مقالات

المعركة ضد الكورونا، العالم على صفيح ساخن!!

آمال الشاهد
صحفية

يحبس العالم أنفاسه منذ أسابيع بسبب عدو داهم هاجم البشرية وجميع شعوبها تقريبا وانتشر بشكل مرعب وغير مفهوم في سرعة قياسية، عدو قاتل ومتحول وعابر لجميع الحدود ولكنه لا يرى وهو فيروس الكورونا الذي ينتقل بالعدوى بين الأشخاص ويسبب أعراضا عديدة تصل إلى ضيق التنفس والاختناق وإلحاق ضرر غير قابل للتدارك بالرئتين خصوصا لمن هم في سن متقدمة أو من يعانون من أمراض مزمنة وخطيرة.

وصل هذا الوباء الكوني منذ فترة إلى تونس التي لم تبق في منأى من شره وخطره على غرار بلدان العالم الأخرى وهو ينتشر اليوم بشكل محير ومتصاعد ينتظر الجميع كيف ستقع مجابهته والحد من سرعة انتشاره وإلحاق الهزيمة به بأخف الأضرار.

الكورونا وباء انطلق من الصين ويقال أن مصدره الأول كان حيوان خفاش ثم انتقل في مرحلة ثانية عبر حيوان آخر اسمه البانقولا في أواخر ديسمبر من السنة الفارطة، أصيب في البداية فرد بهذا المرض ونقل العدوى لعائلته المقربة ثم أخذ المرض في الانتشار، خصوصا وسط أحد الأسواق الكبرى الذي تباع فيه كل أنواع الحيوانات بمدينة ووهان.

كان من الممكن التعامل مع هذه الظاهرة التي حصلت في ووهان بحذر وبحكمة أكبر وبسرعة كبيرة في التوقي منه، لكن للأسف كان التصرف عكس ذلك، إذ بقيت عشرات السفرات الجوية متواصلة بين الصين وعدد من بلدان أوروبا وبالخصوص مع فرنسا، مما أحدث الكارثة، كما يؤكد ذلك الدكتور عصام بن عياد، وهو طبيب تونسي مختص في التبنيج والإنعاش في إحدى أكبر المستشفيات بباريس.

تعرض الطبيب الصيني الذي كان يتعامل منذ البداية مع حالات المصابين بالعدوى، لمضايقات عديدة من السلط الصينية، حينما بدأ ينبه منذ 30  ديسمبر  لخطورة هذا المرض ولقدرته على الفتك بالآلاف من الضحايا، وقد نشر ذلك على وسيلة للتواصل الاجتماعي،  و وقع إجباره على التراجع وعدم الحديث علنا عن ذلك، حتى لا يقع نشر الهلع بين السكان. ثم أصيب هذا الطبيب و هو لي وينليانغ بالمرض هو بدوره وتوفي بعد ذلك في بداية شهر فيفري الفارط. وعادت السلطات الصينية فيما بعد، في بداية شهر جانفي من السنة الحالية،  للاعتذار له وتكريمه بعدما وقفت على فداحة الأمر وما سببه من كارثة إنسانية وصحية.

فردة الفعل الأولى تكون دائما محاولة تبسيط المرض وحتى الاستخفاف به وبتبعاته، مما يعطي للفيروس فرصة للانتشار ولعدوى عدد كبير من الاشخاص، رغم أن الفترة الفاصلة بين موقف الطبيب الصيني واقتناع السلط الصينية بصدق أقواله لم تكن فترة طويلة، بل هي أيام معدودة.

ورغم عودة الوعي بشكل سريع للسلط التي وضعت كامل منطقة ووهان في عزل تام وفي حجر صحي صارم ونهائي لجميع السكان، (تعد مدينة ووهان 11 مليون نسمة)، ورغم إنشائها لمستشفيين اثنين في مدة لا تتجاوز عشرة أيام، إلا أن انتشار المرض وعدد المصابين به وعدد الضحايا الذين ماتوا بسببه كان مرتفعا جدا وصادما.

