مقالات

المجالس البلدية وأزمة الجدار العازل

خولة شبه
صحفية

على بعد 260 كلم من العاصمة تونس، تنتصب مدينة «العيون» من ولاية القصرين شامخة محاولة تجاوز ما يعانيه أهلها من فقر وتهميش. كان سكان هذه المدينة يأملون أن تجد التنمية طريقها الي المنطقة بعد انتخاب مجلسها البلدي في ماي 2018 ولكن في الواقع لا شيء تغير…

كان على سكان مدينة العيون من ولاية القصرين أن يتوجهوا مجددا الي صناديق الاقتراع في جوان 2019 لانتخاب مجلس بلدي جديد بعد أن تم حل المجلس لمرتين متتاليتين. ففي ماي من العام 2019 قدم 10 أعضاء من أصل 18 استقالتهم لوالي الجهة بعد عجزهم عن حل مشاكلهم الداخلية.

ديمقراطية غير تشاركية

حالة عدم الاستقرار هذه اعتبرها محللون نتيجة حتمية للصراع السياسي داخل هذه المجالس وتغليب المصالح الحزبية على المصالح البلدية في ظل رغبة بعض الأحزاب السياسية الجديدة في إيجاد موطئ قدم لها بالبلديات وهو ما عمق الأزمة بين أعضاء المجالس ورؤساءها.

حيث تتالت الاستقالات داخل المجالس البلدية وتحولت مسارح بعض هذه المجالس إلى حلبة صراع سياسي مصغر لما يحدث في مجلس نواب الشعب. وتشير الاحصائيات التي نشرها «مرصد بلدية» التابع لمنظمة «بوصلة» والذي يعمل على مراقبة عمل المجالس البلدية أن 33 رئيس ورئيسة مجلس بلدي قد استقالوا منذ انطلاق هذه التجربة الفتية من بينهم  15 رئيس ورئيسة من حركة النهضة و8 رئيس ورئيسة من حزب نداء تونس والبقية من قائمات محلية.

ولكن الخلافات السياسية وحالة عدم التوافق داخل المجالس البلدية أنتجت عمليا حل مجموعة من المجالس البلدية بعد استقالة 10 من أعضائها وإعادة الانتخابات الجزئية في كل من باردو (تونس) والسوق الجديد (سيدي بوزيد) والعيون (القصرين) وتيبار (باجة) والسبيخة (القيروان) والسرس (الكاف). ولكن هذه الأزمة التي لا يمكن أن ندرجها ضمن تصنيف «الظاهرة» كبدت الدولة التونسية الكثير من المصاريف الإضافية التي كان يمكن أن توجه إلى أعمال التمنية داخل المناطق الداخلية.

ويعلل أغلبية المستقيلين من هذه المجالس خطوة الاستقالة بـ «تفرد رؤساء البلديات بالرأي وعدم تفعيل الديمقراطية التشاركية». ويقول عضو المجلس البلدي المستقيل بـ «العيون» منجي القاسمي أن «هناك انفراد بالقرار داخل المجلس وفي ظل عدم توفر النصاب لسحب الثقة من رئيس المجلس قدم 10 منا استقالتهم فالإشكالية كانت مرتبطة أساسا بشفافية عمل المجلس وانفتاح رئيسه على مختلف الآراء وضعف تواصله مع بقية أعضاء المجلس البلدي».

وليس واقع أزمة «العيون» سوى تمثل لواقع مرير عاشته  عديد المجالس في مختلف المناطق، ففي الشبيكة من ولاية القيروان مثلا استقال  10 أعضاء مجلس البلدي أواخر نوفمبر 2019 واتهموا رئيسة البلدية بـ «عدم استدعائهم لجلسات البلدية واقصاء بعض أعضاء المجلس والانتهاكات اللفظية وعدم الجدية والكفاءة في التسيير والتصرف في الملك العام»، ولكن وبعد إقرار الانتخابات الجزئية بالمنطقة تراجع أحد المستقيلين عن استقالته وتم الغاء الانتخابات الجزئية، في الوقت الذي لم ينجح المجلس البلدي بالسبيخة من نفس الولاية في حل أزمة الاستقالة داخله وتم تنفيذ الانتخابات الجزئية أواخر شهر جانفي المنقضي.

