حوارات

الثورة ليست تغيير أنظمة سياسية، تبدأ الثورة من تغيير ذهنية الفرد وتغيير رؤيته إلى العالم

شكري المبخوت لـ"الجريدة المدنية"

سيماء المزوغي
صحفية

تحدّث شكري مبخوت، الجامعي والأديب الحائز على عديد الجوائز الوطنية والعالمية، عن المشهد التونسي كما يراه اليوم من مختلف اتجاهاته وتجلياته، وتطرّق إلى “التخوفات المشروعة”، وأزال الغبار عن مفهوم “التشاركية” في بناء عقد اجتماعي تونسي يعلي قيمة العقل، وتحدّث عن النخب السياسية “الفاسدة” وانتقد ما سكت عنه المجتمع المدني، كما تحدّث عن ماهية الجيل “المائع”.

لقد ناضل(ت) التونسيين(ات) من أجل الحقوق والحريات ومن أجل أن يلعب المجتمع المدني دوره الحقيقي في الضغط على سياسات البلاد وفي مراقبة مدى تطبيق واحترام حقوق الإنسان، ومن أجل إدراج مبدأ المساواة بين الجنسين في الدستور ومن أجل ضمان الحقوق والحريات العامة والفردية ومن أجل الاعتراف بالحقوق السياسية والمدنية والحقوق الاقتصادية والاجتماعية وكل الحقوق بمختلف أشكالها.. كيف ترى اليوم واقع الحقوق والحريات في تونس في ظل الوضع الراهن وماهي التهديدات التي تواجه ملف الحريات باعتقادك؟

إذا كانت هذه الحقوق والحريات والأجيال المختلفة لحقوق الإنسان نتيجة لتراكم، تراكم ليس لدى الجماهير ولكن تراكم لدى النخب، نحن نعرف أنّ هذه القضية ليست قضية جماهيرية، هي قضية دافع عنها وتبناها ودعّمتها النخب، ومن هذه الناحية هذه الحقوق أصبحت جزء من هذا الإرث المدني التونسي، لدينا قاعدة صلبة يمكن البناء عليها، من هذه الناحية، حقوق الإنسان ليست شيئا مطلقا، لأنها دائما تتعرّض إلى مخاطر وتهديدات متنوعة، حتى في البلدان التي ذهبت أشواطا كبيرة في هذا الاتجاه، المسألة ترتبط بمدى وجود هذه المبادئ الحقوقية بمختلف أجيالها في تصورات النخب الحاكمة أو المعارضة خصوصا أنّ المجتمع المدني يهدف أن يكون ضمير المجتمع. من هذه الناحية التخوفات الموجودة هي تخوفات ظرفية ترتبط بقرارات قيس سعيد، هذه القرارات قد يكون فيها شيء من الحدّة، وأنه لم يتبع الإجراءات المناسبة.. ولكن هو تخوّف مشروع، لأنه فكرة هذه المنظومة الحقوقيةارتبطت بمرحلة الانتقال الديمقراطي، ولكننا نعلم جميعا بكل موضوعية، أنها كانت منظومة زائفة وفاشلة شكليا وعمليا.. والناس أحرار بأن يقارنوا إيجابيات وسلبيات المرحلة السابقة والمرحلة الحالية أو العكس، أنا لا أدخل في هذا وأعتبر أنّ مواصلة النضال من أجل تكريس الحقوق بمختلف أجيالها أمر ضروري، نحن لا ننسى أنّ كل ما يتعلّقمثلا بالحقوق البيئية منصوص عليه دستوريا ولكن لا يوجد له أي انعكاس في الفترة السابقة.. كل ما يتعلّق بالحقوق الاقتصاديةوالاجتماعية والثقافية، ماهي تطبيقاته؟ ما هي ترجمته؟ كأنّ هذه التخوفات ترتبط فقط بما يسمى حرية التعبير والتنظّم إلى غير ذلك، كما أن الحقوق السياسية مهمّة جدا ولكنها في ترابط حقوق الإنسان هي جزء مكوّن فقط..

الآن أخشى ما أخشاه أن تنقلب كل العملية، وتصبح كل هذه الحقوق الاجتماعيةوالاقتصادية والثقافية لها الأولوية المطلقة، وهذا أمر حسن، ولكن دون المساس بالحقوق والحريات السياسية والبيئية وغيرها.

