مقالات

الاتحاد و”كامورا” التفاوض

نصر الدين ساسي
صحفي

ما تزال الهزات الارتدادية لاتفاق الكامور الأخير تتوسع خصوصا مع رضوخ الحكومة للضغوط الناجمة عن غلق “الفانا” وقطع إمدادات النفط عن كامل البلاد، مسار التفاوض الذي تباينت بشأنه المواقف بين مشجع لمثل هذه الأنماط المستحدثة في المفاوضات والتي أجبرت الحكومة على الإنصات لهموم المواطنين ومشاغلهم وبين مواقف أخرى أعلنت تهاوي هيبة الدولة وإذلال سلطتها ونفودها نفس هذا المشهد يعاد في قابس ويجري الاستعداد لتحركات مماثلة في جهات أخرى حيث يبدو أن منطق لي الذراع من أجل الاستحقاقات العالقة والمشاريع المعطلة قد أصبح منهجا للتفاوض بين الحكومة والجهات.

هذا الشكل الجديد من التفاوض أبعد هذه المرة الأطراف الاجتماعية من دائرة المفاوضات وخاصة الاتحاد العام التونسي للشغل الذي كان إلى حدود اتفاق “الكامور” الأول سنة 2016 طرفا أساسيا في قيادة المفاوضات مع الحكومة وتقريب وجهات النظر بينها وبين المحتجين وكان الاتحاد ضامنا من أجل الاستجابة لجملة المطالب المطروحة غير أن تفصي حكومة الشاهد من تعهداتها وضع الاتحاد في موضع الحرج ودفعته تدريجيا إلى عدم المغامرة بالتدخل ولعب دور رجال الإطفاء خصوصا مع عدم اعتراف الحكومات بهذا الدور الذي لعبته المنظمة النقابية والذي ساهم في محطات عديدة في خفض الاحتقان بعديد الجهات والقطاعات، من هنا يمكن القول بأن الحكومات خيرت الابتعاد عن إقحام الاتحاد في لعبة التفاوض وهي لعبة تجيدها المنظمة النقابية بشكل جيد مما قد يضعف من أدوار الحكومات وبعض الأطراف السياسية ويقلص من إشعاعها.

وهذا ما يفسر تقارب تصريحات رئيس البرلمان ورئيس الحكومة في التأكيد على حق الجهات في الاستفادة من خيراتها وذكر جهات وتناسي أخرى والسعادة المفرطة في تمجيد الاتفاق دون الإشارة إلى مسار التفاوض وسياسة لي الذراع المعتمدة وحجم الخسائر الذي تكبدته البلاد، هذا التغافل عن تحديد حجم الخسائر لا نجده مثلا في تجريم الإضرابات العمالية وترويج الخسائر التي تتسبب بها للاقتصاد والحال أن خسائر إعتصام “الكامور” لوحده يمكن أن تفوق خسائر الإضرابات العمالية في السنوات الأخيرة.

حلول جزئية قد تزيد من منسوب الجهوية والتفرقة      

هل يمكن تصنيف اتفاق الكامور الأخير اتفاقا تام الشروط أو هو حزمة جديدة من الإجراءات خصوصا وانه لم يتم الإمضاء عليه وحتى الأطراف المتفاوضة فيه بإستثاء الوفد الوزاري فاقدة للتمثيلية ولا يمكنها ضمان الالتزام بما نص عليه الاتفاق الذي يبقى هشا على مستوى التنفيذ وعلى مستوى الالتزامات المترتبة عليه.

كما ان الاتجاه صوب الحلول الجهوية في غياب نظرة اقتصادية شاملة و منوال تنموي شامل سيزيد من تعقيد خيارات الإصلاح وسيوسع هوة النعرات الجهوية.

يعني أن هذا النهج من التفاوض قد يصلنا إذا ما توسعت دائرته إلى طرق مسدودة من خلال تعزيز منطق الجهة على حساب الدولة فنفط “الكامور” يمكن أن يبقى هناك إذا ما أغلق أهل قابس الميناء وهذا النفط يمكن أن يبقى خاما إذا ما أغلق أهل بنزرت مصفاة التكرير ويمكن أن يتقلص تدفق المياه والحليب والحبوب من الشمال إذا أغلق أهل الشمال “فانا” السدود هذه المنزلقات الخطيرة لمنطق تجزئة التفاوض يمكن ان يدفعنا سريعا إلى الانقسام إلى دويلات تعيش بالمقايضة وربما بالحروب والغزوات.

كامورا التفاوض الجديدة

هذا الشكل الجديد من التفاوض بلا شك سيدعم نفوذ أطراف جديدة في التفاوض تتزعمها التنسيقيات أو مجموعات من الشباب التي تقود هذه الاعتصامات في ظل غياب تام للبرامج والبدائل حيث تطالب هذه التحركات بالتشغيل والتنمية ولكن لا وجود لبرامج واضحة ومخططات لتنميثة مستدامة بتلك الجهات فالخيارات المتاحة تتلخص في الإدماج بشركات البيئة في إطار المسؤوليات المجتمعية لشركات النفط والفسفاط والمجمع الكيمياوي وهذا التوجه سينتهي بالضرورة بإفلاس الشركات بعد إغراقها بالانتدابات كما انه لا يراعي نصيب الأجيال القادمة من الثروات التي يفترض ترشيدها. إن غياب النظرة الاستشرافية والتوعية بان ثروات البلاد ليست غنيمة وليست ملكا شخصيا او فرديا يتوجب على الجميع تثمينه لا إستنزافه وكذلك عدم نشر ثقافة المسؤولية والانتماء وبعث الأمل لدى التونسيات والتونسيين وأيضا ضعف البرامج او غيابها اصلا عن الاحزاب الحاكمة كلها عوامل تبعث على القلق من إمكانية تفتيت الدولة.

