مقالات

الجباية في تونس: بين معوقات الاقتصاد وضرورات التنمية

حسين الرحيلي
متخصص في التنمية المستدامة

1- تمهيد:

خلال العشر سنوات الاخيرة، وكلما اقترب موعد المصادقة على ميزانية الدولة، الا وطرحت المسألة الجبائية من طرف كل الفاعلين الاقتصاديين والمنخرطين في المجال التنموي والاجتماعي. كل ذلك بسبب توجه جل الحكومات ما بعد 14 جانفي 2011 إلى الجباية لتعبئة الموارد المالية اللازمة للانفاق الحكومي، وخاصة ضمان توفير أجور أعوان الدولة وامتيازات المسؤولين السامين فيها.

كما امتد هذا الاهتمام بالجباية إلى كل الفئات الاجتماعية، وخاصة الطبقات الوسطى والفقيرة، التي أصبحت لوحدها الدافعة الحقيقية للجباية (80% من الموارد الجبائية المباشرة لسنة 2019)، في ظل ارتفاع معدل الغش والتهرب الجبائيين من طرف المستفيدين الحقيقيين من الثروة المنتجة بالبلاد. وهو ما عمق وضع الاقتصاد وقلص من الاستثمار المباشر للدولة في كل القطاعات الخدماتية والحيوية للبلاد، باعتبار أن الموارد الجبائية هي الممول الرئيسي للتنمية في بلد مثل تونس.

2- الاقتصاد- التنمية والجباية: أي علاقة؟

قبل الخوض في العلاقة القائمة بين الاقتصاد – التنمية والجباية، وجب التأكيد على أن الجباية ليست منظومة مطبقة في كل الدول. بل إن الدول الريعية أو الدول ذات الاقتصاد الريعي، لا تعتمد في مواردها على الجباية، بل يمكن القول أن هذه الدول تمثل الجباية ببعديها المباشر وغير المباشر استثناء وليست القاعدة مثل السعودية التي ادخلت الآداء على القيمة المضافة ابان أزمة الكوفيد، كما تغيب الجباية على دول مثل قطر والكوبت والبحرين وبشكل عام الدول النفطية الخليجية. كما يمكن أن تفرض بعض الدول النفطية مثل الجزائر وروسيا والنوريج جباية مخففة خاصة المرتبطة بالدخل فقط.

أما بالنسبة للاقتصاديات المرتبط بالتنمية وخلق الثروة، فإن الدولة ومهما يكن موقعها من العملية التنموية، فإنها مطالبة بتوفير موارد تمكنها من الاستجابة لطلبات السكان من خدمات وطرقات ونقل وتعليم وصحة واستثمارات مباشرة في القطاعات الاستراتيجية. وهذه الموارد لن تكون حتما مرتبطة بالريع أو الإيرادات النفطية، بل بعائدات الضرائب المباشرة والغير مباشرة وبالموارد الذاتية المتأتية من الأنشطة والمشاريع التي تنجزها أو التي تساهم بجزء من رأسمالها.

تقاس قدرة الدول على تلبية متطلبات سكانها ومدى الرفاه الذي توفره للمواطنين بجدية المنظومة الجبائية وعدالتها من ناحية، وبقدرة الدولة من خلال قوانينها على مقاومة التهرب الضريبي الذي يمثل أحد أهم المعوقات التي تواجه اقتصاديات الدول التي تقوم مواردها على الضرائب من ناحية أخرى.

كما يمثل الضغط الجبائي أحد المؤشرات المهمة لهذه الاقتصاديات لقيس نسب توزيع الثروة المنتجة بين رأس المال ومنتجي الثروة الحقيقيين من العمال بالفكر والساعد.

ذلك أن الضغط الجبائي هو النسبة المئوية من الناتج المحلي الخام أي من الثروة المنتجة التي تدخل خزينة الدولة سنويا. ولكن المهم في كل ذلك ليست نسبة الضغط الجبائي بل هو مصدر هذه النسبة أي المساهمين الرئيسيين لكل هذه الموارد.