التخوفات مشروعة لأنّ ما قام به قيس سعيّد، أحيانا يناقش بشدّة وبحدّة وبقوة، يناقش في المستوى الإجرائي ولكن الرجل يضع إصبعه في كثير من الحالات على مشاكل حقيقية تمس هذه الحقوق في تكاملها وفي ترابطها، عندما يتحدّث بشكل ما عن تجويع الشعب، دعنا من العبارات التي تبدو شعبوية، وهي بالفعل في الكثير من الأحيان شعبوية، هذا فيه تنبيه أنه لم يقع تفعيل الحقوق الاجتماعيةوالاقتصادية، وكأنّ المنظومة السياسية السابقة الحزبية وحتى المدنية، كانت تقدّم أولوية الحقوق السياسية، أرى أنّ هنالك مشكلة هي جزء من المنظومة الانتقالية. بالنسبة لي الانتقال الديمقراطي حتى وإن أخفق وحتى وإن أوقف سعيد هذا الانتقال المخفق، فإن الديناميكية الفكرية والاجتماعية والمدنية ينبغي أن تتواصل ولا يمكن لمجرد قرار سياسي ظرفي بالنسبة لي أن يعطل مبدئية المطالبة بهذه الحقوق وأن يوقفه.  ليست لي تخوفات إلا من شيء واحد هو أن يصيب الإرهاق القوى المدنية والحقوقية وأن تتوقف عن أداء مهامها.

ولكن تمت شيطنة النخب في تونس إلى حد التخوين؟

الشعبوية هي أولا وقبل كل شيء، إلقاء كل التهم والمشاكل على ظهر النخب، وجزء من هذه النخب نفسها تمارس ذلك، ونحن لسنا استثناء في هذا، المهم أنّ رد الفعل يدل عل وجود مشكلة حقيقية.

ماهي هذه المشكلة؟

نحن نعرف أنّ النخب السياسية التي ظهرت والتي قدّمت نفسها على أنها تمثّل الشعب هي نخب فاسدة، ليس لأنها نخب سياسية، 

ولكنها لأنها نخب سياسية حتى نبرؤها، هي نخب فاسدة تتلاعب بمصالح الناس، يلتقي فيها السياسي بالمالي، وباتخاذ قرارات ضد مصالح المجتمع ومصالح البلاد. رد الفعل هذا، رغم طابعه الشعبوي، إلى حد ما رد فعل طبيعي إزاء نخبة سياسية لم تستطع أن تبرهن على أنها تدافع على حقوق الناس. أنا لا أبرّر ما يوجد من قيس سعيد ولا من جماعة الشعب يريد أو غيره، ولكن علينا أن نعترف، ولا نقول الأمور طيبة والسماء صافية والعصافير تزقزق، والحال أنّه رأينا كوارث نشاهدها أمام أعيننا بشكل يومي. إذن قضية الشيطنة والتمسّك بنوع من النقاء، علينا أنّ نتخلّص من التصورين المثاليين في الحدّين الأقصيين، وننظر للأمور على أنها ديناميكية، المهم إلى أي شيء ستفضي هذه الديناميكية؟

إلى أي شيء ستفضي هذه الديناميكية والتونسي ينتخب حسب أهوائه؟

في كل دول العالم ينتخب الناخب حسب أهوائه، هنالك حملات إعلامية أحزاب تتقدّم دون برامج حقيقية أو تكذب علينا، هذا ما كذبت فيه النهضة وكذب فيه النداء، الناس لهم غريزة وحدس، يرون الكذب..  النهضة يجب أن تتحمّل مسؤوليتها فيما حدث، والأحزاب الكبرى وعلى رأسها النداء، تتحمّل أيضا المسؤولية في جعل الناس لا يثقون في السياسيين،

من يستطيع اليوم أن يقدّم تحليلا عقلانيا للأحزاب السياسية؟ وعلى أي أساس وما هي برامجها؟ لا يوجد، حتى الأحزاب التي من مهامها عقلنة الحياة السياسية وتقديم تصورات عقلانية وبرامج براغمتية للخروج من أزمات البلاد المركبة، هي نفسها ليست عقلانية وبالتالي عشنا فترة الاستقطاب الثنائي، حتى إذا قالت النهضة شيئا جيدا يصبح سيئا، وإذا قال النداء شيئا جيّدا يصبح سيئا، لسبب بسيط حسب رأيي، لأنه لم يقع أي حوار ونقاش عمومي حقيقي، كل النقاشات التي تمت هي نقاشات للإستقطاب، مع أو ضد.الثالث المرفوع وهو مصلحة البلاد وكيفية الخروج من الأزمة،وهذا لم يطرح أبدا.

الأمر الثاني أنّ في كل هذه النقاشات لا نجد فيها إلا صوت واحد مرتفع أو صوتان، صوت رجال القانون والمجتمعات ليست قوانين فقط، وصوت السياسيين الكاذبين، لأنّ السياسي مهنته هنا الكذب، وأحيانا الكذبة الجميلة تصنع الحلم، ولكن هؤلاء ليس لهم إلا الأكاذيب البائسة المفضوحة. النخبة التونسية لم تشارك في نقاش عمومي حقيقي لأن النقاش الحقيقي يقوم على الحجاج والعقلانية ولا يقوم على الأهواء.