كان بالإمكان فعليا مجابهة المرض بشكل فعال ومنعه من الانتشار بهذا الشكل حتى أصبح وباء كونيا، وخير مثال على ذلك هو ما فعلته كل من كوريا الجنوبية واليابان وهونك كونغ، وهي بلدان مجاورة للصين، وقد نظن أنه من المنطقي أن تكون من أكثر بلدان العالم المتضررة من العدوى القادمة من الصين، إلا أن عكس ذلك هو الذي حصل وأصبحت القارة الأوروبية البعيدة جغرافيا عن الصين أكثر مناطق العالم تضررا ومعاناة من الوباء. فقد استطاعت هذه البلدان السيطرة على المرض منذ بدايته وطوقته بوسائل وقائية ناجعة وسريعة و منعته من الانتشار ومن إصابة أعداد كبيرة من السكان .

وحتى في الصين فإن الوفيات في أغلبيتها الساحقة لم تتجاوز منطقة ووهان ماعدا بضعة وفيات منتشرة بشكل ضئيل في جهات أخرى من الصين. لكن اليقظة والجهود الخارقة متواصلة اليوم هناك للتحكم في الوباء والتقليل من حالات العدوى الجديدة وخاصة القضاء على إمكانية وفاة المزيد.

ويضيف الدكتور بن عياد أن تلك البلدان المجاورة للصين تصرفت بدرجة وعي وحيطة عالية جدا، ولكن علينا أن لا ننسى أنها عانت في السابق من وباء السارس في 2003 وأصبحت لها الخبرة الكافية مع هذا النوع من الفيروسات الخطيرة والتي تستطيع أن تحصد أرواح الآلاف من الضحايا في فترات وجيزة وبسرعة لا يمكن تخيلها. لذلك كانت على درجة كبيرة من الاحتياط وتصرفت بشكل استباقي مع وباء الكورونا  فأغلقت بسرعة حدودها وقامت بتقص دقيق وآلي للسكان بالخصوص من كان منهم مسافرا بالخارج ومن هو حامل لأعراض المرض، وجعلتهم يمكثون في منازلهم لمدة أربعين يوما، وهنالك من هته البلدان من أعطى السكان سوارا الكترونيا يسمح بالتعرف حينيا على موقعهم وتحركاتهم من مكان لآخر، ويكتشف مخالفتهم لقرار الاعتكاف بالمنزل إذا ما خرجوا. كل هذه الطرق الناجعة مكنت حتى من معرفة دقيقة لكل من اتصل بهم الأشخاص الذين يشتبه في مرضهم، وساعد في إنقاذ العديد من الأرواح البشرية. لا يمكن في الحقيقة أن نطلب من الناس احترام الحجر الصحي والتعويل بشكل تام على الثقة في احترامهم التام لذلك، ونحن نرى أن التجربة في تونس قد أكدت العكس، وأثبتت أنه لا يمكن التعويل على وعي الناس وتحميلهم المسؤولية بكل ثقة، فالعديد من الناس الذين طلب منهم عدم التحرك والالتزام بالبقاء في المنزل قد خرقوا الاتفاق ولم يحترموه.

Capture d’écran 2020-05-16 à 15.29.18
الدكتور عصام بن عياد،

ويضيف محدثي أن من أهم الأسباب الأخرى التي جعلت تجربة تلك البلدان المذكورة ناجحة في تحدي الوباء والتقليل من خطورته هي أنها اختارت القيام بالتحليل للتثبت من العدوى بشكل آلي وليس بشكل اختياري أو انتقائي، ولكن علينا أن نعترف أن هذه الإمكانية لم تكن متاحة لكل البلدان، ففرنسا لم تفعل ذلك وكذلك إيطاليا وتونس.

وفي الحقيقة لا يمكن مقارنة هذه البلدان فهي مختلفة عن بعضها، ففي فرنسا يوجد نظام صحي وطبي قوي ومتين ومؤسس على هياكل منظمة وقوية وعصرية بإمكانها أن تتخطى عقبة الوباء وأن تقاومه وأن تتجاوز هذه الكارثة دون أن ينهار، في الحقيقة سيموت الكثيرون هذا أمر مفروغ منه، لكن النظام الصحي سيخرج دون خسائر جسيمة، لا يمكننا مقارنة الأمر مع ما يمكن أن يحصل في تونس مثلا، إذ ليس لدينا ما يمكن أن نجابه به مجرد احتمال وقوع الكارثة. فالمنظومة الصحية في تونس ضعيفة ومتأخرة على أكثر من صعيد ولا يمكنها المقاومة في حال تفشى الوباء بشكل موسع.

