حوارات

سمير الشفي: “نطالب أن تكون الدول الأكبر قدرة في التعاطي مع جائحة كورونا أكثر انصافا مع الدول الضعيفة ومن بينها فلسطين المحتلة”

حاوره حاتم بوكسره

يحيي الفلسطينيون يوم الاثنين القادم  30 مارس 2020، ذكرى يوم الأرض في أجواء مشحونة إثر ما يعرف بصفقة القرن والتي تسعى عبرها الادارة الأمريكية إلى ثنيهم عن التمسك بالأرض والهوية الوطنية التي يحاول الاحتلال الصهيوني قمعها وإزالتها من الوجود.

فالشعب الفلسطيني الذي خرج يوم 30 مارس 1976، في مظاهرات ردا على اغتصاب حقوقه ومصادرة أراضيه، يحيي ذكرى هذا اليوم تحت وقع مبادرة الرئيس الأمريكي ترامب وتحت آثار جائحة فيروس «الكورونا» التي أثرت على حياة الفلسطينين مثلهم كمعظم دول العالم لتضاف إلى مصائبهم مصيبة جديدة.

وللحديث عن صفقة القرن وعن مقاومة التطبيع في تونس ودور الاتحاد في دعم القضية الفلسطينية كان لـ «الجريدة المدنية» لقاء مع السيد سمير الشفي الأمين العام المساعد للاتحاد العام التونسي للشغل المسؤول عن قسم الشباب العامل والمرأة والمجتمع المدني. 

صفقة القرن، كيف نعرّفها في مسار سلب الأرض الفلسطينية من وعد بلفور إلى اليوم؟
إن صفقة القرن هي استمرار لمسلسل الاحتلال والمصادرة والالتفاف على الحق الوطني الفلسطيني عبر مبادرة ادعى فيها رئيس الإدارة الامريكية انه يملك مشروع تسوية للقضية الفلسطينية ولكن بالنظر إلى مضمون هذه المبادرة يتضح بأنها صفقة تعمل على التفويت الكامل في القدس، بما تحمله من رمزية دينية مسيحية وإسلامية وعاصمة تاريخية للدولة الفلسطينية، والتفويت فيها مطلقا بشكل كامل وتعسفي لفائدة الاحتلال الإسرائيلي ويضاف إلى ذلك الانهاء  الكامل لحق العودة الذي يمس أكثر من ستة مليون فلسطيني مهجر منذ سنوات 48 و67 ومنذ كل المحطات التي تكثف فيها العدوان الصهيوني على الشعب الفلسطيني وعلى الأمة العربية، وهيأ أيضا ضرب «الشرعية الدولية» التي نصت على حق الفلسطينيين في العودة إلى ديارهم، وتفكيك للجغرافيا الفلسطينية من خلال تثبيت مستوطنات الاحتلال في الضفة الغربية. وهو مايعني عمليا عدم وجود إمكانية إقامة دولة فلسطينية ذات وحدة جغرافية بشكل نهائي مما يقيم الدليل على أن هذه الصفقة لا تعدو أن تكون سوى مؤامرة من الامبريالية والصهيونية واستمرارا للاستعمار من أجل انهاء القضية الفلسطينية وتدمير هذا الوجود الفلسطيني.

ونحن نتساءل عن أي شرعية تمتلكها الإدارة الامريكية والولايات المتحدة الامريكية برمتها في تقديم «وعد من لا يملك لمن لا يستحق»؟! لأن هذه الأرض هي الملكية الازلية للشعب الفلسطيني وللشعب العربي ولا يمكن لأي جيل من الأجيال الحالية أن يصادر حق الأجيال المقبلة في أرضهم ومستقبلهم ومن ثمة فإننا نجزم بأن هذا المشروع هو استمرار للمشروع التصفوي للقضية الفلسطينية وما كان ليتجرأ أي كان على طرح هكذا مبادرات لولا حالة البؤس التي  تعيشها المنطقة العربية والنظام الرسمي العربي.

