مقالات

قيم الإنسان الجديد بعد كمّامة كوفيد !

خالد كرونة

بات التطلّع إلى صورة العالم بعد انحسار كوفيد التاسع عشر وجهة العقل الإنساني الذي مادت تحت أقدامه «ثوابته» التي طالما اطمأنّ إليها . فقد تحطم على يد كوفيد المتناهي في الصغر صنم «القيم الإنسانية» التي تشدّق بها جبابرة العصر من المنتصرين في الحروب المدمرة التي أضرموها، وأضحت صور طوفان النعوش تهزأ من المنظومات التي تُدار بها المجتمعات «الراقية» وتسقط عنها أوهام الحصانة ومركبات التعالي .. وما برحت مشهدية النعوش التي تملأ الشاشات تطعن سرديّة الانتظام القِيمي و والاجتماعيّ وبدا العالم كرة متدحرجة نحو هاوية بلا قرار.. ولم يشهد الناس وداع أحبتهم في عجز أخرس فقط، بل رأوا بأمّ العين هشاشة المثل العليا التي أنتجتها مجموعة الثمانية الكبار ومن يدور في فلكها،وسقطت ورقة التوت عن شعارات الحرية و حقوق الإنسان وفق «طبعة» الاقتصاد الحرّ، وترنّحت بعد أن اختنقت بكمّامات كوفيد تماثيل الديمقراطية التي صنّعها الأقوياء لتكريس سطوتهم. ها هم اليوم عراة إلا من عجزهم، وعيون الناس تنظر إليهم في ذهول وقد صارت قيمهم خرافة لا تشبه غير قطعة سكر تذوب في كوب ماء أو فقاعة يخترقها الهواء فتنقاد إلى التلاشي .

إنّ إعادة صياغة القيم و العوْدَ إلى نحت المفاهيم لم يعد مطمحا لأنتلجنسيا «مارقة» أو «بقايا» هواة الإيديولوجيا كما وصموهم، بل فرضت نفسها حتْما تاريخيّا لا مناص منه،تحتاجه البشريّة لإعادة تعريف التضامن بين الأمم بعد نهاية زمن «الأمم المتحدة «و لتجديد الهواء في رئتيْ الكوكب بعد أن عبثت به أدخنة مصانع الموت، وهي قيم جديدة ستحاول جعل هذه الأرض أكثر قابليّة للحياة للحفاظ على الجنس البشريّ الذي عاد سؤال الكينونة ليطفر على سطح اهتمامه بعد فجيعته التي استشعرها وهو يبصُر بمعدلات التلوّث وبمفاعيل الاحتباس الحراريّ التي صنعها جشع «الكبار» .

قيمُ ما بعد كوفيد لن تولد بسرعة.. ستحتاج آلام مخاض عسيرة.. ولكنّها محكومة بالسير بعد عمى عقود نحو استبدال مباحث  «حوار الثقافات» و»حوار الأديان» و مفاهيم «الحق في الاختلاف» بجرأة على معالجة أسباب جوائح أخرى تنهش الجسد الإنسانيّ المنهك.. ستتجه فيما نقدّرُ صوب البحث في مكافحة الجوع و قطع دابر التطرّف الإرهابيّ و ستضع على بساط البحث وفق مداخل جديدة قضايا الهجرة السريّة و آفات الاتجار بالبشر و تدمير البيئة و نهب مقدرات التراث المادي (وغير المادي أيضا) للثقافة الإنسانية.

لن يكون طيّ صفحة الوجع هيّنا، ولكنّ أجيال ما بعد كوفيد ستشقّ طريقها حتما نحو مرافئ الإنسان بعد عاصفة كورونا .. ويمكن أن نفترض أنّها في بداية أمرها قد تعيش حيرة البشريّة القاسية وربّما هوّمت لفترة في أخيلة الجمهورية الأفلاطونية ، مدفوعة بالظمأ إلى قرار يعيد تثبيت الضمير الإنسانيّ .. قد تعود هذه الأجيال زمنا إلى شوارع مثاليّة في مدينة الفارابي الفاضلة.. ولكنّها ستجد في النهاية طريقها لأنّ تاريخ البشرية يؤكّد أنّ العلوم الإنسانيّة تنسج للعالم بعد كلّ وباء رداء جديدا،ولا نخاله يكون غير تحلّل من ثوب عولمة سلبت البشر حقه في الغذاء وفي عيش آمن ليرحل نحو «أنسنة» أوفر عدلا عمادها إيمان عميق بأنّ أسرار المستقبل يكتنزها إنشاء تماه بين العالم و بين العائلة..  وهذا وحده كفيل بتخليص الوعي الإنساني من فردانيته لأنه سيعيد البريق إلى عيش مشترك محتوم يتعالى عن حسابات اللغة وعن جدران الأديان ويتجاوز أسوار الإيديولوجيات أيضا.

