مقالات

صرخة الكورونا، كفى استنزافا للطبيعة والبشر!​

غسان بسباس

ما الذي يحدث في العالم هذه الأيام؟ أي اضطراب وأية بلبلة أحدثها هذا الفيروس التاجي المستجد CoViD-19 على نواميس المجتمعات البشرية التي اعتادتها طيلة الثلاثين سنة الأخيرة؟ كيف أوقفت حركة الاقتصادات والبواخر والطائرات وأجبرت مليارات البشر على ملازمة ديارهم في هذا الظرف الوجيز؟ كيف لنسق الحياة المتسارع الذي اعتدناه في الخمس عشرة سنة الأخيرة أن يتوقّف بهذا الشكل الحاد والمفاجئ؟ أين البورصات وحركة السيارات والحافلات، ودخان المصانع المنبعث ليخنق الحياة على الكوكب؟ أين حركتنا ومواعيدنا التي لا تنتهي ولهاثنا وراء النقل ووراء مصاريف الحياة بشكل ألهى المرء عن أخيه وزوجه وبنيه، بل شغله حتى عن نفسه وحقها عليه؟ كيف كشف هذا الكائن المجهري والذي لا يحيى إلا في خلايا كائن حي آخر الوجه القبيح لحضارتنا ولعصرنا ولمجتمعاتنا خاليا من المساحيق؟

كان لا بد من وقوع هذه الجائحة العالمية لتفضح عيوب مجتمعاتنا، وتكشف أن وراء هذا النسق الجنوني للحياة وللاقتصاد وللمجتمعات فقر فادح في أساسيات المجتمعات من صحة وغذاء وتربية وعمل لائق يتناسب مع حاجيات المجتمع الحقيقية لا مع الحاجيات المفتعلة التي تفرضها الطبقة المهيمنة على علاقات الإنتاج في العالم ومن يدور في فلك تحالفاتها من طبقات متمعّشة من هذه الهيمنة.

منذ مطلع السبعينات، ترافق مسار الهيمنة الجنونية للأوليغارشية المالية المضاربة على العالم مع بدايات الثورة الرقمية والمعلوماتية والبرمجية التي نعيش ثمارها اليوم، وخلقت تطورا منقطع النظير لوسائل الإنتاج في المجتمعات الرأسمالية المتقدمة ودشنت بذلك مرحلة جديدة من تكثيف رأس المال وتركيزه أكثر بكثير من بدايات نضج المرحلة الاحتكارية المالية المسماة «الامبريالية» في مطلع القرن العشرين. فحجم الثروة العالمية ناهز 240900مليار دولار سنة12013، واحتكر فيها 1% من سكان العالم (الأكثر ثراءا2) حوالي 46 بالمائة من الثروة العالمية، في حين لم يتجاوز 3 بالمائة نصيب 68,7 بالمائة من سكان العالم (الأكثر فقرا)3.

واتخذ مسار تركّز الثروة العالمية نسقا تصاعديا بشكل خيالي منذ 2009. ففي سنة 2017، كان نصيب 47 شخصا ألأكثر ثراءا في العالم يوازي نصيب نصف سكان الأرض الأكثر فقرا أي حوالي أربعة مليارات من البشر. وفي سنة 2018، انحسر هذا الرقم أكثر وأصبح بين يدي 26 شخصا الأكثر ثراءا4.

وبالتوازي مع تركّز الثروات، ازداد الفقراء في العالم فقرا، وازداد المهمّشون تهميشا، وتدهورت في العالم جميع المرافق والخدمات الحياتية الأساسية للمجتمعات من غذاء ونظافة وصحة وتعلّم وحتى الهواء أضحى قاتلا. فهذه الطغمة المالية العالمية استنزفت موارد الطبيعة بشكل غير مسبوق في تاريخ الكوكب، وجعلت معظم الإنسانية تعيش في ضغط مدمّر. ولم تدّخر هذه القلّة الاحتكارية المضاربة في سبيل ذلك استعمال جميع أدواتها السلطوية المتاحة من نخب سياسية حاكمة وحليفة، إلى نخب جمعياتية ومنظماتية رديفة، ومن منظّرين اقتصاديين ومفكّرين خانعين إلى شنّ الحروب وافتعال الصراعات المجتمعية المسلحة وتغذيتها، إلى التضليل الإعلامي والقصف المعلوماتي اليومي والتحكم عن بعد في خيارات ونسق حياة معظم الإنسانية التي بقيت تستهلك في منتجاتها وتساير خياراتها طمعا في مصير أفضل أو للبقاء قيد الحياة في أحيان كثيرة.

ففي الوقت الذي تتراجع منذ السبعينات نسب الأداءات على الشركات ونسب الأداءات على الثروة، تتفاقم وتتنوّع مختلف الضرائب التي تثقل كاهل السواد الأعظم من البشر5 فتمسّ العمال والفلاحين وغالبية الموظفين وأصحاب الحرف وأصحاب المهن الحرة وأصحاب المشاريع الصغرى والمتوسطة، علاوة على جيوش المعطّلين والمهمّشين المرتبطين معيشيا بهذه الفئات. وبدعوى المساواة في الضريبة يُخاتَل العدل والإنصاف، وتختلّ قدرة غالبية الطبقات والمجتمعات على البقاء قيد الحياة وعلى ضمان المصاريف الضرورية للعيش الكريم ناهيك عن الادخار أو تطوير المداخيل. في حين يتمتّع أصحاب الثروات الضخمة بجميع المداخل التشريعية والحيل الجبائية لتخفيف نسب مساهمتهم في الضرائب وتنمية استثماراتهم وتمكينهم من توسيعها وإعادة استثمارها أو إعفاء جلّها من الأداءات.

ونفس ما تمارسه الطغمة البرجوازية المضاربة المهيمنة على العالم بشكل واسع، تمارسه الطغم المالية الحليفة لها والمتشبهة بها من أصحاب الثروات المالية الريعية وغير المنتجة في مختلف المجتمعات المتخلّفة اقتصاديا ومن بينها تونس. حيث تستأثر المجمعات العائلية الخمس والعشرون الكبرى المحتكرة للحياة الاقتصادية وللمؤسسات المالية بأكثر من 85 بالمائة من الثروة وتتحكم في مفاصل الحياة السياسية والجمعياتية والخيارات الاقتصادية والاجتماعية وما تبع ذلك من مؤسسات إعلامية ومفكرين وإنتاج ثقافي. كل هذا لتفرض في معظمها نفس الخيار الاستنزافي للطبيعة والمدمّر للمجتمعات البشرية وللأفراد.

وماذا خلفت لنا هذه الطغمة غير تفاقم المديونية، ومشارفة البلاد على الإفلاس مقابل مضاعفة ثرواتهم؟ وماذا أنتجت غير نسيج صناعي مدمّر، وفلاحة مفقّرة بغير أفق، وتعليم يعمّق التجهيل، وصحة لا تليق بكرامة البشر وتفوق مصاريفها إمكانيات السواد الأعظم، وحياة سياسية عفنة تفوح بالإفساد والارتباط بمصالح القوى الاستعمارية والإقليمية المعادية لمصالح شعبنا.

كل هذه الحقائق التي كانت تقال لعقود طويلة بشكل غير مسموع في العالم وفي الوطن العربي وفي العالم أتاحت الكورونا فرصة لا للإصداع بها، ولكن ليقف عليها السواد الأعظم من المضطهدين في العالم بجميع طبقاتهم وشرائحهم.

صرخة الطبيعة وانتقامها عبر الفيروس المستجد، هي صرخة على انتهاك هذه الطغمة لأبسط توازنات الطبيعة وغزوها لأكثر أغوارها «حميمية» واستقرارا على مدى ملايين السنين، من الغلاف الجوي المنتهك، إلى الغابات المدمرة، إلى القطبين المستباح جليدهما، إلى ثروات الأرض الباطنية.

صرخة الطبيعة وانتقامها فضحت هشاشة خيارات هذه الطغم الممسكة برقاب المجتمعات، والمستهينة بحياتها وكرامتها ناهيك عن تطورها.