هذا التوصيف الذي قدمته يحيلنا بالضرورة إلى السؤال التالي وهو مدى مساهمة الخلافات الفلسطينية الداخلية وضعف القرار العربي في تمادي الإدارة الأمريكية في دعمها التام للعدو الصهيوني؟

يمكن القول دون تردد أن انهيار النظام الرسمي العربي منذ عشرات السنين وخاصة منذ التشريع للعدوان الأمريكي العالمي سنة 1991 عبر العدوان على العراق، كان اعلان وفاة لهذا النظام وتداعت إثره كل ما سميت بالثوابت العربية، وسهُل للولايات المتحدة الأمريكية وللعدو الصهيوني أن يستبيحا كل المحرمات وكل الخطوط الحمراء على اعتبار أن هذا النظام الرسمي العربي، على علاته فيما مضى، كان يمثل حدا أدنى من التضامن  ومن الموقف العربي المشترك إزاء عديد القضايا الكبرى وعلى رأسها طبعا القضية الفلسطينية.

ولكن اليوم أصبح المال العربي والنفط العربي هو أحد الوسائل المعتمدة لتمرير مثل هذه المشاريع الصهيونية إضافة إلى حالة التفكك التي يعيشها الشعب الفلسطيني والاقتتال الفلسطيني-الفلسطيني وكل الخلافات الداخلية التي أثرت على صورة القضية الفلسطينية وأثرت بشكل جوهري على المقاومة مما يطرح اليوم وبقوة إعادة النظر في التعامل مع القضية الفلسطينية حتى تستعيد بريقها وصورتها كقضية عادلة للشعب الوحيد الذي مازال يرزح تحت الاحتلال المباشرويمكن القول بأن الأمر يبقى في يد الفلسطينيين والعرب ولكن السؤال المطروح هو ما العمل؟

لم نعد نسمع عن مشروع تحرّر عربي، وعن مشروع قومي لتحرير فلسطين، سواء على مستوى الانتاج الفكري أو المستوى التنظيمي؟

إن القضية الفلسطينية لا يمكن تناولها من زاوية معزولة ومجزئة فعندما نتحدث في سنة 2020 عن صفقة القرن وعن الإنهاء الرسمي والتاريخي لهذه القضية من خلال هذه المبادرة المشؤومة فإنه من الغباء التعامل مع هذه المبادرة بمعزل عن السياسات الأمريكية تجاه القضية الفلسطينية منذ أكثر من 30 سنة لأن الولايات المتحدة الأمريكية والصهيونية العالمية عملت بشكل ممنهج ووفقا لإستراتيجية معلومة ومدروسة لاختراق العقل العربي والانتليجينسيا العربية والثقافة العربية والمسلمات العربية في جانبها الثقافي والاجتماعي والاقتصادي من خلال اختراق البعض من قادة الرأي العربي والمثقفين من الشباب العربي وما سهل هذا الاختراق هو تعاط بعض الجموع مع هذه القضية بشكل انفعالي أي على سبيل المثال فإن الحماسة والانفعال يطغيان على الساحة  كلما كانت محطة لعدوان غاشم أي أن هذا العدوان يستنفر الحمية عبر مظاهرات ومسيرات ورد فعل رافض له فقط، إلا أن النخب العربية وقادة الرأي والفكر والسياسة لم ينجحوافي صياغة تصورات لمشروع تحرري عربي ووطني في علاقة بالاستعمار والامبريالية ككل، وبالمشروع الصهيوني بشكل مخصوص، وهو ما يبين تداعيات الاستراتيجية الأمريكية الصهيونية التي عملت على تمييع هذه القضية والتعامل معها كتفصيل من تفصيلات الحياة اليومية.

إن هذا الوضع يحيلنا إلى جملة من المراجعات التي يجب أن تؤخذ بعين الاعتبارات وأذكر منها أنه على قادة وصناع الرأي أن يفكروا ويطرحوا في الكليات والجامعات والملتقيات كيفية إعادة صياغة ميثاق عربي جديد تقع بلورته على قاعدة المصالح الواقعية للامة العربية والوطن العربي وأن تأخذ هذه الصياغة بعين الاعتبار مشاركة ومساهمة المجتمع المدني والمنظمات والأحزاب والتشكيلات الشعبية في بلورته خلال العشر سنين القادمة حتى يقع فرضه على النظم الرسمية العربية، لأن قضية المواجهة مع هذا المخطط الاستعماري الذي لا يستهدف فلسطين فقط بل كل المنطقة العربية والتي تختزل تقريبا أكثر من 60%  من احتياطات الطاقة في العالم ويضاف إلى ذلك المقاومة التي يجب أن تبقى كشعلة وضّاءة وقادرة على التقليص والحد من هذا المشروع.