ويعتقد الدكتور عصام بن عياد، و هو ليس الطبيب أو الخبير الوحيد في هذا الموقف، أن القرارات الراديكالية والناجعة قد تأخرت بأسبوع على الأقل، و كل الحسابات العلمية والإحصائيات التي وقع الأخذ بها في تجارب بلدان أخرى سبقتنا في استقبال الوباء، تؤكد أنه كان علينا عدم التردد و تشديد الإجراءات الوقائية في وقت مبكر أكثر بكثير. فالمقارنة مع عدد السكان بتونس ومساحتها  ومع طبيعة التونسي وعقليته وسلوكه وعاداته اليومية، مجرد تسجيل خمس إصابات بعدوى الكورونا يعتبر نسبة مرتفعة وتتطلب الذهاب إلى حلول راديكالية دون تفكير أو انتظار. وبالتالي فلا بد من الخضوع تماما ودون مناقشة للحجر الصحي التام وعدم الخروج من البيت إلا للضرورة وبعد الحصول على ترخيص.

أما في فرنسا فإن عدد المصابين ما فتئ يتصاعد بشكل ملحوظ، و ينتظر الأطباء من يوم لآخر قدوم الموجة الأعنف و الأعلى من عدد الإصابات، أي ما يعرف بفترة أوج الوباء، فهذا المرض يشبه ظاهرة التسونامي. و فرنسا تمر اليوم بنفس ما مرت به إيطاليا، ونفس هذا القول ينطبق على إسبانيا.

وفي الحدود المجاورة تواصل إيطاليا المنكوبة عيش الكارثة الإنسانية الصادمة التي لحقت بها. ومن هنالك تاتينا شهادة فتحي المرداسي، وهو صحفي تونسي متزوج بإيطالية ويقيم في منطقة بولزانو  بشمال إيطاليا على حدود النمسا، و بها حاليا قرابة ألفي شخص موضوعين في الحجر الصحي و 60 مريض بالكورونا مقيمين في المستشفى، و توفي بها 56 ضحية لوباء الكورونا. هذه المنطقة تشبه أكثر في نظامها وحوكمتها و حتى في طبيعة سكانها وانضباطهم الأنظمة الجرمانية، بحكم قربها من النمسا و تأثرها بها إلى حد بعيد. كان السكان هنا واعين بشكل كبير وقاموا باحترام القانون وتطبيق الحجر الصحي بدقة وانضباط، وتحمل جميع سكانها المسؤولية والتزموا بالبقاء في البيت، أما في بقية مناطق إيطاليا فقد استخف الإيطاليون بموضوع مرض الكورونا في البداية، وبقيت بعض المناطق التي لها نسبة مبادلات تجارية مرتفعة جدا مع الصين، مثل بادوفا وميلانو التي تضررت كثيرا، مفتوحة وتستقبل الوفود الصينية كما بقي سكانها يسافرون للصين دون أخذ أي احتياطات، وفيها أسواق ضخمة تضاهي مساحتها مساحة ولاية عندنا في تونس، يسيرها الصينيون ويزودونها بالبضائع وبالمواد التجارية المستوردة من الصين، كان انتشار الفيروس في بداياته بطيئا مما جعل الإيطاليين يطمئنون ولا يخشون منه كثيرا، لكن انعكاس هذا السلوك كان فيما بعد دراماتيكيا ليس على إيطاليا وحدها ولكن على كامل القارة الأوروبية.

حينما أصبح انتشار فيروس كورونا في إيطاليا لافتا خصوصا في جهة اللومبارديا في الشمال وفي كريمونا  بدأت السلط الإيطالية في اتخاذ بعض القرارات الجزئية و المرحلية متابعة أو تماهيا مع تصاعد وتيرة العدوى، ولم تكن قرارات قطعية وجذرية، مما أدى إلى تفاقم الوضع إلى ما أصبح عليه اليوم، وإيطاليا تحتل المرتبة الأولى في عدد ضحايا وباء الكورونا متجاوزة في ذلك الصين نفسها مصدر المرض. 

بقيت كل المصانع تعمل وبقيت الشركات مفتوحة في الأيام الأولى التي ضرب فيها الوباء بشدة ولم تقع الوقاية كما كان مستوجبا مما فتح الباب للعدوى بشكل مكثف وترك إيطاليا في هذه المأساة. كانت في البداية ـ أولوية الحكومة الإيطالية هي الجانب الاقتصادي والتجاري لكن ما خلفه ذلك من نتائج لا تغتفر عواقبه على الصعيد الإنساني والاجتماعي.