ولامناص لعالم الغد الذي يضطرب في أحشاء القديم المتهالك من إعادة التساؤل حول جدوى ترسانات الفتك وحول قيمة آلاف القواعد العسكريّة التي تمتص كارتيلاتها العملاقة ميزانيات الدول دون الالتفات إلى ما يربو عن 75 بالمائة من سكان الكوكب الذين يعيشون دون خط الفقر..  يقفون منفردين في مواجهة خط الموت اليوميّ بلا نصير . لقد أبان كوفيد كذبة مناعة «نادي الكبار النووي» الذي ترنّح أمام الفيروس المجهريّ ولكنّه أبان أيضا أكذوبة التضامن بين الكبار أيضا، وشهد الناس بأمّ أعينهم إيطاليا تتلقى الدعم من دول «محدودة النمو» و يهرع إليها أطباء كوبا وغرماء الأمس ساعة انهيار كبرياء الرجل الأبيض وساعة انكشاف عجز الأمريكي الذي ما انفك يصنع في نفاق  على مدى عقود أسطورة تفوقه.

إنّ إعادة حياكة نسيج القيم الكبرى سيتأسّس بلا شكّ على مقولات التمرّد على يقينيات اللحظة القائمة المتولدة عن قتامتها . ولا بدّ أن نأخذ مأخذ الجدّ في تبيّن مسارات التحولات القادمة مثلا قول العجوز «كيسنجر»: «إنّ الأمريكان يكتشفون اليوم معنى الموت» . إنّها لحظة إدراك فاجع لحصيلة حروب كثيرة اندفعوا إليها بأوهام الربح وخرجوا منها يحصون الخسائر، وهاهم يقارنون أنفسهم بالصين التي لم تنفق دولارا واحدا على نزاعات مسلحة منذ نصف قرن،وصرفت جهودها للبحث عن أسواق في العالم لما تنتجه آلاف من مصانعها في حين كان وهم قيادة العالم و حلم توسيع النفوذ وراء عشرات الحروب المبشرة بالوهم الديمقراطي و بالحرّيّة يبتلع آلاف مليارات الدولارات من خزانة واشنطن.

إنّهم لا يكادون يصدقون اليوم آلاف المكسيكيين الذين ـــ لأنهم يعرفون «معنى الحياة» ـــ أضحوا يطالبون بالإسراع في إقامة جدار ترامب العازل بين البلدين بعد أن حطّم كوفيد بسرعة خارقة أوهام القوة وتمثلات قادتهم الذين خالوا أنفسهم صناع التاريخ وبعد أن قَبر نظريات «فوكوياما»  مع ضحايا الجائحة وأحرق جثة أفكار «هنتغتون» مع جثث قتلى كورونا .

والأمر نفسه ينطبق على مهد «القيم الإنسانية»  المتعالي في القارة العجوز: أوربّا .. هناك، عادت إلى الذاكرة صور خمسين مليونا من أبنائها و من أبناء الشعوب المقهورة التي كانت تحتلها ممّن دفعت بهم إلى الموت إبّان الحربين الكونيتين.. كانت ريادة العالم و نشر «القيم الكبرى»  وهما أفاقت منه بلدان القارة مثخنة بعد أن فتك بها كوفيد فتكا ذريعا ..  قتل كوفيد قبل آلاف البشر وهْم تضامنهم وكشف أكذوبة «أيقونة الحضارة» و «رقيّ» الرجل الأبيض وعرّى العجز الفاجع أمام الموت الذي لم يهبّ لردّه عن إيطاليا (شهيدتهم) غير أطباء المارق «كاسترو» والأصفر «شي جين» والثعلب «بوتين»..

 إنّ أوربّا اليوم غير أوربّا أمسِ. لن تهرع إلى الكنائس كما فعلت في القرن الرابع عشر، أيّام الموت الأسود الذي حصد وقتها ثلث سكانها، ولن تحتمي بقوة الدولة كما حصل في القرن الثامن عشر ..

بات محكوما عليها أن تهاجر نحو الإنسانية (بعبارة د. فتحي المسكيني) وأن تشترك في صياغة شروط الوجود البشري القادمة مع الهندي و الغواتيمالي و الاسترالي والأفغاني أيضا. وصار لزاما على نخبتها أن تعيد تشكيل وعيها بالعالم بدل الاستمرار في النظر بحياد بارد إلى مخيمات اللجوء و بدل إدارة الظهر إلى  القضايا العادلة وبدل الإصرار  على معزوفة صدّ «معاداة الساميّة» لتجميل أبشع جرائم العصر: اغتصاب فلسطين !

Skip to content