وفي تونس رغم اننا لسنا في تماس مع العدو الصهيوني فان الاختراق والعدوان لم يعفي تونس من نصيبها من العدوان الصهيوني عبر عديد الجرائم التي اقترفها كغارة حمام الشط واغتيال أبو جهاد وأبو اياد  وغيرها من الجرائم التي ارتكبت على ارض تونس. ولذلك فإن المقاومة التي يجب أن نتسلح بها هنا هي مقاومة التطبيع بكل أشكاله من السياسي والاقتصادي إلى الثقافي والرياضي. وهنا أندد بالاختراق الذي حصل عبر قرار مجلس وزراء ترأسه رئيس الحكومة السابق يوسف الشاهد ودعا فيه إلى عدم خلط الرياضي بالسياسي في إشارة بينة وواضحة لقبول الحكومة التونسية بأن تقع مبارايات رياضية بين فرق وطنية تونسية وفرق العدو الصهيوني. وهذا يمثل صفعة كبيرة لمنحى مقاومة التطبيع.
ونحن في الاتحاد العام التونسي للشغل المتبني للقضية الفلسطينية منذ نشأته لا يمكن بأي حال من الأحوال القبول بهذا السلوك. وقد أعددنا لذلك عدة تحركات من أجل التصدي لعملية الاختراق الخطيرة التي تحصل على الساحة التونسية من قبل مروجي التطبيع والسياسات التفريطية ومن بينها أننا كنا قد برمجنا مؤتمرا وطنيا لمناهضة التطبيع في تونس يشترك في فعالياته كل القوى السياسية الوطنية ومنظمات المجتمع المدني والنخب حتى يتم إصدار جملة من التوصيات والمقررات ومن المبادرات من اجل رسم استراتيجية ثقافية وتربوية وتعليمية وتكنولوجية تحصن بلادنا ومؤسساتنا وشبابنا من الاختراق الصهيوني لكن هذا الوضع الخطير الذي تمر به بلادنا والإنسانية جمعاء في علاقة بفيروس كورونا جعلنا نؤجل هذا المؤتمر حتى تجتاز  تونس والبشرية هذه الكارثة الحاصلة الآن لنستأنف هذا البرنامج بعد القضاء عليها.

كنت قد أشرت إلى المجلس الوزاري لرئيس الحكومة السابق يوسف الشاهد وقراره بعدم خلط الرياضي بالسياسي والذي سميته بالاختراق الكبير لمقاومة التطبيع في التونس فهل تعتبر أنّ نظام الحكم الحالي في تونس مُطبّع مع الصهيونية؟

إن الحديث عن نظام حكم مطبع في تونس فيه قدر كبير من المغالاة فنحن عندما نتحدث عن نظام حكم ومؤسسات دولة  يمكننا القول بأنه هناك اختراق لها من طرف مجموعات معينة وتشكيلات معينة من قادة الفكر وقادة القرار مدافعة عن مشروع التطبيع وعن مشروع الاعتراف بالكيان الصهيوني بغية انهاء القضية الفلسطينية كما تجدر الإشارة أنه هناك داخل النظام ذاته أصوات مهمة وقوية تتبوأ مراتب متقدمة في مقاومة المشروع التطبيعي  فكما ذكرنا سابقا قرار هذا المجلس الوزاري في علاقة بالمباريات الرياضية مع الصهاينة حيث شرعها بطريقة شبه مباشرة، فإنني أذكر أيضا أنه هناك على رأس الدولة التونسية رئيس الجمهورية قيس سعيد والذي حدد موقفه من القضية الفلسطينية ومن التطبيع الذي ارتقى به إلى مرتبة الخيانة العظمى، وهناك أيضا قوى في البرلمان التونسي السابق أو الحالي التي تقاوم  التطبيع وتقدم المبادرات لتجريمه بقوة القانون كما أنه هناك تشكيلات في المشهد السياسي وفي المجتمع المدني في تونس تقوم بمقاومة هذا المشروع.

