مقالات

الكرامة لا تؤجل : العمل اللائق بين النصوص والتطبيق في تونس

نصر الدين ساسي
صحفي

يعيد اليوم العالمي للعمل اللائق، الموافق للسابع من أكتوبر من كل عام، طرح العديد من الأسئلة ونقاط الإستفهام الجوهرية التي لم تفقد راهنيتها وإلحاحها بشأن الواقع المهني والإجتماعي لعموم العمال التونسيين في مختلف القطاعات، أسئلة تترافق مع الرحلة الأزلية للعمال في بحثهم المستمر عن كرامة مهنية حقيقية تتجاوز صدى الشعارات الرنانة. يعرف العمل اللائق، وفق منظمة العمل الدولية، بأنه عمل منتج يوفر دخلا عادلا، وأمنا وظيفيا، وحماية اجتماعية شاملة، وحوارا اجتماعيا فاعلا، ضمن بيئة عملٍ تضمن المساواة بين الجنسين، وتكافؤ الفرص، واحترام الحريات النقابية.

وإذا كان هذا المفهوم قد دخل النصوص القانونية والاتفاقيات الوطنية منذ أكثر من عقد، فإن التحدي اليوم في تونس هو تحويل هذا المبدأ إلى منظومة متكاملة للحقوق تشمل الأجر، والصحة والسلامة، والتغطية الاجتماعية، وحقّ التنظيم النقابي، والتأمين ضد البطالة والعجز والشيخوخة.

من العقد الاجتماعي إلى بروتكول العمل اللائق: التزامات مؤجلة

منذ توقيع العقد الاجتماعي التونسي سنة 2013 والإمضاء الثلاثي على برنامج العمل اللائق 2017–2022، التزمت تونس رسميا ببناء شراكة ثلاثية بين وزارة الشؤون الاجتماعية والاتحاد العام التونسي للشغل والاتحاد التونسي للصناعة والتجارة والصناعات التقليدية. وقد شكل هذا الالتزام نقلة نوعية في إدارة الشأن الاجتماعي، غير أن ضعف التنفيذ، وغياب المتابعة، وتجميد المفاوضات منذ سنوات، جعل تلك المرجعيات تفقد زخمها لتبقى تونس مدعوة مجددا إلى صياغة برنامج وطني جديد للعمل اللائق 2025–2030 يحدد أهدافا كمية ونوعية، ويشمل القطاعات غير المهيكلة ومؤسسات الاقتصاد الاجتماعي والتضامني، لضمن ربط السياسات الاقتصادية بالحقوق الاجتماعية.

الوظيفة العمومية: هشاشة متزايدة وغياب الحماية الوقائية

في الوظيفة العمومية، تتفاقم مظاهر الهشاشة رغم أن القطاع يفترض أن يكون نموذجا للالتزام بالمعايير حيث يشتغل آلاف الأعوان بعقود مؤقتة أو صيغ تشغيل هشة، دون تغطية صحية كاملة أو مسارات مهنية شفافة.

وتشير تقارير نقابية إلى تدهور بيئة العمل في المؤسسات التربوية والإدارات والمرافق العمومية، حيث الاكتظاظ، وضغط المهام، ونقص وسائل السلامة المهنية. فالمدرسون والعاملون في الصحة والإدارة يعانون إجهادا وظيفيا ومشاكل نفسية متزايدة، دون منظومة واضحة للوقاية من المخاطر المهنية أو دعم الصحة النفسية في العمل.

إن الحق في بيئة عمل سليمة وآمنة جزء لا يتجزأ من العمل اللائق، كما هو الحق في الأجر والتغطية الاجتماعية.

القطاع العام: إصلاح المؤسسات لا يكون على حساب الكرامة

يعيش القطاع العام ضغطا مضاعفا بين إصلاح اقتصادي مطلوب وإنقاذ اجتماعي مؤجل. فبرامج إعادة الهيكلة التي تطرح تحت عنوان النجاعة والمردودية كثيرا ما تتجاهل البعد الإنساني فالعديد من المؤسسات العمومية تشكو اليوم نقص الموارد البشرية، وتأجيل المفاوضات القطاعية، وتدهور مناخ العمل. في هذا السياق، يصبح العمل اللائق رهانا مزدوجا فهو يفرض من جهة ضرورة تحديث الإدارة والحوكمة لضمان الاستدامة المالية. ومن جهة أخرى يستدعي حماية الأعوان من الهشاشة وضمان حقهم في التكوين، والترقية، والسلامة المهنية.

القطاع العام ليس عبئا على الدولة بل ركيزة للاستقرار الاجتماعي. والإصلاح الحقيقي لا يكون بضغط الأجور بل بتعصير الخدمات، وتأمين شروط العمل الكريم، ومأسسة الحوار الاجتماعي.

القطاع الخاص: غياب الإنصاف وتحدي الصحة والسلامة المهنية

أما في القطاع الخاص، فرغم تعدد الاتفاقيات المشتركة القطاعية، لا تزال فجوة التطبيق واسعة في العديد من القطاعات والمؤسسات، خصوصًا في القطاعات الصناعية والفلاحية التي تفتقر إلى الحد الأدنى من شروط السلامة المهنية.

حوادث الشغل في مواقع العمل في تزايد و وسائل الوقاية ضعيف، والرقابة محدودة، والتصريح بالمخاطر المهنية غير منتظم. إضافة إلى المعاناة الأزلية جراء ضعف الأجور، وغياب الضمان الاجتماعي في المؤسسات الصغرى والمتوسطة، وتهميش الحق النقابي.

