مقالات

التفقير والتهميش في تونس:

المناطق الداخلية : مناطق صناعيّة للفقر

رشاد الصالحي

تحوّلت مصطلحات الفقر والتفقير والتهميش في رحلة عبر حقول دلالية متعدّدة من المعاني ذات الأبعاد الاجتماعية الصرفة إلى غيرها من المعاني ذات الصبغة السياسية وتحول الفقر بمعناه البعيد إلى محدد رئيسي لطبيعة الحوكمة أو ما يعرف بالحوكمة الرشيدة التي تقوم أساسا على البحث عن التوازن في توزيع الثروة ينخفض بموجبه منسوب الفقر ليحقق العدالة الاجتماعية. فمنظمة الأمم المتحدة تعرّف الفقير بأنّه الشخص الذي يقلّ دخله عن دولار واحد في اليوم بينما يحدّد البنك الدّولي الدول الفقيرة على أنّها التي لا يتجاوز دخل الفرد فيها 600 دولارا سنويّا.

الفقر والفقر المدقع في تونس

يبلغ عدد الفقراء في تونس حسب ما حدّده المعهد الوطني للإحصاء حوالي 3 ملايين وربع فقيرا منهم حوالي 4 % مدرجين في خانة الفقر المدقع أو المطلق.هذه الحالة عرفتها تقارير الأمم المتّحدة سنة 1995 بأنها «حالة تتسم بالحرمان الشديد من الاحتياجات الإنسانية الأساسية، بما في ذلك الغذاء ومياه الشرب المأمونة ومرافق الصرف الصحي والصحة والمأوى والتعليم والمعلومات. ذلك يعتمد ليس فقط على الدخل ولكن أيضا على الحصول على الخدمات «. وتؤكد دراسات شارك فيها المعهد الوطني للإحصاء في تونس وبعض الوزارات ومنظمات محلية ودولية والتي نشرها موقع شبكة أقران الفقر متعدد الأبعاد إلى أن نسبة الفقر في تونس بلغت اليوم  28،97 % .

الفقر متعدد الأبعاد 

أبعاد أربعة للفقر وهي أولا التشغيل بما يشمله من بطالة ونوع التشغيل وظروف العيش أي المسكن والماء الصالح للشراب والمرافق الصحية ووسائل التدفئة واستخدام الحاسوب والانترنت والصحة وتشمل التأمين الصحي والنفاذ والخدمات الصحية. التعليم ويشمل التمدرس والانقطاع المدرسي وسنوات الدراسة والأمية والنفاذ إلى المدرسة الابتدائية.

المناطق الدّاخلية .. مناطق صناعة الفقر

أصدر المعهد الوطني للإحصاء تقريرا سنة 2015 تم فيه ترتيب الولايات التونسية حسب الفقر والفقر المدقع وإذا كانت الأرقام التي يصدرها هذا المعهد لا تؤخذ برمتها على أنها إحصائيات علمية دقيقة ناهيك عن نزاهتها فإننا مع ذلك يمكن أن نرسم من خلالها خريطة الفقر في تونس حسب المناطق الأكثر فقرا وهي القيروان والكاف  والقصرين وباجة وسليانة وسيدي بوزيد وجندوبة وقبلي وقفصة . فمجموع سكان هذه المناطق الدّاخلية حسب تقديرات عدد السكان في تونس في غرة جانفي 2019 يبلغ 3.201.198 من مجموع 11.608.311 وهو عدد سكان البلاد التونسية أي بنسبة 27،57 % أي أكثر من ربع سكان تونس على مساحة 69223 كلم مربع أي ما يمثل أكثر من 42 % من المساحة الجملية للبلاد التونسية يرزح أهلها تحت الفقر والفقر المدقع مما يؤكد أنّ الفقر في تونس ليس حالة فردية معزولة هو ظاهرة اجتماعية لافتة للانتباه في المناطق الدّاخلية لم تكن ناتجة عن نموّ وتحول طبيعي في الحياة الاجتماعية والاقتصادية في تونس بل هو ناتج عن سلوك سياسي وخلفية تسعى إلى تفقير المفقّر وتهميش المهمّش.

