مقالات

أي دور للإنسانيات في منظومة قيم جديدة؟

محمد صالح عمري
أستاذ الأدب العربي والمقارن، جامعة أكسفرد

تستهدف الجائحة الحياة في حدّ ذاتها وبذلك يتحوّل الوجود الإنساني في أغلبه إلى محاولة البقاء على قيد الحياة، ويصعب التفكير في المستقبل أو الاستشراف. ولعلّ  ألبير كامو الذي أعطانا في رواية “الطاعون” أحد أكثر التأملات عمقا في الموضوع كان محقَا حين قال: “ما أقسى أن يحيى الإنسان فقط بما يعرفه أو يتذكره، مقطوعا عما يأمل فيه”. وهي قساوة أن “يعيش الإنسان العقم المحبِط لحياة بدون أوهام”. والأوهام هنا تعني فيما تعنيه التخييل والتخيل، أي الفنون والآداب بأنواعها. والتاريخ يعلّمنا أنّ مثل هذه الحالات عادة ما تثير على المستوى الثقافي والفني تفاعلات تتأرجح بين إغراء الديستوبيا أي تصوير مستقبل داكن للعالم واليوتوبيا باعتبارها تحتفل بالأمل وتبقي على الرغبة في عالم أفضل حتى وإن كان يبدو غير قابل للتحقيق. أما على مستوى التفكير فعادة ما يجنح الناس إلى تفكير الطوارئ أو التفكير الاستعجالي عِوَض التفكير المستدام أو الإستشرافي.

فقد أعادت الجائحة الحالية إلى السطح مفهومين متناقضين وهما العولمة العابرة للحدود والحدود المنغلقة على الذات.  فالفيروس في حلّه وترحاله لم يعترف بحدود سلطان المال والأعمال والجنس والجندر وغيرها، فشمل العالم بأسره في سرعة فائقة متوسّلا بوسائله مثل عالمية وسرعة تنقّل البشر والبضائع. أما ردود الفعل والتي تمثلت أساسا في إيقاف حركة الملاحة والطيران وإغلاق الحدود والعزل والحجر والحظر والتباعد الاجتماعي فجميعها مفاهيم حدودية بالأساس. وكانت النتيجة غياب التفكير ضد الحدود المادية وخارج الحدود الفكرية المتوارثة، أي التفكير خارج التسييج والأسلاك والجدران والخنادق من قبيل حائط الأبرتايد الإسرائيلي وجدار الحدود المكسكية وجدران البحر المتوسط العائمة وغيرها.

وفي المقابل نلاحظ تهميشا كاملا لمؤسسات دولية مثل الأمم المتحدة ومجالسها المختلفة وتنافسا دوليا محموما حول المواد الصحية وتغوّلا في الحصول عليها لإنقاذ مواطني كل بلد على حدة.  والخلاصة أنّ الوباء كشف هشاشة الوجود الإنساني في شكله الحالي مهما اختلفت نظم الحكم ودرجات «التقدم» الاقتصادي والمعرفي. كما عرّى منظومة القيم الحالية ومؤساساتها.  وبذلك وضع المركزيات موضع نقد وتساؤل، ومنها مركزية الإنسان في علاقته العدائية بالطبيعة ومركزية الغرب الرأسمالي في إخضاعه كل شيء لمفهوم التنافس الربح و مركزية مفاهيم وممارسات دينية وفكرية تدّعي احتكار الحقيقة واحتكار القيم.  وهو بذلك يدفع إلى التفكير في بدائل وقيم أمتن وأفضل.