ويواصل محدثنا واصفا ما تعيشه إيطاليا وشعبها، ليؤكد أن الإيطاليين أصابهم في فترة معينة من هذه الأيام العصيبة اليأس والإحباط بسبب ما أصبحوا يعانونه وبسبب عجز الدولة وعجز المنظومة الصحية الرسمية عن مجابهة موجات المرض القاتل،

 

فتحي المرداسي

لكن ما أعاد لهم شيئا من الأمل وخفف وطأة الأعداد الصادمة من الأموات، هو التضامن الذي شهدته بلادهم من قبل أصحاب رؤوس الأموال وأصحاب الثروات الطائلة والمستثمرين الإيطاليين والمشاهير الذين يحظون بسمعة عالمية من الفنانين ولاعبي كرة القدم والسياسيين ومصممي الموضة والأزياء الذين لم يترددوا في ضخ آلاف مئات المليارات من ثرواتهم في خزينة الدولة الإيطالية لتتمكن من تجهيز المستشفيات وتوفير المعدات الطبية الضرورية ووسائل الوقاية ومداواة المرضى بالآلاف وتوفير ملاجئ محمية لمئات المشردين في الشوارع ممن لا سند لهم ولا منازل يأوون إليها، فالدولة الإيطالية لم تجد نفسها مضطرة، رغم التأخير في اتخاذ القرارات ورغم تقدم الأزمة وتعمقها، لأن تطالب الشعب بالمساهمات المالية والتبرعات، بل تكفل بذلك وبشكل تلقائي ودون أي تردد أو مجادلة أصحاب الثروات الذين هبوا للوقوف إلى جانب كل أفراد الشعب في ماساته ولمساندة الدولة الإيطالية. 

ولقد أظهر الإيطاليون رغم المأساة التي لا توصف روح تحد وشجاعة أمام المرض وأظهروا تشبثا بالحياة وحبا لها عكسه ما كانوا يقومون به كل ليلة تقريبا وفي كل أرجاء بلادهم، من خروج عبر الشرفات والنوافذ للغناء والعزف سويا و لتحية الطواقم الطبية والممرضين والمسعفين ومساندتهم معنويا فيما يقومون به من أداء للواجب المهني. وعكسته أيضا باقات الزهور والورود التي كانوا يرسلونها مع سائقي سيارات الإسعاف لإلى المستشفيات والمراكز الطبية و الإسعافية.

وحتى الجاليات العربية المقيمة في إيطاليا أظهرت الكثير من التضامن الإنساني عبر التبرعات وعبر مساعدة كبار السن في توفير احتياجاتهم أو إيصالها لهم إلى منازلهم، كما عبروا عن استعدادهم للتبرع بالدم إذا ما كانت المستشفيات في حاجة لذلك.

و يروي لنا محدثنا السيد فتحي المرداسي قصة جميلة ومؤثرة كعشرات القصص الإنسانية الصادقة التي تحدث في ظروف مماثلة رغم قسوتها ورغم عبثية الألم الذي تسببه، في أحد الأحياء و خلال الحجر الصحي أصر شاب إيطالي على إهداء خطيبته، التي تقطن في حي آخر، باقة زهور في يوم مولدها، وخرج كل منهما في آخر الشارع المطل على الحي الآخر، وكان رجال الشرطة الواقفين على حدود الحيين، الواسطة في إعطاء الفتاة باقة الزهور التي أحضرها خطيبها.

يعصف اليوم وباء الكورونا بالآلاف من الناس و بعشرات الشعوب في كل قارات العالم تقريبا، تماما كما عصفت بالإنسانية على مر تاريخها آفات كثيرة كالطاعون والكوليرا والحربان العالميتان الأولى والثانية، ويؤكد جل العلماء والأطباء أنه لن يبقى أي بلد بمنأى عن هذا الوباء الخطير، و أن جميع شعوب الارض تقريبا سيصيبها منه الضرر و لو بدرجات متفاوتة، لكنه تجربة أخرى جديدة تعرفها الإنسانية قد تضعفها وقد تؤلمها وقد تتسبب لها في الكثير من الخوف ومن الحزن ومن الألم لكنها ستجعلها متمسكة أكثر من ذي قبل بالحياة وقد تجعلها في قادم السنوات أكثر تضامنا وأكثر رحمة بالضعفاء. 

Skip to content