فمن التعامل المتهاون مع مخاطر العدوى في إسبانيا وإيطاليا وانقلترا حماية لمصالح الشركات المستشهرة و»شركات كرة القدم»، إلى الخطاب الفاشي لجونسون رئيس وزراء بريطانيا حول «مناعة القطيع والنذير المستسلم بفقدان الأحبة» قبل استدراك الأمر حال تفشي الوباء، إلى الخطاب الصبياني لساسة البيت الأبيض حول استهداف الفيروس للصين ولإيران في بداياته، ورفض القيام بأية إجراءات وقائية قبل أن تحل الكارثة بدعوى الحفاظ على المصالح الاقتصادية؛ وصولا إلى الأصوات المرتفعة لعدم المساس بمصالح الطغم المالية والتحذير من عواقب الحجر الصحي الشامل في العالم6؛ مرورا بمحاولة استغلال محنة الوباء لتحقيق مكاسب عابرة ورخيصة سواءا بعداء شركات الأدوية لاستعمال الكلوروكين كخيار علاجي عاجل أو بما فاح من صفقة الكمامات في تونس والتي تشوبها على الأقل خروقات عديدة للمنطق السليم وللمنهجية السليمة حتى في الظروف الاستثنائية؛ كل هذه الأمثلة وغيرها تكشف استهانة هذه الطغم بحياة الإنسان وبازدهار المجتمعات وكل همها استعادة نسق نشاطها وأرباحها.

بل إنّ خمسة عقود من خيارات الخوصصة وتدمير مؤسسات القطاع العام في العالم فضحت حجم الجرائم التي ارتكبت في حق صحة المواطن وغذائه، وفضحت أن هذا الخيار استنزف ثروات المجتمعات لصالح حفنة من مصاصي الدماء دون أن يرتقي ولا يحسّن الخدمات الأساسية مثلما دأب أنصار هذا الخيار على ترديده على مسامعنا. فبنية المؤسسات الصحية في أكثر الدول الرأسمالية تقدما في أوروبا وفي أمريكا الشمالية أضحت متدنيّة والإطارات الصحّيّة تعمل في ظروف صعبة ولا تستجيب للشروط الأساسية في حق الإنسان في الصحة وفي حياة كريمة. وكانت معظم هذه المستشفيات عاجزة عن التعامل بشكل فعال مع الوباء، والحيلولة دون سقوط عشرات الآلاف من الضحايا. فيما معظم المؤسسات الصحية الخاصة وأطباء الممارسة الحرة يغضون البصر ويتعاملون وكأن الوباء في كوكب آخر أو يسعون إلى مضاعفة أرباحهم بترفيع أسعارهم7، علاوة على تواتر الأخبار عن تكدس مئات الجثث في نيوجرسي في الولايات المتحدة في إحدى مراكز رعاية الشيخوخة دون اعتناء برفعها ودفنها.

كأن لسان حال هذه الطغم قبل أن يمسّهم الوباء في صحتهم وفي أحبّتهم «اتركوهم يموتون فمن المفيد أن يكون العالم أقل متقاعدين وأقل فقراء».

صرخة الكورونا فضحت كذلك من جهة أخرى ضعف عدد الخبرات الضرورية في المجهود التطوعي وفي التدخل الاجتماعي في أوقات الكوارث رغم عديد المبادرات الإيجابية المتفرقة والمحدودة الأثر مثل مجموعة «كوجينة الزوالي» في أحياء تونس الكبرى خاصة ومبادرة «جسر التطوع» للمكتب الجهوي للشباب العامل بالاتحاد الجهوي للشغل بصفاقس أو «المبادرة الشعبية للتصدي لوباء الكورونا» في الجانب الوقائي والصحي بالأساس وغيرها من المبادرات التي انطلقت تلقائيا منذ اللحظات الأولى لحظر التجول وقبل انطلاق الحجر الصحي الشامل حتّى.

