مقالات

الحرقة والحراقة ورثة أوروبية قديمة

المختار المختاري

منذ أزمنة سحيقة مثلت تونس لدى عوام الأوربيين ومنهم حتى البورجوازية الصغيرة بعد تكونها واستقلال رأس مالها النسبي عن الإقطاع بعد الثورات الصناعية وعلى رأسها الثورة الفرنسيّة. وتخصيصا منذ خواتيم 1800 قبيل وأثناء وعلى إثر التوقف المشكوك للقتال في الحرب العالميّة الأولى تدفّق بشكل كبير مقارنة مع تعداد سكان الإيالة التونسية عدد غفير من المهاجرين أغلبهم سريين بمعنى اليوم في لسان الشارع التونسي (حارقين) من شواطئ أوربا المطلة على البحر المتوسط وحتى من غيرها كالبريطانيين مثلا.

وحتى يكون لكلامنا معنى علمي نسوق لكم إحصاء قام به الدكتور إبراهيم الشريقي سنة 1953 ضمن دراسة متكاملة بمقاييس عصرها وأيامها العلميّة. وهو العضو بالمجمع العلمي الأسيوي أخصّائي شؤون البلاد العربية والإسلاميّة الاجتماعية والاقتصادية في ذلكم التاريخ. هذه الإحصائيّة التي تبرز الكمّ الهائل من المهاجرين وأغلبهم (حارقون) اللذين تكدسوا على تراب تونس.

*الفرنسيون: 165.000 ألف نسمة / *الإيطاليون: 76.000 ألف نسمة / *مالطيون: 6.500 ألف نسمة / *يهود منحدرون من أصول مختلطة منها التونسيّة: 70.000 ألف نسمة / *الأصليون من سكان البلاد: 3180.000 ألف نسمة من الغالبية الإسلاميّة.

ليكون التعداد العام: ثلاثة ملايين ونصف المليون نسمة سنة 1953.

ولعبت هذه الجالية أدوار رئيسة في قدوم الاستعمار إلى تونس من خلال ما كدسته من التجارة والحرف التي جاءت بها ومعها ومنها ما لا يزال شاهدا على تلكم الأيام كمهنة (الروبا فيكيا = فريب اليوم) و(البلومبيه = لحام) وغيرها كثير ويحمل تسميات رغم تحريفها لتكون سهلة النطق في السن التونسيين الأصليين إلا أنها بقيت بدلالاتها الأصلية في اللغة الأصل إذا ما تمعننا نطقها الصحيح.

ولكن قدم مع هؤلاء العوام من الفقراء (الحارقين) من أوربا أيضا جمع من أصحاب رأس المال الصغير الذي من خلالها أسسوا شركاتهم ومصانع بسيطة تطورت بشكل سريع نظرا للإبهار الذي أخذ لبّ التونسيين الغير متعودين على تلك الخدمات والسلع وأيضا لتساوي الفقر بالفقر القادم حيث كان الجميع يسكن ويتفاعل ويختلط بشكل يجعلهم أكثر التصاقا مع سكان الحواضر وأهمها تونس العاصمة وسوسة وصفاقس وبنزرت. وبعض شواطئ الساحل والوطن القبلي.

ليكون لهم بعد تكاثر نزوحهم (حراقة أوربا) فعل وقوّة تدخّل سياسية وجنوا منه العديد من الفوائد والامتيازات المالية الاقتصادية المؤثرة حتى كان كما أسلفنا وجودهم أهمّ العناصر التي وجهت الاستعمار إلى تسريع تدخله العسكري واحتلال تونس.

هذا الاستعمار المباشر الذي دمّر بقدر ما بنا أسس المجتمع ليس فقط السياسية والربط العلمي من خلال التربية التي كرست نموذجه على أنه الرائد القويّ الذي لا يحتذي غيره الشيء الذي مس الشخصية التونسية في عمقها وهذه الأرضيّة كانت تقتصر على هذه الحواضر التي يتمركز فيها الاستعمار بينما بقي الريف والقرى في مأمن نسبي نظرا لقلّة التمدرس واقتصار أهلها على التعليم الزيتوني والكتاتيب التقليدية. وغالبيتهم من ذوي المهن الفلاحية التي تبعد الأبناء عن مقاعد الدراسة ليكونوا حطب الأرض.