سمير الشفي

وإني اعتقد بأنه لولا أوضاع تونس الاقتصادية والاجتماعية التي غرقت البلاد فيها نتيجة تراكمات سابقة ونتيجة سياسات غير جريئة وغير شجاعة اعتمدتها الحكومات المتعاقبة بعد ثورة 17 ديسمبر-14 جانفي جعلت من المجتمع التونسي وقواه الحية لا تجد المتنفس الحقيقي لبلورة تصوراتها وتطلعاتها إزاء القضايا الداخلية فما بالك بالقضية الفلسطينية فهذا الواقع الصعب والمتغير جعل الكل يتفاعل معه وينفعل في قضايا حينية من مشكلة إلى أخرى ونتيجة للأوضاع المأزومة فإن قدرتنا على التفكير الهادئ والاستشرافي في قضايانا الداخلية ذات الصبغة الاستراتيجية أو في قضايانا المتعلقة بمحيطنا وأمننا القومي بقيت مهمشة مع العلم أن هذه الحالة لا تخص تونس فحسب بل تنسحب على عديد الأقطار الأخرى التي بقيت في حالة ارتباك وهلع متواصل وهو أمر لا يجب أن يستمر بل يجب أن تكون هناك بدائل حقيقية في إعادة تحصين البيت العربي الداخلي ومن ثمة إعادة ترتيبه وفقا لمصالحنا بصياغة تشاركية بين مختلف الكتل السياسية الوازنة في المجتمعات العربية.

كنت قد ذكرت أن قيس سعيد وهو على رأس الدولة قال بأن التطبيع يرتقي لأن يكون خيانة عظمى فهل يمكن الوثوق في خطاب رئيس الجمهورية الداعم صراحة للقضية الفلسطينية وهل تعتبر قانون تجريم التطبيع ضرورة تشريعية في ظلّ المسار الحالي في تونس؟

إن قضية الوثوق هي مسألة أخلاقية باعتبار أن الفكر السياسي لا يحكم على الظواهر بالنوايا وإلا أصبحنا في إطار الشعوذة، ولكن المواقف الرسمية المعلنة لرئيس الجمهورية، سواء قبل نجاحه في الانتخابات الرئاسية أو بعد توليه رئاسة الجمهورية، هي إلى جانب القضية الفلسطينية وهي أمر ليس غريبا عن الخندق المقاوم للمشروع الصهيوني وحتى منذ سنوات عديدة فقد عرف عنه كأستاذ جامعي برؤيته المشهود لها كمعظم زملاءه في الجامعات التونسية برفض المشروع الصهيوني وبمقاومة التطبيع معه فما بالك عندما يؤكد في خطاب إدلاء القسم في مجلس نواب الشعب على أن التطبيع خيانة عظمى وعلى أن القضية الفلسطينية ليست متاعا يمكن المقايضة به في أي صفقة من الصفقات. وهو موقف مشرف حقيقة بغض النظر عن أن هذه الموقف كاف لدعم القضية الفلسطينية بشكل ملموس أم لا.

ولكن من المفروض أن تبلور هذه المواقف المبدئية إلى إجراءات فعلية وبالنظر إلى حجم تونس الاستراتيجي وفي ظل هذا التشتت العربي والاختراق الأمريكي الاستعماري للأنظمة الرسمية وسيطرته على القرار العربي في جل العواصم العربية، فإن هامش المناورة يبقى صغيرا ولكنه يمكن أن يطرح بشكل متدرج عبر سياسات داخلية من خلال تجريم التطبيع واعتبار التعامل مع الكيان الصهيوني خيانة وتواطئا وتفريطا في الحق الفلسطيني وهو أمر ليس بالهين فإن تحقق ذلك فهو سيكون شكلا من أشكال المقاومة الحقيقية والفعلية.

فضلا عن ذلك ففي صورة نجاح التجربة التونسية، ببعديها الاجتماعي والاقتصادي، بعد النجاح السياسي يمكن أن يشكل نموذجا لمحيطها إن أضيف الى ذلك البعد الاستراتيجي في علاقة بالأمة العربية وقضاياها وعلى رأسها القضية الفلسطينية. ويمكنني التأكيد على أن هذه القضية ساكنة في قلوب كل التونسيين رغم حالة الاحباط والصعوبات التي نعيشها الآن بل وأسمح لنفسي بالقول بأنها ساكنة في قلوب كل جماهير الأمة العربية.