ولكن أعتقد أن تراجع أكثر من عقدين لحيوية وإشعاع منظمات مثل الكشافة التونسية والهلال الأحمر وما توفرانه من تكوين إسعافي وتطوعي ومن انتشار لنواديهما في الأحياء والمؤسسات التربوية خلق ثغرة كبيرة في تكوين وتدريب جيلين من الشباب التونسيين لم تنجح معظم التجارب المستجدّة في ملء فراغها. وهو أمر يستوجب تداركا سريعا إن كانت هناك مرحلة جديدة ما بعد «غصرة» وباء الكورونا.

إيماني يقودني إلى أن هذه الإنسانية الخلاقة والمبدعة لن تسمح بإعادة إنتاج عقود الاستنزاف وخيارات الفشل والإفساد. وآن لمضطهدي العالم أن ينظموا صفوفهم ويستنبطوا أنجع الأشكال التنظيمية والآليات لوقف هذا المسار المهلك لكوكبنا وللإنسانية ولئلا يكون التطور التكنولوجي والاقتصادي بكلفة باهظة على الأجيال القادمة. كلّ هذا رهين –مع شروط أخرى- يأن يحسن المضطهدون الإصغاء لصوت الطبيعة وهي تئن وحين تزمجر.

هوامش

1 تقرير البنك السويسري Crédit Suisse لسنة 2013 حول الثروة العالمية المنشور في هذا الرابط بالانقليزيةhttps://www.allianz.com/en/economic_research/publications/specials_fmo/agwr13e.html

2  لا تتجاوز نسبة سكان العالم الأكثر ثراءا (أي التي تتجاوز مداخيلهم السنوية 100 ألف دولار) 8,4 بالمائة ويحتكرون 83,3% من الثروة العالمية حسب نفس التقرير ذي المرجع أعلاه.

3  الذين تقل مداخيلهم السنوية عن 10.000 دولار حسب معايير نفس التقرير ذي المرجع أعلاه. ناهيك عن نصيب الشرائح الأكثر فقرا في هذه الفئة.

4  هذا لا يعني أن بقية ال21 ثريّا (47-26=21) اندثرت ثرواتهم، بل إن نصيبهم مجتمعين أصبح يتجاوز بكثير نصيب نصف البشرية. وربما بلغ مجموع موارد ثلثي البشرية أو أكثر.

المرجع: التقرير السنوي لأوكسفام حول «وضع التفاوت واللامساواة في العالم» لسنة 2018 «rapport annuel sur l’état des inégalités»

5  يذكر تقرير أوكسفام المذكور أعلاه، أن نسبة المساهمة في مداخيل الضرائب لعموم الأفراد في العالم توازي 85 بالمائة (الخصم من المورد على المرتبات 22%، الضرائب على الاستهلاك والأداء على القيمة المضافة 39%، الأداء على الدخل الفردي 21%) في حين أن مساهمة أصحاب الشركات الكبرى والثروات الكبرى لا تتجاوز الـ15 بالمائة (11% موارد الضريبة على الشركات، و4% موارد الضريبة على الثروات)، وفي نفس الوقت راكم أصحاب الثروات الكبرى ال47 حوالي 900 مليار دولار انضافت إلى رصيد ثرواتهم.

6  تصريحات ترامب وجونسون وماكرون حول ضرورة استئناف الحياة الاقتصادية، وكذلك تصريحات نجيب ساويرس في مصر وسمير ماجول وطارق الشريف في تونس. علاوة على قيام عديد المؤسسات الأجنبية في تونس مثل SAFRAN بسليمانو MICHAUD بالمغيرة وشلومبرجر بصفاقس بالقيام بطرد العمال وإنهاء تعاقدهم بدل التضامن معهم في هذه المحنة.

7  من قبيل تصريح بوبكر زخامة رئيس الغرفة النقابية للمصحات الخاصة حول تحديد كلفة ليلة الإنعاش الواحدة بثلاثة آلاف دينارا.

وطبعا توجد استثناءات لمصحات سخرت طاقاتها تلقائيا لمعاضدة مجهود التصدي للوباء، كما عبر بعض أطباء الممارسة الخاصة عن استعدادهم للإسهام في المستشفيات العمومية لتعزيز الكادر الصحي الضروري للانتصار على الوباء.

Skip to content