بناء على ما تقدم يتبين بشكل واضح إن الجباية أو المنظومة الجباية لآي دولة تعكس طبيعة الاقتصاد وخصوصياته، إضافة إلى أن نسبة الضغط الجبائي ومصادره تبين مدى قدرة الدولة على القيام بدورها تجاه مواطنيها، إضافة إلى مستوى العادلة الجبائية المطبقة، وطبيعة تقسيم الثروة ببلد ما. ومن هنا يمكن القول أن الجباية ليست مجرد إجراءات وقوانين هادفة لجمع المال لخزينة الدولة فقط، بل هي منظومة متكاملة وتعبيرة عن المنوال الاقتصادي والطبيعة الطبقية للدولة.

3- الجباية في تونس بين معوقات الاقتصاد وضرورات التنمية

تونس دولة لا ريعية بل هي دولة تعول بشكل شبه كلي على العمل والاستغلال الرشيد لمقدراتها الطبيعية النادرة في الكم والكيف. وبالتالي فإن موارد الدولة الرئيسية ليست الا موارد جبائية مباشرة وغير مباشرة وبعض الموارد المالية المتأتية من الشركات والمؤسسات الناشطة في القطاعات الانتاجية والتنافسية كقطاع الفسفاط والنفط والاتصالات. بالتالي فإن الميزانية العامة للدولة التونسية تتمحور حول الموارد الجبائية بشكل رئيسي، اضافة الى بعض الموارد الأخرى الغير جبائية.

أما على مستوى مساهمة كل مصدر من مصادر التمويل العمومي للميزانية العامة للدولة، فإنه يمكن القول أن هذه المصادر تتنوع وتتطور أو تتراجع في قيمتها وفق المرحلة والاختيارات التي تميز الاقتصاد المحلي.

من خلال التطورات الكبرى التي شقت الخيارات الاقتصادية والتنموية التونسية منذ تجربة التعاضد مرورا بمرحلة سياسات الانفتاح بداية السبعينات، إلى فترة الاصلاح الهيكلي المفروض من طرف صندوق النقد الدولي سنة 1986، إلى إمضاء اتفاق الشراكة مع الاتحاد الاوروبي سنة 1995 والشروع في تفكيك المعاليم الديوانية، تغيرت السياسات الجباية التونسية، اذ تطورت من حيث المصادر من التركيز على الموارد النفط والفسفاط وعائدات الشركات والمؤسسات الوطنية إلى ادخال معاليم جبائية غير مباشرة مثل الآداء على القيمة المضافة (TVA ) ومعاليم الاستهلاك للمواد والسلع الكمالية، وذلك ارتباطا بتراجع الموارد المالية الريعية والمعاليم الديوانية خاصة بعد 1995. إذ تراجعت موارد الدولة على كل المستويات، حيث تراجعت الموارد الجبائية الديوانية من 22.5 %من ميزانية الدولة سنة 1990 إلى 4.5 % فقط سنة 2015 لتستقر سنة 2016 في حدود 2.5 % فقط. كما تراجعت الموارد الغير جبائية من 17 % بداية التسعينات إلى حدود 3.5 % سنة 2015 لتصل إلى أقل من 2.8 % سنة 2016.

4 – الجباية في تونس: من الحل إلى المشكل

أمام تراجع الموارد الذاتية غير الجبائية للدولة بسبب تسريع وتيرة التفويت في المؤسسات العمومية الناشطة في القطاعات التنافسية من ناحية، وانهيار نسب المعاليم الديوانية التي كانت تمثل جزء مهما من الموارد الجبائية للدولة، فإن الحكومات المتعاقبة ومنذ عهد بن علي، اختارت الترفيع في نسب الجباية المباشرة على الدخل وعلى مرابيح الشركات، اضافة الى الترفيع في معاليم الجباية غير المباشرة المتمثلة أساسا في معلوم الآداء على القيمة المضافة، الذي أصبح يشمل جل المواد والسلع حتى الادوية، عدى بعض المواد الأساسية، ومعلوم الاستهلاك على المواد والسلع والبضائع الكمالية وفق تصنيف الدولة. وهو ما رفع من قيمة هذه الموارد الجبائية، التي اصبحت تمثل 2/3 القيمة المالية للموارد الجبائية للدولة. وهو ما يعكس فعليا غياب العدالة الجبائية في تونس. إذ أن الفقير والمتوسط الدخل والغني يشترون نفس المواد والسلع والتجهيزات بنفس الضريبة.