وإنني انوه بأن المقاومة والدفاع عن القضية أصبحت محل نضال مدني جمعياتي في البلاد الغربية من خلال حركات المقاطعة التي أصبحت تمثل كابوسا للكيان الصهيوني في مجالات سياسية وأكاديمية واقتصادية والتي فرضت على العديد من المؤسسات مراجعة تعاملاتها مع دولة الاحتلال ولذلك فإن المقاومة بمختلف أشكالها وإن كانت اليوم تعاني عدة صعوبات فإنها تبقى لا غنى عنها بل يجب تجديد طرقها بشكل يتلائم مع العصر ومع طبيعة كل قطر ودولة. 

وهنا أعتبر أن قانون تجريم التطبيع هو ضرورة لأنه في المبدأ العام في الدستور والقوانين لكل الشعوب فإن التعامل مع العدو فهو يعتبر خيانة ، وهو ما تضمنته كل المجلات الجزائية في كل الدول،بأن عقوبة هذا الفعل هي العقوبة القصوى. ونحن لا نجد أن التعامل مع حركة صهيونية معادية للإنسان ونحن نجد أن الامم المتحدة في قراراتها قد صنفت الصهيونية بالعنصرية (بالعودة إلى قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة 3379، الذي اعتمد في 10 نوفمبر1975  بتصويت 72 دولة بنعم مقابل 35 بلا (وامتناع 32 عضوًا عن التصويت)، يحدد القرار «أن الصهيونية هي شكل من أشكال العنصرية والتمييز العنصري») وهو مكسب لم يكن ليتحقق لولا المقاومة بمختلف أشكالها، وقد أصبح هذا القرار اليوم دون  معنى أمام هذه الهجمة الشرسة وأمام عملية الاحتواء التي قام بها العدو ووقع فيها تبسيط هذا القرار وتتفيهه ثم تغييبه، ولذلك فنحن في أمس الحاجة اليوم لإعادة تحيين مثل هذه القرارات وتثبيتها من خلال تسليح الفكر الإنساني والعربي بشكل عام والقرار الوطني بشكل خاص بهذه الضوابط والثوابت.

رغم خطورة الموقف في فلسطين لا نجد للتضامن العربي الذي ذكرته إلا مساحات صغيرة لا تؤثّر على الدول من أجل التحرّك ولا تقلق القوى الدولية الكبرى والكيان المحتلّ خاصة بعد أحداث الربيع العربي التي ما زلت تلقي بضلالها على المنطقة وتحدث فيها تغييرات عميقة؟

من نافلة القول الحديث عن التغييرات العميقة التي حدثت في الوطن العربي في العشرية الأخيرة، ومن الحكمة بمكان أن نسلط الضوء على هذه الاحداث التي كان لها علاقة مباشرة بالتدهور الغير مسبوق في التعاطي مع القضايا العامة بشكل عام والقضية الفلسطينية بشكل خاص، لأن ما اصطلح على تسميته بالربيع العربي والذي كان في جزء منه حراكا شعبيا في العديد من الأقطار سرعان ما وظف ووقع تحريف وجهته الاصيلة  كنضال مشروع للشعوب من أجل التحرر ومن أجل بناء الدولة الديمقراطية المدنية وترسيخ قيم المواطنة، إلى أن يوظف من طرف قوى استعمارية وقوى لا تريد الخير لشعوب هذه المنطقة في عمليات اقتتال داخلي وسرعان ما وقع استخدام الاجهزة الاستخباراتية لجماعات تكفيرية ظلامية لا تؤمن حتى بحق الانسان في الحياة فما بالك بقضية الديمقراطية التي يعتبرونها بدعة وضلالة،  ومن ثمة فان  المؤامرة على جسد هذه الأمة وعلى مستقبل هذه الأمة شهدت استخدام كل الأسلحة التقليدية والمباشرة في علاقة بالحروب والنزاعات المسلحة  أو استخدام  الأسلحة الجديدة ضمن استراتيجية صيغت منذ أكثر من ثلاثة عقود في علاقة اختراق وتوجيه العقل العربي بمسلمات تضرب في الصميم وحدة نسيجه الاجتماعي وتضرب ثوابته الوطنية والقومية والإنسانية الأمر الذي ما أفرزته تطورات الأوضاع في العشرية الأخيرة.