من هذا الجانب يعني العمل اللائق في القطاع الخاص أولا الاحترام الصارم للتشريع الاجتماعي وثانيا تفعيل أجهزة المراقبة والتفقد، وثالثا ربط الامتيازات الجبائية للمؤسسات بمدى التزامها بحقوق الأجراء.

كما أن التغطية الاجتماعية يجب أن تشمل العاملات والعاملين في القطاعات الموسمية والزراعية، الذين يشكلون اليوم الحلقة الأضعف في سلسلة الإنتاج الوطني.

الاقتصاد الاجتماعي والتضامني: أفق جديد لعمل كريم وشامل

مع صدور القانون عدد 30 لسنة 2020، وبدء إنشاء التعاضديات والمشاريع الجماعية، برز الاقتصاد الاجتماعي والتضامني كأفق جديد لتشغيل الفئات الهشة: النساء الريفيات، والشباب العاطل، والعمال في الاقتصاد غير المنظم. لكن غياب التمويل الكافي، وضعف الحوافز، وغياب الاعتراف الإداري في بعض الجهات، جعل هذا المسار يتقدم ببطء.

والعمل اللائق في هذا الفضاء الإقتصادي الجديد يتطلب تمكينا فعليا عبر منظومة حماية اجتماعية مرنة وشاملة، وتكوين مستمر، ودعم لروح المبادرة الجماعية. فالاقتصاد التضامني ليس بديلا عن الدولة خيار يمكن أن يحقق العدالة الاجتماعية والاستدامة البيئية.

الحماية الاجتماعية: القلب النابض للعمل اللائق

تعتبر الحماية الاجتماعية العمود الفقري لأي سياسة عمل لائق. ورغم أن تونس تمتلك منظومتين للصناديق الاجتماعية (CNRPS وCNSS)، فإن التغطية لا تشمل سوى حوالي 70% من السكان النشطين، بينما يبقى مئات الآلاف من العاملين في الاقتصاد غير المنظم خارج أي حماية.

تعدد الأنظمة وتشتت الخدمات وإقتصارها على التقاعد والعلاج دون أن تشمل التأمين على البطالة، والرعاية الصحية الأساسية، والتعويضات العائلية، والدعم الوقائي في فترات الأزمات زاد من قصور هذه المنظومة بما أصبح يفرض ضرورة إصلاحها كشرط أساسي لتجسيد العمل اللائق وضمان العدالة بين الأجيال والفئات.

الصحة والسلامة المهنية: الحق المنسي

رغم تأكيد الإحصائيات الرسمية على تزايد حوادث الشغل المسجلة سنويا في تونس، خاصة في قطاعات البناء والصناعة والفلاحة والنقل إلا أن ثقافة الوقاية لا تزال محدودة، والإدارة العامة للوقاية والسلامة المهنية تعمل بإمكانياتٍ محدودة، وتفتقر إلى التنسيق مع مؤسسات الضمان الاجتماعي والتفقدية العامة للشغل.

كما إن إدراج الصحة المهنية ضمن أولويات الحوار الاجتماعي لم يعد ترفًا، بل ضرورة إنسانية واقتصادية فحماية حياة العاملين وتحسين بيئة العمل تسهم في رفع الإنتاجية وتقلل من كلفة التعويضات، وتعزز الثقة في المؤسسات.

المساواة وتكافؤ الفرص: بعد اجتماعي غائب

لا يكتمل العمل اللائق دون مقاربة المساواة الجندرية والعدالة المجالية فالنساء العاملات، خصوصا في الفلاحة والخدمات المنزلية ما زلن الأكثر عرضة للتمييز ولغياب الحماية زيادة على أن الفوارق الجهوية المتنامية بصدد تكريس أنماط مختلفة من التشغيل غير المستقر لذلك من الضروري اليوم اعتماد سياسة وطنية لتكافؤ الفرص في الشغل، وإدماج مبادئ المساواة في كل البرامج التنموية الوطنية وخاصة الجهوية.

الحوار الاجتماعي وتجديد العقد الوطني

العمل اللائق لا يتحقق بقرارات فوقية بل عبر حوار اجتماعي فعال ودائم بين الحكومة والاتحاد العام التونسي للشغل واتحاد الأعراف، مع توسيع هذا الحوار ليشمل مكونات المجتمع المدني وممثلي الاقتصاد التضامني وهذا يقتضي وجوب إرساء آلية ثلاثية قارة لتقييم تنفيذ الاتفاقيات وقياس الأثر الاجتماعي للإصلاحات لأن الاستقرار الاجتماعي لا يبنى بالصمت ولا بالتأجيل بل بالتفاوض الصادق والالتزام العملي.

من الشعارات إلى السياسات: الكرامة كمعيار وطني

العمل اللائق ليس شعارا أمميا يرفع في المناسبات، بل مؤشر وطني محدد لمستويات العدالة الإجتماعية فالكرامة في العمل هي المقياس الحقيقي لنجاح السياسات العمومية. وتونس، التي كانت من أوائل الدول التي تبنت نماذج من العقد الاجتماعي مدعوة اليوم وأكثر من أي وقت مضى إلى تحويل الالتزامات إلى سياسات مرتبطة بالمحاور المذكورة انفا وهي إصلاح الحماية الاجتماعية / ضمان الصحة والسلامة المهنية / توسيع قاعدة التغطية / حماية الحق النقابي وتحويل الكرامة إلى واقع ملموس. فالكرامة لا تؤجل بل هو الطريق الأوحيد نحو تنمية عادلة وسِلم اجتماعي مستدام.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *