مقالات

الطريق السيارة للرئيس والمنعرج الكبير

فطين حفصية
صحفي
استخدم أمين عام الاتحاد العام التونسي للشغل نور الدين الطبوبي، في تصريح صحفي أعقب أشغال الهيئة الادارية الثانية المنعقدة مؤخرا، مصطلح السير في الطريق السيارة في تشبيه مجازي لقرار رئيس الجمهورية المضي بأقصى درجات السرعة في ترتيب شكل الحوار الذي حدده بمقتضى المرسوم 30 تحت غطاء “هيئة وطنية استشارية من أجل جمهورية جديدة” مكونة من 3 أذرع : اقتصادية اجتماعية، قانونية، حوار وطني، وما تقتضيه العلامات المرورية الأساسية في الطرق السيارة من إجبارية السير في اتجاه مباشر دون عودة إلى الوراء وتضمين الحد الأدنى من السرعة المسموح بها.
 
تشبيه رمى به شرح ملابسات ما خرجت به سلطة القرار الثالثة في هيكلة المنظمة وهي الهيئة الإدارية الوطنية 1  و 2 حول عدم المشاركة في هذا الحوار بصيغتيه – السابقة واللاحقة – باعتباره حوار النتائج المنتظرة  والتصورات المعدة سلفا وفي ظل ضيق ما تبقى من فسحة. “الإسناد النقدي” لخارطة الطريق المعلنة من قبل رئاسة الجمهورية قبل نحو نصف عام، إذ بدا وبشكل واضح أن دائرة المتمسكين بمسار ما بعد 25 جويلية والمقتنعين بأن الحوار الوطني  يشكل “قارب النجاة الأخير”  استوفوا كل فرص التعديل بصفة نهائية بحكم الواقع أولا والزمن ثانيا مع بدء العد التنازلي المحدد في 20 جوان لتقديم مسودة الدستور الجديد وتوصيات اللجان الاستشارية المحدثة.
 
التشبيه بالطريق السيارة تتقاسمه المنظمة الشغيلة مع مكونات مدنية وسياسية أخرى أصبحت بدورها في “حرج  كبير” من الأزمة الحرجة التي وصلت إليها البلاد وعدم تزحزح المواقف من هذا المعسكر أو ذاك، فلا رئيس الجمهورية قام”بمراجعات تكتيكية” معهم أو التقط الرسائل والدعوات بضرورة تشاركية أوسع وإعادة النظر في منهجية البناء الحواري ولا هذه المنظمات أو الأحزاب وجدت مكانا لها تحت الشمس يبعدها موضوعيا وفعليا  بالنظر الى موقفها من الحوار وشكله ولجانه عن صف “جبهة المعارضة” التامة لمسار 25 جويلية خصوصا أنها تتفق جميعها على تفكيك أطرافها تحت مقولة : ما فائدة أن نجرب الشخوص ذاتهم والموضوعات ذاتها في حوارات أفضت إلى”كوارث”  وتفاهمات مغشوشة من قبل.
 
إن هذا الموقع “المؤلم” للاعبين رئيسيين في ادارة الشأن العام وإسقاط ” عدم الانحياز ” لهذا أو ذاك لن يستمر طويلا تحت الإكراهات المباشرة وغير المباشرة  والتوازنات الداخلية لكل منها إذ  يتطلب قبل فوات الآوان حلين لا ثالث لهما : إما رسم ملامح حوار قد يكون أكثر فائدة ونضجا باعتبار أن سياسة الكراسي الفارغة تلغي وجود أي تعبيرة سياسية او اقتصادية او اجتماعية دون أن يعني ذلك الاستجابة إلى بعض الدعوات من أجل خلق فضاء  أو إطار حواري مواز  بل إنتاح مضمون حقيقي بديل في مناخ يغني فيه “كل على ليلاه”  أو  اتباع سياسة “الواقعية الانتظارية” في أزمة اللاعودة وتحميل المسؤولية لمآلات الوضع لمن يمتلك مفاتيح الحل في جيبه.
 
الأسئلة المتزاحمة 
 
لا يغيب في كل ذلك عن المتابعين طرح جملة استفسارات حول هذا الآتي في ظل هذا النوع من التيه في المسارات فالجميع يدرك نظريا أن كل مرور بقوة أو حوار أو استفتاء بمن حضر هو نوع من المغالبة لا انتصار فيه لأي طرف سواء كان مؤيدا او معارضا أو حتى من المؤمنين بصحة الطريق الذي يسير فيه رئيس الجمهورية لكن كل هؤلاء مجتمعين يتبادلون مواقع وأدوات الضغط فقط بعيدا عن منطق التصادم التام وهذا المهم إلى الآن في الأزمة المجهولة العواقب.
 
فلاءات الرئيس التي استتبعتها لاءات أخرى مقابلة قد تسبب في نهاية المطاف حصارا ذاتيا لكل هؤلاء  وإن بدرجات تأثير وتأثر مختلفة : الرئيس في قصره قبيل الانتخابات البرلمانية القادمة عند فشل اختبار الاستفتاء وفتح جبهات التشكيك والشرعية والمنظمات الوطنية في مربعات الأزمة الاقتصادية والاجتماعية لدى البعض أو الانقسام الحاد والتشظي للبعض الآخر (الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان أو الاتحاد التونسي للفلاحة والصيد البحري)  والأحزاب في مساحة الفشل لوجودها على الهامش الضيق للقرار الوطني وتحميلها مسؤولية التسبب في ما وصلت إليه البلاد من نتائج كارثية على جميع المستويات طيلة عقد من الزمن، في كل هذا للشد والجذب ستكون البلاد الخاسر الوحيد في الأزمة التي اتخذت شكلا جديدا قبيل المحطتين الأساسيتين في خارطة الطريق أي الاستفتاء ثم الانتخابات.
 