ولهذا فنحن نجد اليوم أقطار مواجهة حقيقية سقطت في هذه المؤامرة فنحن حينما نتحدث عن حرب داخلية بالوكالة تستنزف فيها قدرات شعب بأسره ودولة كاملة وهي سوريا حيث سقط  منذ تسعة سنوات أكثر من نصف مليون قتيل من الشعب والجيش السوريين ومن المرتزقة المأجورين من قبل الصهيونية والاستعمار.
هذا النزيف شمل العراق الذي يرزح منذ أكثر من ثلاثين سنة  تحت وطأة هذه المؤامرة ومازال الجرح لم يندمل، بل إني أقول أن العراق الذي كانت نموذجا مشرقا للتعايش والتنوع الثقافي والعرقي والطائفي أصبح هذا التنوع بفعل استراتيجية الفتن واذكاء النعرات الاثنية والطائفية والعرقية وشحنها مهددا في وحدته وتماسكه وملايين العراقيين الذين سقطوا ضحية هذه المؤامرة وقس على ذلك في اليمن وليبيا التي مازالت تعاني الأمرين من تفكك الدولة وحالة الحرب بين الليبيين والتدخلات الأجنبية لوضع اليد على ثروات الشعب الليبي.

فكل هذه الأوضاع تجعل من الحديث على القضية الفلسطينية في حاجة إلى إعادة صياغة رؤية جديدة من قبل المثقفين العرب في علاقة بالمشروع التحرري الوطني والقومي بمسلمات جديدة وأطر وتصورات تواكب هذه المتغيرات وتكون متلائمة مع الواقع ومستجيبة لانتظارات وأحلام شعوبنا.

ومن ثمة فإننا في الاتحاد العام التونسي للشغل ندرك أن كل مايحدث في الأقطار المنهكة بالنزاعات والاقتتال الداخلي وخطر التقسيم أو في غيرها من الدول العربية التي هي أحسن حالا ولكنها مرتهنة بالاستعمار الجديد حيث ارتبطت في سياساتها ارتبطا وثيقا بالصناديق المالية الدولية التي فككت قدرة الشعوب على تأمين أمنها الغذائي وتأمين قوت مجتمعاتها وأصبحت تحت رحمة القروض والمنح، فإننا ندرك أن الحديث عن القضية الفلسطينية قد يبدو نوعا من الهروب من الواقع ومن مشكلاته ولكنه بالنسبة الى قادة الرأي وصناع القرار يجب أن نأخذ هذه المتغيرات بعين الاعتبار ودون أن تكون حائلا أو مبررا للتنصل من الالتزامات الأخلاقية والسياسية واعتبار القضية الفلسطينية ليست فقط قضية تعاطف واسناد مجرد لشعب يسعى الى التحرر من الاستعمار المباشر، بل يجب أن تكون القضية الفلسطينية حاضرة في ذهن المواطن العربي وصناع القرار العرب كقضية أمن قومي، لأنه يجب أن لا ننسى بأن هذا المشروع الصهيوني الامبريالي لا يستهدف رقعة جغرافية محددة فقط، وهي أرض فلسطين التاريخية، وإنما يستهدف المنطقة ككل من خلال  تفتيتها ووضع اليد عليها لتمرير سياساته الاحتلالية واطماعه التوسعية والاستفراد بمقدراتها وحتى في حالة التفكك والوهن التي نعيشها يجب أن لا تغيب هذه القضية لأن كل ما نعيشه ليس بمعزل عن هذا المشروع الذي انتصب بقوة السلاح منذ سنة 1948.

كيف يمكن استعمال القانون الدولي والآليات الدولية لبناء خطة نضالية قادرة على صدّ الخيارات الأمريكية تجاه القضية الفلسطينية؟

هي قضية استراتيجيات وخيارات كبرى لشعوب وأمم يراعى فيها ميزان القوى والتحالفات التي تنطلق من تحديد معسكر الأصدقاء والأعداء إضافة إلى تحديد معسكر «المتفرجين» كما يجب فيها على الأحزاب والنخب  والأنظمة الوطنية (على قلتها) وحتى على الفلسطينيين بمختلف فصائلهم أن يعيدوا ترتيب أوضاعهم وأن تعاد صياغة استراتيجية مقاومة متعددة الأذرع من الثقافي إلى الميداني ولما لا المقاومة المسلحة عندما يكون ذلك متاحا.

