وهو في الحقيقة وعد انتخابي غير عقلاني  فنحن الآن في أمس الحاجة إلى مراجعة هذه المنظومة وتوجيهها إلى مستحقيها، الأمر الذي بقي حبرا على ورق.

كما تحتوي إحدى النقاط في البرنامج الانتخابي لبعض الاحزاب رفضا للتداين وهو ما لن تكون أي حكومة قادرة على تحقيقه فيمكن مثلا التقليص من هذه المديونية كتقليص اليابان التي توجهت إلى المديونية الداخلية، لكن تحقيق ذلك في تونس يعني بالضرورة إمكانيات أقل في التمويل بالنسبة للقطاع الخاص. ولكن من الضروري أن نفهم الفرق بين حذف المديونية وبين محاولة التقليص فيها وعقلنتها والحد منها من أجل المحافظة على التوازنات الاقتصادية الكبرى.

فيما يتمثل الحل لهذه الازمة في تونس؟

موقفي واضح، فأمام أهمية التحديات وصعوبتها يجب إيجاد تحالف واسع وهام وكبير لكل القوى الوطنية من أجل إعادة بناء وحدة قادرة على اخراجنا من هذه اللحظة على قاعدة برنامج يتمثل في إعادة بناء عقد اجتماعي جديد بتدعيم التحول الديمقراطي وتدعيم المشاركة المحلية وتدعيم الاقتصاد الاجتماعي والتضامني، وعبر بناء نمط تنمية جديد يخرج بنا من نمط التنمية الذي بنياناه في السبعينات، والمرتكز أساسا على قوة العمل الرخيصة، والدخول في نمط اقتصادي جديد أسميته «الاقتصاد 4.0 « الذي يعتمد على الصناعات الذكية ولنا فيه بعض النواتات الناجحة.

أما على المستوى الاجتماعي فهو يعتمد على إعادة تهيئة القطاعات الأساسية خاصة قطاعي الصحة والتعليم. وكنت قد ناديت وما زلت أنادي ببرنامج على ثلاثة سنوات من أجل إعادة هيكلة هاذين القطاعين. واقترحت تخصيص مليار دينار سنويا لكل قطاع من ميزانية الدولة المخصصة للاستثمار من أجل اعادة تهيئتهما، مع إعادة البريق إلى مؤسسات التضامن الاجتماعي التابعة للدولة، وبالأخص الاتحاد الوطني للتضامن الاجتماعي، والتي لعبت دورا كبيرا في الستينات والسبعينات، وضخ دماء جديدة فيها وإعادة تهيئتها وتخصيص 500 مليون دينار سنويا لهذه المؤسسة. فالتضامن الاجتماعي يعود بالأساس إلى الدولة، وإعادة النظر في هذا الدور يقتضي ضرورة الاعتناء بالمسائل الاجتماعية وتهيئة قطاعي الصحة والتعليم بشكل يعيد ثقة المواطن في الدولة وفي مؤسساتها.

فيما يتمثل دور المنظمات الاجتماعية كالاتحاد العام التونسي للشغل في مثل هذه الازمات؟

المنظمات الاجتماعية لها أدوار أخرى في فترات الازمات السياسية والاجتماعية تختلف عن دورها التقليدي، أي الدفاع عن منظوريها، ففي الازمات يصبح دورها الأكبر هو المحافظة على وحدة وتماسك المجتمع في ظل تراجع ووهن الدولة كي تصبح حاضنة للجماهير وسدا يحول دون انهيار المجتمع.

ففي أوروبا، وخاصة فرنسا، ساعدت هذه المنظمات في الحيلولة دون انهيار المجتمعات بفضل نجاحها في بناء قاعدة جماهيرية كبيرة عبر منخرطيها وعبر تعزيز وحدتهم إضافة إلى دورها المحوري في إعادة بناء مشروع مجتمعي وبناء ما أسميه بالعقد الاجتماعي وهو ما يجعل دورها التقليدي يتراجع في فترة الأزمات من أجل الحفاظ على وحدة المجتمع وحماية تماسكه وبناء عقد اجتماعي جديد.