ولا يخفى أنّ المسألة ليست نظرية بقدر ما هي عملية ومصيرية. فأكثر ما احتاجت إليه الإنسانية زمن الجائحة هو التضامن الإنساني في جميع مستوياته.  وأكثر ما جعلها تستطيع التغلّب على العزل والحجر هو الفنون والثقافة والعلم، فقد أصبح الأطباء والعلماء نجوما جديدة حلّت محلّ أيقونات الاستهلاك الترفيهي المعهودة وانتفت ظواهر مثل الموضة والاستعراض لتعوّض بنوع من تقديس لأشياء لا علاقة لها بالمشهدية والفرجة، مثل السترة البيضاء والألبسة الصحية الواقية، وغطّت الكمّامات الابتسامات وكادت «السلفيات» أن تصبح  من المنكرات.وتقلّص حجم السياسيين واختفى العديد منهم خلف سلطان العلم والمعرفة العلمية التي أصبحت تحظى بنوع من الثقة المطلقة ممّا جعل السلطة الدينية تسلّم لها بعض نفوذها. ولكنّ الجوائح والكوارث كانت دائما مداخل للاستبداد والفساد. ولذا وجب بناء يقظة نقدية أرى أنّ أسسها تكمن في الإنسانيات، تلك العلوم التي «تكبّر النفوس وتوسّع العقول»، كما يقول الكواكبي. وعليها يمكن أن نعوّل من أجل بناء منظومة قيمية جديدة تأخذ بعين الاعتبار التفكير العابر للحدود الراهنة كبوصلة، ونقد المركزيات والمسلمات كأدوات. وفي هذا الاتجاه أتقدم بالمقتراحات التالية في الإطار العربي عموما والتونسي خصوصا.

التدخّل العاجل على المستويين المحلي والعالمي بهدف حماية الإنسانيات المهدّدة ودعم الإنسانيات الصاعدة في نفس الوقت. وأدعو بالخصوص إلى تكثيف التبادل والحوار بين العالم العربي وبلدان “الجنوب العالمي” وخصوصا الشعوب التي مرّت بحالات استبداد وعنف اجتماعي واثني وبانتقال ديمقراطي، وذلك لتشابه المسارات التاريخية والتشكيلات الاجتماعية والعلاقة بالمركز الغربي. ولا يخفى ما لهذا التعاون من أهمية في كسر المركزية الغربية وأنماط تبادل المعرفة.

الدعوة إلى مواصلة تفكيك ونقد المنظومتين الاستعمارية والاستشراقية، ومقاومتهما. وهو عمل ذو طبيعة معرفية وسياسية في نفس الوقت.  ومن تبِعاتِه الدفع نحو التبادل الندِّي للمعرفة وتعميم وتنويع التجارب المقارنة، وكسر العلاقة غير المتوازنة بين المركز والهامش، وتثمين المعرفة المحلية (أي العربية والقُطرية في هذا الإطار) وإبلائها أهمّية علمية مناسبة. ولعل ترجمة العلوم الإنسانية العربية إلى لغات البحث على المستوى العالمي، مثل الإنجليزية ولغات هامّة مثل الصينية والإسبانية، يعتبر العنوان البارز لهذا الهدف، بالإضافة إلى ضرورة التشبيك الأفقي مع باحثين على قاعدة الاتفاق حول الأهداف المذكورة هنا.

ربط علاقة أوثق وأمتن بين منتجي الإنسانيات العرب المقيمين في الداخل والمقيمين في الخارج أو في المهجر، وتبادل الخبرات والتجارب بهدف مشترك يتمثل في تطوير ودعم الإنسانيات العربية في المجال التربوي وعموم المجتمع في الخارج والداخل. وهذا من شأنه أن يسمح بدعم تناغُم واندماج ونشر الإنسانيات في المجالين معا. والملاحظ أنّه باستثناء المجالين العائلي والديني توجد قطيعة بين الجماعتين فيما يخص الفنون والآداب والمعرفة العلمية، والحال أنّ المهجر والوطن الأم يمثّلان روافد وموارد هامة للإنسانيات، وهو ما ثمّنته مجتمعات أخرى تمكّنت من الربط البنّاء بين الخارج والداخل.

ترسيخ معرفة اللغات الأجنبية وتعميمها والحرص على الترجمة، بما في ذلك نقل الإنسانيات العربية إلى اللغات الأجنبية وتكثيف ترجمة الإنسانيات الأجنبية إلى العربية.

ضرورة تدعيم حضور الإنسانيات في أي مشروع لإصلاح التعليم، وذلك على مستوى أفقي أي بإدراج الإنسانيات ضمن مقررات جميع أنواع الاختصاص، وعلى مستوى عمودي بدعم عمومي وخاص للإنسانيات كتخصَص.

Skip to content