سمير الشفي

أضيف إلى كل هذا أيضا السياسة الديبلوماسية وهي بطبيعة الحال ليست بالأمر الهين فالعالم الذي شهد تغييرات كبرى منذ سنة 1990 وانهيار الاتحاد السوفياتي الذي جعله يخضع إلى القطب الواحد وهو الولايات المتحدة الأمريكية التي يعلم الجميع أنها الحامية الكبرى لهذا المشروع الصهيوني فإننا اليوم نعيش إعادة التشكل للتوازنات الدولية فهناك مجتمع دولي جديد تتم صناعته بخطى حثيثة وتتمثل سيمته الأساسية في تعدد الأقطاب ويجب أن لا نكون بعيدين عن هذه التشكلات الدولية الجديدة، كما يجب أن تكون لنا قراءة علمية تأمن مصالحنا من خلال إقامة جسور تعاون مع هذه الأقطاب والتكتلات الجديدة، مما يفرض علينا التعامل مع الكتل والقوى التي تأمن لنا مصالح أكثر مما سيتيح لنا إمكانيات اكبر في التفاوض وفي المناورة وبالتالي دفع هذه الدول وهذه القوى للانحياز إلى الشرعية الدولية على الرغم من تحفظنا على جزء كبير من قرارتها (إلا أننا اليوم في وضع هو دون ما حددته الشرعية الدولية) وبالتالي الضغط على الولايات المتحدة الأمريكية من أجل سحب هذه المبادرات ومراجعة سياساتها المتعارضة مع أسس «الشرعية الدولية» والثابت أن «يوم الأرض» سيبقى  تعبيرا على إصرار الشعب الفلسطيني والشعب العربي على المضي قدما وتقديم قوافل الشهداء من أجل حرية هذه الأرض وكرامة الانسان العربي الذي سيبقى الحارس الأمين لأرضه وكرامته.

كيف يمكن للاتحاد العام التونسي للشغل أن يدفع الحركة النقابية العالمية لمزيد الالتزام بدورها تجاه القضية الفلسطينية؟

إن الاتحاد العام التونسي للشغل لم يتوقف مطلقا في نضاله والتزامه بالدفاع عن القضية الفلسطينية إقليميا ووطنيا ودوليا والوقائع التاريخية تقيم الدليل على هذا الالتزام المبدئي في كل المناسبات التي يتواجد فيها الاتحاد وإني أستحظر للزعيم النقابي الراحل الحبيب عاشور إثر الغزو الصهيوني سنة 1982 حين كان نائبا لرئيس منظمة النقابات العالمية الحرة التي تظم آنذاك أكثر من 220 مليون منخرط والتي رفضت إصدار بيان تنديد بهذا الغزو ليجمد الزعيم الحبيب عاشور عضوية الاتحاد في هذه النقابات ولم تستأنف عضوية الاتحاد فيها إلا بعد أن راجعت موقفها وأصدرت بيانات مساندة للثورة الفلسطينية ومنددة بالاحتلال ولم تتوقف مثل هذه المواقف المبدئية من الاتحاد بل استمرت في كل المحطات وجعلت في كل  أوراق وأنشطة الاتحاد الدولي للنقابات لائحة أو ورشة تهتم بالقضية الفلسطينية وأذكر بأننا قد نجحنا خلال المؤتمر الأخير المنعقد في كوبنهاغن سنة 2018 في المساهمة في فوز ممثل عن النقابات الفلسطينية بعضوية الهيئة المديرة للاتحاد الدولي  للنقابات وهو أمر لم يكن ليتحقق لولا دعم الاتحاد بمعية نقابات أخرى عربية وغير عربية مؤمنة بالقضية الفلسطينية.

كما أذكر أنه في 2018 عندما أعلن الرئيس الأمريكي «ترامب» عن قراره بنقل السفارة الأمريكية إلى القدس واعتبارها العاصمة الأبدية للكيان الصهيوني فإننا بالإضافة البيانات والمسيرات التي خرجت آنذاك فقد قمنا في 20 جانفي 2019 (ذكرى تأسيس الاتحاد العام التونسي للشغل) بمؤتمر دولي لمساندة القضية الفلسطينية وحضرته أكثر من خمسين نقابة عربية ودولية وصدر فيه بيان تونس الرافض لهذا القرار الأمريكي التعسفي الذي يضرب حق الشعب الفلسطيني ويضرب الشرعية الدولية.