من النقاط الخطيرة في هذا الشكل التفاوضي هو غياب الإطار الممأسس مما ساهم في بروز اطراف تفاوضية جديدة لها مطالب دون أن تكون لها التزامات في مجال التاطير والتوعية والتحفيز وغيرها من الواجبات التي تظطلع بها اللاطراف الاجتماعية وهو ما خلق نوعا من “الكامورا” التفاوضية التي تنتزع المكاسب بلي الذراع عبر ارتهان خطير لمقدرات البلاد دون مسؤوليات او إعتبارات فهي تحركات مفتوحة دون آجال وهذا يعتبر انحرافا بمفهوم التفاوض وبدوره في التقدم بالحوار والوصول إلى نتائج مقابل بعض التنازلات بحسب موازين القوى. ولا تخفى الأحداث انخراط عديد الأطراف السياسية في تأجيج الاحتجاجات لتعديل موازين القوى في علاقة بالحكومة والضغط عليها بطريقة غير مباشرة من خلال تازيم الأوضاع الاجتماعية وتقوية النعرات الجهوية .

مراجعة منوال التنمية ومأسسة التفاوض جهويا                 

يبدو الاتجاه واضحا والدفع قوي نحو إرساء شكل جديد من التفاوض على مستوى الجهات أولا بتحييد الأطراف الاجتماعية وثانيا بعدم إدماج المؤسسات الجهوية والسلطات الجهوية والمحلية في مسار التفاوض فبعد بعث مشروع اللامركزية وعدم إرفاقه بالاجراءات اللازمة أصبح دور السلط الجهوية والمحلية ضعيفا وذلك فضلا عن تغيب الاتحاد العام التونسي للشغل عن المجالس الجهوية للتنمية بما قلص من دور هذه الهياكل الجهوية والمحلية في التحكيم والمصالحة وفض النزاعات. وما يزال دور البلديات ضعيفا حيث رغم إتساع دائرة صلاحياتها على الورق فإن عدم تفعيل مقومات اللامركزية والضعف الكبير لمجلة الجماعات المحلية زيادة على الانقسامات والخلافات داخل المجالس البلدية زاد من إضعاف دور البلديات في المجال الجهوي والمحلي وبالمقابل فإن نفوذ الاحزاب في الجهات تضاعف بالتوازي مع تراجع نفوذ بقية الأطراف الاجتماعية بالجهات جراء عاملين أولا إنسياق البعض وراء الحركات الاحتجاجية بمنطق الانتماء الجهوي او بالتضامن مع بعض الأحزاب وثانيا بخيار البعض الآخر عدم التدخل. لكن في كل الحالات يجب البحث في أسباب ضعف إنخراط الأطراف الاجتماعية في الملفات الجهوية ومعالجته وذلك بإعتماد خيارين يتمثل الأول في التمسك بمراجعة منوال التنمية وضغط الاتحاد بكل ثقله من اجل خيارات تنموية وإصلاحات إقتصادية تضمن حق الجهات المحرومة والمهمشة في التنمية والتشغيل في إطار مقاربة شاملة ومستدامة تراعي حق الاجيال القادمة وتدعم البيئة مع الحرص أن يضمن هذا المنوال انخراط كافة التونسيين والتونسيات في خيار إنعاش الاقتصاد وتقديم التضحيات اللازمة لإصلاح الإعطاب المتزايدة هيكليا وماليا والتفكير الجدي في مقاومة الشلل الذي بات يهدد النسيج الاقتصادي جراء استفحال وباء كورونا.

وبخصوص التفاوض يبدو الآمر ملحا خصوصا بالنسبة للاتحاد العام التونسي للشغل حتى لا يفقد ثقله التفاوضي ولا يتقلص دوره الوطني من خلال عدم إنخراطه في الحركة المطلبية الاجتماعية وقطع الطريق أمام إنتقال هذه العدوى للمطلبية العمالية والقطاعية بما سيفتح باب الانفلات على مصرعيه. في هذا الصدد يجب الحرص على ضرورة تطبيق العقد الاجتماعي وتفعيله على المستوى الجهوي من خلال إعداد عقود إجتماعية جهوية تراعي خصوصيات كل جهة وتثمن ثرواتها وتمكنها من إجراءات خصوصية في إطار ممأسس وضمن مقاربة وطنية كما يمكن من خلال هذه العقود تشريك الاطراف الاجتماعية الجهوية في مسارات التفاوض وتضمن على حد سواء الحقوق والواجبات ويمكن في سياق آخر بعث فروع جهوية للمجلس الوطني للحوار الاجتماعي بما يمنع اتساع نفوذ “الكامورا” الجديدة للتفاوض ويقلص من عدوى الجهويات.

Skip to content