إن جملة أسئلة تزدحم الآن لدى التونسيين ولا بد أن تجد أجوبة سريعة  : ماذا يحصل حين تكون تونس على حافة استنساخ نماذج انسداد سياسي قريبة منها في الجغرافيا والتاريخ واللغة؟ ما مدى تأثير الزمن السياسي المأزوم على حيرة الواقفين على باب التغيير الاقتصادي الاجتماعي المأمول؟ وكيف ستنتهي روزنامة خارطة الطريق التي انطلقت منتصف جانفي الماضي ليغلق قوسها نظريا منتصف ديسمبر القادم والحال أن الأحزاب السياسية أحيلت على البطالة التقنية؟ 
 
يبدو رئيس الجمهورية في طريق سالكة لإقامة الاستفتاء وبناء مشروعه دون أي حزام سياسي أو مدني ولا يمكن أن يعود إلى الوراء كما يكرر دائما إلا في حالة  صيف اجتماعي ساخن جدا وهو أمر مستبعد بدرجة كبيرة عند استحضار سوسيولوجيا الاحتجاجات وجغرافيا التحركات، وظهر واضحا أن بيداغوجيا الرئيس حسمت الموقف من المجتمعين المدني والحزبي بعد تنزيل المرسوم 30 وأوامره معولة في ذلك أيضا على عزلهما عن بعض ووجود شبه “مزاج عام” يدفع  بطبعه نحو تحجيم دور الأحزاب بل تحييدها بأقصى ما يمكن من الدرجات.
 
سيكون لذلك الأثر البالغ في ماتبقى من مسارات فالاستفتاء المفتوح على إجابتين بنعم أو لا سيفتح الصراع  مرة أخرى على جولات خارج الصندوق مهما كانت نتائجه إذ شرعت عدد من الأحزاب المعارضة في تجديد  النفخ في معركة الشارع والشرعية  وشحذ التعبئة لمقاطعة نشطة له ولنتائجه، في حين تبدو المكونات المدنية خصوصا الشريكة في ضرورة  عدم العودة إلى 24 جويلية  (اتحاد الشغل، الرابطة، المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، جمعيتا النساء الديمقراطيات والنساء التونسيات للبحث حول التنمية وتشكيلات أخرى ومستقلين وشخصيات وطنية ومثقفين)  أمام استراتيجية تكوين جبهة مدنية تعديلية  تحاول مسايرة اختلال التوازن الحاصل بعجز  أحزاب المعارضة القديمة والجديدة على بلورة مشروع معارضة وطنية ناجع وشامل ويحظى وشخوصه بثقة الشارع السياسي العادي.
 
التحول في مقاربة الأزمات
 
لن يحجب السباق ضد الساعة نحو الدستور والاستفتاء وحالة الترقب السائدة ارتفاع المخاطر العالية اقتصاديا واجتماعيا بالنظر إلى عوامل خارجية (الاضطرابات الإقليمية حرب أوكرانيا وقبلها الجائحة) وداخلية والتجاء البلاد للمرة الثالثة منذ 2011 إلى صندوق النقد الدولي ومتابعة النقاشات التقنية معه للحصول على دعم مالي جديد لإنقاذ الاقتصاد الذي يتخبط بفعل الأزمات المتتابعة من الانكماش وارتفاع مؤشرات التضخم والدين العمومي والبطالة.
 
هذا التمشي الدولي لن يكون هذه المرة طريقا سيارة  لرئيس الجمهورية وحكومة نجلاء بودن مثلما استعار أمين عام اتحاد الشغل سابقا العبارة بقدر ما سيكون مفروشا بشروط “مأساوية” تستدعي إصلاحات عميقة منها خفض حجم الوظيفة في القطاع العام ورفع الدعم تدريجيا عن عدة مواد فضلا عن حزمة أخرى من الشروط المنذرة حتما بالاحتقان الاجتماعي وخطوط حمراء نقابية ما يطرح ضرورة  توازي المقاربات في منهجية رئيس الجمهورية التي تكاد تختزل كل اهتماماتها في ترتيب أوراق “الجمهورية الجديدة”  الموعودة.
 
إن البحث عن قشة صندوق النقد الدولي لانقاذ الاقتصاد المحلي من الغرق أكثر ستقابل بعدم تناغم المنظمة الشغيلة مع الفاتورة باهضة الثمن التي يطرحها المانح الدولي من جهة والحكومة من جهة أخرى أو ما يطلق عليها اقتصاديا ب “قوة الأمر المالي الواقع” فضلا عن وصول اختبار ضبط النفس لتشكيلات نقابية جهوية وقطاعية إلى مداه لجملة تراكمات سابقة واتفاقيات غير مفعلة، أما الطبقة الوسطى التي كانت مفتاح السلم الاجتماعي وتعاين يوميات الأزمة فتبدو سرعة اهترائها أكثر عنوانا آخر للأزمة، كل ذلك سيجعل الأجندا السياسية والدستورية الضاغطة أمام رئيس الجمهورية تجابه اختبار أشد عسرا وهو تقلص انتظارات فئات اجتماعية واسعة وخصوصا الشباب والعجز الواضح في علاج جسم اقتصادي مسكون بالعلل ورخو ويفتقد مناعة كافية.
Skip to content