ودعني أذكر بمواقف الزعيم الراحل ياسر عرفات «أبو عمار»الذي كان يعتبر الاتحاد العام التونسي للشغل والزعيم الحبيب عاشور جزءا من الخارجية الفلسطينية والصوت الحر المدافع عن الثورة الفلسطينية وهي شهادة نعتز بها ولكنها تحملنا مسؤولية كبيرة وأمانة تاريخية.

كما أذكر أن الاتحاد العام التونسي للشغل، وإثر نيله لجائزة نوبل للسلام،  وعند مشاركتنا في كل الملتقيات والمنتديات لم ندخر أي جهد للفت نظر الرأي العام الدولي إلى معاناة الشعب الفلسطيني وإلى جرائم دولة الاحتلال وانتهاكها للحقوق الوطنية المشروعة للفلسطينيين وفقا لمواثيق الأمم المتحدة وللمواثيق الدولية لحقوق الانسان.

وإن صوت المكتب التنفيذي الحالي للاتحاد وعلى رأسه الأمين العام الأخ نور الدين الطبوبي كان عاليا في علاقة بالقضية الفلسطينية وأذكر حضور الأخ الأمين العام في مؤتمر النقابات بالنرويج في 2018، حيث ألقى كلمة مع الأمين العام لاتحاد نقابات عمال فلسطين في افتتاح هذا المؤتمر، لتصدر عن مؤتمر النقابات النرويجية قرار تاريخي بمقاطعة الكيان الصهيوني سياسيا ونقابيا واقتصاديا وهو يندرج في إطار نضالنا وإيماننا بأن الدفاع عن القضية الفلسطينية هو من صميم الدفاع عن قضايانا الوطنية والمحلية انطلاقا من قناعة لا يرتق إليها شك بأن القضية الفلسطينية لا يمكن أن تعتبر إلا قضية أمن قومي تونسي وهو الأصل في هذه المسألة، كما أن  الاتحاد على استعداد لأن يعطي من حجم العمل والنضال ما هو كاف لترجيح كفة الحق والخير والسلام الحقيقي الذي تعود به كل أراضي فلسطين إلى أهلها.

وتجدر الإشارة أنه بعد تمرير صفقة القرن الأمريكية سيعمل الاتحاد العام التونسي للشغل، من خلال مشاركته في كل أنشطة وملتقيات الاتحاد الدولي للنقابات، على اقناع شركاءنا في الاتحاد الدولي بضرورة بناء استراتيجية وخطة عمل لإسقاط هذه الصفقة وانا على ثقة بأن معظم النقابات الدولية أصبحت تدرك شرعية ومشروعية هذا الحق الفلسطيني وخطورة هذه المؤامرة الأمريكية التي هي جزء من سياسات قديمة تمارس بأدوات جديدة وتعبر عن بشاعة الموقف الأمريكي تجاه القضية الفلسطينية.

تعيش بلادنا والعالم الآن على وقع جائحة (حسب تصنيف منظمة الصحة العالمية) وهي «فيروس كورونا» وفلسطين المحتلة التي تعتبر منطقة منكوبة مثلها مثل العديد من الدول إضافة إلى أنها  ترزح تحت الاحتلال ويمكن أن تتضرر أكثر بعدد الإصابات التي حدثت داخل الكيان المحتل فهل حياة الشعب الفلسطيني أيضا مرتهنة بحياة محتله؟

نحن أمام هذه الجائحة لا نملك إلا أن نتضرع إلى الله أن يحمي الانسان من مخلفاتها ومآسيها ومن آثارها المدمرة على حياته واستقراره وهي تحتاج منا جميعا أن نكون أكثر تضامنا وحذرا كما نطالب أن تكون المنظمات الانسانية والدول الأكثر قدرة على التعاطي مع هذه الجائحة أكثر انصافا مع الدول الضعيفة، التي من بينها فلسطين المحتلة والتي لا تمتلك إمكانيات مواجهة هذه الكارثة، كما يجب أن نتعاطى مع هذا الفيروس بأكثر قدر من الصرامة من خلال الالتزام بتعليمات الأجهزة والمنظمات الطبية وأن لا نتعاطى معها باستخفاف فتكون عواقبه وخيمة ومدمرة على كل الشعوب وبالتالي فنحن نسال الله أن يحمي تونس وكل الشعوب من هذه الآفة التي باتت تهدد الانسانية في حياتها وفي سلامتها وأن يحمي شعبنا في فلسطين من مخاطرها وآثارها.

Skip to content