كما أن الاجراءات الجبائية المتواترة في كل ميزانية سنوية، رفعت من الضغط الجبائي في تونس إلى حدود 25.4 % وفق النسب الرسمية لوزارة المالية، ويمكن أن يصل إلى 33 % وفق الخبراء الماليين. أي أن نسبة الضغط الجبائي المسلط على المواطن التونسي يساوي نسبة الضغط الجبائي للمواطن الفرنسي، رغم أن الفارق في متوسط الدخل يصل إلى 4 مرات.

وأمام هذا الضغط الجبائي التصاعدي، اضافة إلى تغير القوانين والاجراءات الجبائية كل سنة، فإن التهرب والغش الجبائيين أصبحا القاعدة التي تميز الوضع الجبائي في تونس، خاصة أمام ضعف الرقابة الجبائية وقلة المراقبيين الجبائيين لدى الادارة العامة للجباية.

كما أن سطوة رجال الاعمال والمهربين على رجال السياسة بعد 14 جانفي 2011، قد خلق مفارقة جبائية غريبة واستثنائية في العالم، إذ أن مساهمة الشركات في الجباية المباشرة لا تمثل الا 11 % من جملة الموارد الجبائية العامة للدولة، أي 4 مرات أقل من مساهمة الضريبة على الدخل للعمال والاجراء.

وأمام قلة خبرة حكام تونس الجدد منذ 2011 إلى اليوم، وهرولتهم إلى الحلول السهلة في تعبئية الموارد المالية، فإن حصر جلب الموارد من الموظفين والعمال والاجراء في القطاعين العام والخاص أصبحت القاعدة الأساسية لفلاسفة وزارة المالية. لذلك فان العائدات الجبائية لم تتطور بل وصلت الى حدودها القصوى، باعتبار أن دافعيها قد استنزفوا بشكل لم يعد بامكان الترسانة الجبائية الوطنية ضخ المزيد منها. الى درجة أن المعاليم الجبائية وصلت إلى وصولات البيع بالمساحات التجارية الكبرى بقيمة 100مليم للتذكرة. مما يعطينا صورة إلى أي درجة انحدرت المنظومة الجبائية التونسية من أجل تعبئية المال من المواطنين.

كما تعتبر المنظومة الجبائية التونسية مثالا يدرس في العالم فيما يتعلق بغياب العدالة الجبائية على مستوى المعاليم والاداءات غير المباشرة، اضافة الى ارتفاع عدد المنخرطين في النظام الجبائي الجزافي الذي أصبح في الدول التي تحتم مواطنيها في ذاكرة التاريخ. الا أن في تونس يشمل هذا النظام حوالي 430 الف يدفع 90 % منهم معدل قيمة مالية سنوية ما بين 100 و200 د.

كما أن عدم استقرار المنظومة الجبائية، قد كان سببا مباشرا في تراجع الاستثمارات الاجنبية المباشرة وحتى المحلية. اذ ان من أهم شروط تطور الاستثمارات وقدومها إلى أي بلد هو استقرارها السياسي ومنظوماتها الجبائية.

لذلك تحولت المنظومة الجبائية في تونس – في ظل حكم الايادي المرتعشة وغياب الكفاءة الخبرة في ادارة الشان العام- من حل لمشاكل المالية العمومية الى مشكل لها وللاستثمار وللاقتصاد بشكل عام. فلا يمكن حل مشكل الجباية في تونس بعزل عن نمط التنمية. ذلك ان الاصلاحات الجبائية الحالية لا تغدو ان تكون تجميل لنمط تنموي مازوم اصلا ولا يتنج ثروة بل يدمرها بمرور الزمن.

Skip to content