لكن بعد ما يسمى استقلال الذي خلّف ورائه الاستعمار الاقتصادي الذي يربط اقتصاد تونس باقتصاد المستعمر ومن ثمة ما يسمى السوق العالمية بكامل أزماتها وتحولاتها وزلازلها التي كابدتها تونس الناشئة والتي في طريق النمو الطويل. حتى تكون ومن خلال المستعمر الذي خرج من الحرب العالمية الثانية مدمرا نمط الهجرة الطوعية في الظاهر لكن في باطنها دفع وإغراء لتستقطب ليس فقط اليد العاملة الرخيصة بل وحتى الدفعات الأولى من أصحاب الإبداعات الفكرية والعلمية. ليكونوا المثال الذي أسس لفكرة ومشهد وحلّ (الحرقة عبر كل الأزمنة بعد أن أغلقت أوربا التي رأت في المهاجرين من أوربا الشرقيّة القاعدة الأكثر إفادة بحكم نسبة التعلم العلمي والفكري والإبداعي الذي نشؤ عليه وفيه أضف إليه رخص التكلفة وقرب العقليات والتقاليد وقلة الطلبات والتوازي في الديانة الشيء الذي يبعد شبح أسلمه أوربا.

أضف إلى كلّ ذلك حالات الكبت السياسي والطبقيّة التي تتعمّق بشكل متسارع نتيجة ما سبق ذكره من العوامل الاقتصاديّة المترابطة مع المستعمر والتي كوارثها في تصاعد مستمرّ ومؤثّر حتى في الحياة الخاصة الأسريّة التي ليس فقط تفككت بل انقلبت معاييرها وشروطها الأخلاقية إلى درجة الانحلال الكلّي بنسبة كبيرة وخطيرة. مما أنتج تطورا على مستوى نوعيّة الجريمة أصبح أكثر من خطير خصوصا بعد انتفاضة 17/14 جانفي  التي رمت بثقلها وبأهمّ عنصر مستقبل البلاد إلى البحر وقوارب الموت حتى ملّ سمك وحوت البحر من لحم (التوانسة والتونسيات) الهاربين من جحيم ليس فقط البطالة والأفق المسدود بل وأيضا نمط العيش والأمان العام وليس بمفهوم الأمن العام.

طبعا هذا الغلق المبرمج والوضع الخاص ليس فقط بتونس بل بعموم الأقطار العربية والإفريقيّة التي لم تفكّ الارتباط. كان وسيظلّ الدافع الذي يرمي بشبابنا إلى ابتكار طرائق الهجرة السريّة بكل أشكالها لنصل إلى قوارب الموت اليوم. كحلّ حينيّ لا يزال عمليا لمن ينجوا من الموت. وهذه القوارب لا تحمل فقط الشباب الذي عجز عن إيجاد عمل من اللذين لم يكملوا دراستهم بل وأصحاب الشهائد من اللذين أقصوا بأشكال وتبريرات عديدة ليجدوا في الضفة الأخرى الأرضيّة لدمجهم واستغلال مهاراتهم  من خلال القاعدة التي يتعامل بها الأوربي وهي منح الفرص كاملة وتوفير أسباب النجاح قبل حتى بداية العمل. بينما في بلادنا وباقي البلدان التي بنت ورهنت مستقبلها في حلقة الوراثة والتوريث منها الإداري وحتى العلمي وحتى الأدبي فهذه العائلة عائلة علم وهذه متفقهة في الدين أو الأدب والأخرى في الطبّ وغيره من الإجرام زد عليه تفشي الرشوة والمحسوبية والوصاية واستغلال النفوذ للصالح الشخصي وغيره من المعلوم المكشوف والذي يمثّل أرضيّة وأساس الفساد الذي استشرى ويستشري أسرع من النار في الهشيم بعد عودة الآلة القديمة التي وجدت في العائلات السياسية غطاء ومنهاجا جديدا ثوريا لتركيز سلطانها بمفاهيم ما بعد انتفاضة 17/14 جانفي كلّ هذا دفع ويدفع وسيظلّ يدفع بشبابنا إلى خلق وابتكار واصطياد كل ممكن للظفر بحرقة الأحلام نحو بلاد الحريات (حريّة العمل، حريّة الحياة الشخصيّة، حريّة التفكير والابتكار، حريّة التحرك). جملة من الحريات التي بسببها وبسبب انعدامها في أوطانهم يقبل بالموت أو الظفر بها ولو لبعض عمر. يتمكن من خلاله من تأسيس بعض من أحلامه ويقبل بكل المآسي التي يعيشها والتمييز والاستعباد والاستغلال الذي سيلقاه فالواقع غير ما يروج له في سينما ومسلسلات هذه البلدان التي لا تقبل بغير عبد واستعباد مقنع ومغلف بزينة الديمو – قراطيّة.

وما يتصوره الحارق رفاهة مثل السيارة وبعض مظاهر القشرة التي يتصورها هي الحداثة لباسا كان أو بعض أوروات هي في الأصل وعند من قدم من أرضهم عائدا بها في نزهة استعراضيّة بعد تحصيله أوراق الإقامة الظرفيّة زمنيا هي في الأصل ضروريات العصر ولم تعد كماليات لكنها مؤثرة لدى فاقدها لذلك هو يحمّس ويؤثر سلبا حيث يقوم بإغراء من في نفسه بعض حلم ليكون فأر المصيدة القادم.

Skip to content