أعطيني مثالا؟

مثلا، الكرامة مفهوم جوهري سواء في الثورة التونسية أو في المنظومة الحقوقية الكونية، هذا المفهوم تشلّك أصبح شلاكة، لأنّ كل شيء يقدّم باسم الكرامة دون الإنتقال من مفهوم الكرامة المجرّد إلى سياسات وإجراءات، هذه الإجراءات لا يقوم بها الشعب الذي يريد بل تقوم بها النخب التي تعرف.

بين الشعب الذي يريد والنخب العارفة بتجارب كونية وتجارب شعوب أخرى، وعارفة بخصائص الواقع التونسي ومشاكله، حين نترك الأمور دون النقاش في هذا المعنى، يصبح هذا رأي الحزب الفلاني وهذا رأي الحزب الفلتاني، بمعنى هؤلاء لا يملكون تصورات ولا حلول، يكذبون ..

نحن لدينا في تونس شيئان مهمان، لدينا نخبة مما يسمى بالخبراء والمفكرين والفلاسفة والتقنيين وغيرهم ولدينا إدارة قوية وفيها كفاءات كبيرة، كيف نجد صيغة لتشريك هؤلاء .

المجلس الاقتصاديوالاجتماعي الذي كان موجودا، الآن أين هو؟ فكرة مجلس الحوار، أين هو؟ يعني حتى وإن وجدت هياكل وأفكار عن هياكل فهي غير مفعلة، الحوار لا يتم في تلفزات فقط، الآن أصبح كل حوار في الغرف المظلمة التي يتحدّث عنها سعيد وهي ليست حوارا إنما تبادل مصالح، وهذا أصبح مكشوفا، أتحدّث عن الحوار العقلاني الحجاجي الذي يقدّم الحلول بعيدا عن المصالح الحزبية ومصالح قوى الفساد ومصالح الذين يتمتعون بالامتيازات.

نحن في تونس نفتقد لمشروع مجتمعي يعلي قيمة العقل، تصيغه النخبة العارفة، ولكن المجتمع التونسي كأنه مازال يؤمن بصورة الزعيم الذي لا يشقّ له غبار، الزعيم الأوحد الذي يقول كن فيكون وله عصا سحرية؟

جوهر ما كنت أقوله هو هذا، لنترك جميع العيوب في الجماهير والنخب والزعامات والقيادات والأحزاب، الان ما هو مطلوب فكرة التشاركية، هل ذهبنا في تحقيق معنى التشاركية؟ والتشاركية ليست التوافق بين الأحزاب، لأن الأحزاب تتوافق على خرابها، وهذا ما حدث بين النداء والنهضة، توافقوا على مصالح انتهازية بائسة لا خير يرجى منها للبلاد. التشاركية هي كل هذه الكفاءات، ينبغي أن تكون لها فرصة في التفكير في مستقبل البلاد، لنأخذ الحد الأدنى، ما هي مشكلات البلاد؟ أما مشروع وطني كامل، هذا أمر يتضمنه الدستور ولا يوجد تفعيل له لأن كل شيء بيد السياسيين وهنا المجتمع المدني يتحمّل جزءا من المسؤولية لأن الفساد وصل أيضا للمجتمع المدني وينبغي أن نقول أن المجتمع المدني الذي تفتخر به تونس ويعتبر ضمانة من ضمانات الديمقراطية ينخره أيضا فساد بشكل آخر، علينا أن ننظر من يموّل؟  وماذا يموّل؟ من يمولك ليس حبا فيك، دراسات كبيرة تقوم بها مكاتب وبأيادي تونسية وعقول تونسية، ما هي مصلحة البلاد منها؟ هذا ما لا نريد أن نتحدّث عنه، لأنه يمس مصالح الكثيرين وهذه الفورة التي ظهرت بعد 2011 في المجتمع المدني تحتاج إلى نقد، نحن ننقد السياسيين فقط وننقد الدولة التي لم توفر ولم تفعل، لكن علينا أن ننقد حتى هذا المجتمع المدني لأنه قد يكون في جانب من الجوانب شريكا في الفساد في أزمة البلاد.

بطبيعة الحال لا ينبغي أن يفهم موقفي على أنه تخوين ولكن هنالك أشياء غير مفكّر فيها. أنت حين تأخذ أموالا من جهات أجنبية، لا اعتراض لي، لكن ماهي أجندتك بشكل مباشر وغير مباشر؟ بعيدا عن منطق التخوين ومنطق الرضا بالموجود علينا أن نطرح الأسئلة. أنا ليست لي مصلحة في ضرب مؤسسات أو تنظيمات مدنية ولكن عليّ أن أنقد أيضا ممارسات وعادات أصحاب هذه التنظيمات لأن هنالك أشياء لم يفكروا فيها أو لا يريدون التفكير فيها أو يزعجهم أن يفكروا فيها.