مظاهر التفقير… أراضي الأحباس والأراضي الاشتراكية مثالا

تتعدد مظاهر التفقير في المناطق الدّاخلية في تونس وتتنوع لتشمل كل القطاعات الحيوية فغياب البنية التحتية من طرقات  وجسور ذات مواصفات علمية مقبولة جعل من الولايات الداخلية مناطق معزولة عن بعضها وتشتدّ عزلتها شتاء، فكميات بسيطة من الأمطار أو الثلوج تمثل كارثة طبيعية، وقد أودت بحياة العديد من الضحايا نتيجة محاولة قطع الأودية أو بسبب الانزلاقات الأرضية. المناطق الدّاخلية هي أيضا محرومة من المنشآت الصحية  كالمستشفيات الجامعية التي تتمركز أساسا في الحزام الساحلي ومدن تونس الكبرى، كذلك الجامعات، والمؤسسات الصناعية، والمؤسسات التربوية. ومن بين المعضلات لم تفك طلاسم التفقير في تونس منذ الاستقلال إلى الآن هي الإشكاليات العقارية العالقة في بعض المناطق خاصة مشاكل الأراضي الاشتراكية في كل من القصرين والكاف… وكذلك أراضي الأحباس وهي كبلت الفلاحين ولم تمكنهم من شهادات ملكية وفسحت الحكومات المتعاقبة المجال لسطو العديد من المتنفذين على أراضي الأحباس خاصة في جهة فوسانة من ولاية القصرين، أين تواطأ العديد من أصحاب النفوذ وتورطوا في إهدار طبقة المياه الجوفية وهي من الثروات الوطنية ذات العمق الاستراتيجي الحيوي نتيجة الطبيعة الهشة لوضعية أراضي الأحباس مما مكن العدد من الاستثراء الفاحش على حساب الفقراء باستغلال الأراضي الشاسعة ومياهها والحصول على رخص بطريقة تشوبها الريبة للتنقيب على المياه الجوفية وتركيز آبار عميقة في مساحة ضيقة. كذلك نهب ثروة الرخام غير المتجددة بمنطقة تالة بطريقة وحشية تحت حماية سياسات الحكومات المختلفة ولم تمنح تالة مقابل نهب ثرواتها غير مزيد التفقير والتهميش.

ولم تكن مقولة «التمييزالايجابي» ومنح 80 % ميزانية الدولة لفائدة المناطق الدّاخلية سوى شعارا وضحكا على ذقون الفقراء في مناطق الكاف وسليانة والقصرين وباجة وسيدي بوزيد وقفصة وجندوبة و وقبلي …مما رجّح فرضية سيطرة لوبيات سياسية تتحّكم في المناخ العام للبلاد وتوزع الثروات وفقا لأهوائها ومصالحها وأفرز تداعيات خطيرة.

تداعيات الانحراف عن العدالة الاجتماعية

تداعيات الانحراف عن العدالة الاجتماعية في تونس التي انتهجتها الحكومات المتعاقبة منذ الاستقلال إلى الآن عمّقت الهوّة واختلال التوازن بين جهات مميزة وجهات مفقرة وقد تفاقمت هذه الفجوة عقب أحداث جانفي 2011 وطفت ظواهر اجتماعية واجتماعية وسياسية.

الكونترا… تسيطر على أكثر من نصف اقتصاد البلاد

57 % من اقتصاد البلاد خارج سيطرة الدولة نتيجة هيمنة لوبيات التهريب عبر الحدود الترابية والموانئ البحرية مما جعل الاحتكار عنوان مرحلة ما بعد «الثورة» التي عرف فيها الدينار التونسي تراجعا وصل إلى أدنى المستويات. ساهم في ذلك عدم وجود نظام ضريبي عادل، مما جعل العديد من الأصوات ترتفع للمطالبة بالعدالة الجبائية التي قد تكون حلاّ من الحلول لاقتصاد دولة تقع على حافة الإفلاس، خاصّة وأن الفساد بات ينخر العديد من القطاعات في ظل صمت رهيب للحكومات المتعاقبة . هذه الوضعية أثرت بشكل رهيب على الحياة اليومية في الجهات المفقرة ولا غرابة ألاّ تجد «البترول الأزرق»  في المناطق الدّاخلية شديدة البرودة شتاء، كذلك قوارير الغاز ومواد أخرى تفقد فجأة كالحليب مثلا.

الانتحار…حلّ الفئات المفقرة

بعد أحداث 14 جانفي طفت ظواهر اجتماعية عدّة خاصة في المناطق الداخلية اتجاهها الرئيسي الموت كالهجرة غير النظامية «الحرقة» والجريمة المنظمة والطلاق والانتحار ولعل أعلى نسبة من الانتحار توجد في منطقة القيروان نتيجة الشعور بالحيف الاجتماعي الموجود في تونس وفقدان الأمل والثقة في سياسة الحكومات الموجودة والمتعاقبة بعد أنّ أطنبت كلها في سياسة المماطلة والتسويف وعدم خلق مواطن شغل وغياب أفق واضح للتنمية في الجهات الدّاخلية

سياسة الولاءات والمحاصصات الحزبية

انتهجت الحكومات في تونس خاصة بعد «الثورة» سياسة الولاءات والمحاصصات الحزبية بشكل نأى بها عن المعالجة العلمية لواقع البلاد وسبل الخروج من المستنقع وإيجاد الحلول الكفيلة بتوفير العيش الكريم للمواطن التونسي الذي حدّده مثلث الشعارات المعروف ب شغل، حرية، كرامة وطنية بل العكس هو الحاصل بعد ظهور المناكفات السياسية والصراعات الايديولوجية التي منها ما يصل إلى درجة تهديد الهوية التونسية. وفي المقابل انتشرت ظاهرة التطرف الديني الذي أفرز الإرهاب وأوقع العديد من الشهداء في المناطق الدّاخلية الشيء الذي أغلق أبواب الاستثمار وعمّق من تفقير هذه المناطق .

Skip to content