فقد أصبح الدور الوطني للاتحاد العام التونسي للشغل، وبقية المنظمات المكونة للرباعي الراعي للحوار، أهم من أدوارها التقليدية الشيء الذي حاز اعترافا عالميا من خلال جائزة نوبل للسلام التي منحت لهم. كما أن هذه المنظمات الوطنية كاتحاد الشغل والأعراف واتحاد الفلاحين هي قوة اقتراح اقتصادي واجتماعي على الصعيد الوطني تلتقي حول اقتراحاتها الحكومات كي تناقشها وتأخذها بعين الاعتبار.

إذا كان الصراع الحالي في الرؤى الاقتصادية للفاعلين السياسيين التونسيين منحصرا بين النيوليبراليين والكينزيين (نسبة لجون ماينار كينز)، أي المناديين بالتدخل العميق للدولة في الاقتصاد، فهل يوجد خيار ثالث؟

الحل الثالث يمثل رؤيتي التي تنص على اعتماد الديمقراطية الاشتراكية وهو نظام حكم اقتصادي واجتماعي يكون فيه دور الدولة  هاما من خلال ضبط التوجهات والخيارات الكبرى، كألمانيا التي ضبطت مؤخرا برنامج سياسات صناعية بالتنسيق مع القطاع الخاص، فالتوجهات الكبرى تضبطها الدولة وتضع المؤسسات على ذمتها بالتنسيق مع القطاع الخاص ونحن في تونس نحتاج إلى تحديد القطاعات الاستراتيجية التي لنا فيها ميزة تنافسية من أجل إعادة دفع الاستثمار وإعادة دفع التنمية  الصناعية في بلادنا. 

قلت أيضا إن الإجابة الحقيقية على كل ما يحدث تكمن في صياغة حلم جديد وكبير فماهي أهم ركائز هذا الحلم؟

للحلم أربعة ركائز أساسية وهي تمتين الديمقراطية عبر تدعيمها من خلال بناء المؤسسات الدستورية التي لم تستكمل بعد. ودعم الحكم المحلي والاقتصاد الاجتماعي والتضامني. وتمثل المسالة الاقتصادية ركيزة ثانية وذلك ببناء نمط تنمية جديد يعتمد على التوازن بين السوق الداخلية والخارجية وعلى التوازن بين المؤسسات العمومية والقطاع الخاص والاقتصاد التضامني. أما المسألة الاجتماعية، وكما ذكرت فإنه من الضروري تقوية الدور الاجتماعي للدولة. وتشكل الحريات الركيزة الرابعة، وذلك بالمرور إلى حريات جديدة تهم بالأساس الحريات الفردية وتدعيم المساواة.

باعتبارك من قدماء الجامعة التونسية للسينمائيين الهواة، ومتابع للساحة الفنية والسينمائية خاصة، ما هو دور الفن حسب رأيك في صياغة عقد اجتماعي جديد؟

إن هامش الحرية الذي نتمتع به كان وراء وجود طفرة في الإنتاج الفني والابداعي عموما، وفي ظهور وانتشار تعبيرات فنية جديدة. كما أن بلادنا استطاعت عبر مختلف المدارس الفنية تكوين عديد الفنيين والتقنيين، في السينما على سبيل المثال، ورغم ذلك فإن الأفلام تصور في بلدان أخرى نظرا لعدم وجود سياسة تشجع شركات الإنتاج وتشجع المنتجين الأجانب على القدوم. وانا اعتقد بوجود مجال حقيقي لخلق صناعة ثقافية في بلادنا مع بعض النواتات الموجودة فعلا. إلا أن هذا يتطلب عملا جديا من طرف الدولة ووزارة الثقافة من أجل خلق المؤسسات الضرورية لتحقيق ذلك وإعطاء التحفيزات اللازمة للعاملين في القطاع الفني. وكنت قد طورت رؤية لتدعيم الصناعات الثقافية في بلادنا، فهي تمثل عنصرا هام في العقد الاجتماعي الجديد مثلما حصل في العقد الاجتماعي لدولة الاستقلال، الذي كان مساهما في بناء ثقافة وطنية وسينما وطنية عبر مؤسسات كالساتباك وغيرها، ومثل هذه السياسات قد عبرت عن آمالنا وطموحاتنا في تلك الفترة. فلا يمكن لبلادنا بناء عقد اجتماعي جديد دون بناء عقد ثقافي ودون بناء مشروع ثقافي.

Skip to content