قلت في حوار سابق لك أنّ “توجهات الجيل الجديد واهتماماته تغيّرت من الإيديولوجيات السياسية إلى الحريات الشخصية.. هذا الجيل يفكّر بشكل أفضل من سابقه”. لو تفسر لنا ذلك؟ وهل تجاوزت الأجيال الجديدة “أمراض“ الأجيال التي سبقتها؟
 

لا أريد أن أطرح المشكلة على أساس الأجيال، ربما استعملت الكلمة بطريقة متسرعة، المهم أنه يوجد شباب في تونس، لم أقم بدراسات سوسيولوجية ولكن كمواطن أتابع وأرى، عائليا، ومع طلبتي، ومع من ألتقيهم، أجد أمرين، إمّا شباب مخنوق في إيديولوجيات مغلقة، كالإيديولوجيات اليسارية أو الإسلامية أو القومية، هؤلاء هم نسخة رديئة من جيلي أنا لأنهم لا يعبرون عن أصواتهم وإنما يرددون بطريقة ببغائية أصوات قياداتهم أو زعاماتهم التاريخية، لذلك لا تجد لدى هؤلاء لا العمق الفكري ولا تجد قدرة على التجديد وتقديم مقترحات، نجد تكرارا لكلام تبيّن تاريخيا أنه لا يقدّم ولا يؤخر، حتى لا أقول تبيّن خطؤه. هنالك جيل اخر، غير مأدلج بالماركسية اللينينية، بالمرجعيات الإسلامية أو القومية العربية أو البعثية أو الناصرية إلى غير ذلك، هذا الشباب يبدو منفلتا من كل عقال، ويبدو شباب كما يقال في الأوساط الطلابية القديمة، شباب مائع، أي ليس صلبا من الناحية الإيديولوجية، لأنه يعيش ويمارس حريته بما يقدر عليه هو وبتكوينه الشخصي وبهذه المعارف التي يتيحها العصر الرقمي وبشوق قوي إلى الحياة وشغف للعيش. هؤلاء بالنسبة لي ألخصهم في عبارة واحدة “أنهم خرجوا من القوالب الإيديولوجية التي لم تقدّم شيئا غير الحلم في بعض الأحيان وإحساس الشاب بأنه ينتمي إلى كليّة تاريخية، وخرجوا إلى حرية الفرد. الثورة ليست تغيير أنظمة سياسية، الثورة ليست دولة دينية أو دولة مدنية، الثورة أعمق وتبدأ من تغيير ذهنية الفرد، تغيير نظرته للآخرين، وتغيير رؤيته إلى العالم وإلى جسده وإلى فكره، وتغيير سلوكه. أجد هذا الشباب أكثر تحررا، هم مثل الشباب في أي بلد من بلدان العالم يخترقون ما يبدو بالنسبة لمن سبقهم مستحيلا أو غير مفكرا فيه، وهذا كلام يبدو نظريا، ولكن خذي ما ينتجه الشباب من السينمائيين مثلا، نجد محور الهوية الفردية الجنسية، نجد مسألة القلق والأمراض النفسية، مثل المخدرات وتأثيراتها.. شبان أقل من ثلاثين عاما يصنعون مثل هذه الأفلام. لا أقول أن هذه هي الوحيدة التي ينبغي أن تسود ولكن علينا أن ننتبه إلى دلالاتها..

وقد أخذت مثال السينما فقط، الذي من خلاله يقدمون رؤيتهم الخاصة..

المشكلة الآن في من لديهم عقل قديم، هل يمثل هؤلاء مستقبل البلاد؟ وماذا سيقدمون؟

هذا السؤال نفسه فيه مشكلة، هم لا يقدمون أنفسهم على أنهم أصحاب تصورات وأفكار عظيمة يغيرونبها الواقع، هم يغيرون الواقع بتغيير ما بأنفسهم. وهم أيضا في حياتهم اليومية أكثرالتزاما ممن يدعون الالتزام.

وإذا تبنوا قضية دافعو عنها إلى أقصى حد.ومستعدون لمواجهة التمثلات الاجتماعية المتكلسة ويواجهونها بنحو صدامي أي بنحو ثوري.

إلي أين سيذهبون بكل هذا؟

لا أدري لأنهم يحملون طموح التنظير الفلسفي أو طموح تقديم تصوّر متناسق، هم في ثغرات هذا الجدار الاجتماعي والإيديولوجي يتسربون ليذهبوا إلى مكان آخر، إلى موضع آخر، إلى فكر آخر، إلى حياة أخرى..

Skip to content