هذا الواقع الداخلي المتأزم للديمقراطية التشاركية داخل المجالس البلدية التي حاول المشرع تفاديها أقام الدليل على أن الصراعات السياسية يمكن أن تكون أحد أهم الإخفاقات التي تعاني منها المجالس البلدية في ظل وجود عوامل الجذب إلى الخلف من داخل المجالس البلدية نفسها.

وفي الوقت الذي يواجه فيه رؤساء ورئيسات البلديات اتهامات بالاستبداد بالرأي يتمسك أغلبهم بالصلاحيات الواسعة التي منحها لهم القانون ترتيبيا وإداريا وما يترتب عليهم من مسؤولية في حال سوء التسيير. واعتبر 6 من رؤساء ورئيسات المجالس البلدية المستقيلين أنه يستحيل العمل مع المجالس البلدية في ظل عدم الانسجام والتوافق بين أعضاءها في الوقت الذي قرر 8 رؤساء ورئيسات الاستقالة بسبب ما اعتبروه تعطيل السلطة المركزية لعمل المجالس وضعف الإمكانيات.

أزمة الديمقراطية التفاعلية

والواقع أن أزمة المجالس البلدية وغياب الديمقراطية التشاركية  في اتخاذ القرار الداخلي جعل هذه المجالس عرضة لعديد الأزمات وحقق لها عدم الاعتراف من قبل السلط المحلية أحيانا وأحيانا أخرى تعطيلات في تحديد موازناتها وعرقلة عملها.

ويقول منجي القاسمي (عضو المجلس البلدي سابق) أن غياب الرؤية الواضحة والتواصل الداخلي يمثل عائقا أمام تقديم الخدمات للمواطن كالنظافة ويجعل المجالس في أزمة. ويقر القاسمي أن «بطئ تقدم انجاز مشاريع المجالس البلدية مرتبط أساسا بالعراقيل التي تضعها الإدارة والتعقيدات الإجرائية والإدارية فيما يتعلق بمجلة الصفقات العمومية وهو ما يعيق مشاريع تهيئة السوق البلدي مثلا و أشغال الحديقة البلدية رغم أن أموال التصرف فيها رصدت منذ سنتين».

وبذلك تؤثر الصراعات الداخلية داخل المجلس البلدي بـ»العيون» وغيره من المجالس البلدية على واقع المواطن ومستوى الخدمات التي يقدمها هذا الهيكل المنتخب، فبعد  حالة  التفاؤل التي عمت المناطق الداخلية في ما يتعلق بالقطع مع المركزية وتركيز الديمقراطية المحلية، بات المواطنون داخل هذه المناطق لا يخفون حالة الإحباط من الأداء الضعيف لهذه المجالس فلا شيء تغيير في الواقع ولا أثر لأعمال أغلب هذه المجالس في الشارع التونسي.

و تغيب عن أعمال أغلب هذه المجالس الشفافية فلا يمكن الحديث اليوم عن موقع الكتروني ينشر أعمالها وتقدم المشاريع المناطة بعهدتها ولا أثر فعليا لها في الواقع في ظل ضعف الديقراطية التفاعيلة.

حيث يشير تقرير «مرصد بلدية» التابع لمنظمة «البوصلة» إلى أن 43 بالمائة (العينة التي شملها التقرير) من المواطنين عبروا عن عدم رضاهم عن السياسة الاتصالية للمجالس البلدية في الوقت الذي كان 14 بالمائة منهم غير راضي تماما.

ولم تتجاوز حالة الرضى عن تواصل هذه المجالس الـ  2 بالمائة.

وتعكس هذه الأرقام  حالة عدم الرضى التي لا يخفيها المواطنون، وهي ليست وليدة فراغ فالمعلومة داخل هذه المجالس غير متاحة للعموم ولا يعتمد أغلبها عملية النشر التلقائي لموازناتها وأنشطتها حتى بلغ الأمر حد رفع عرائض اللوم والقضايا ضد المجالس البلدية.

ففي 8 جانفي 2019 وجهت مكونات المجتمع المدني والنشطاء والمواطنون برقية لوم إلى رئيس بلدية القيروان عبروا فيها عن خيبة أملهم إزاء غياب رؤية واضحة وعمل جدي وإجراءات عملية لتغيير واقع المدينة في ظل انتشار الانتصاب العشوائي والبناء الفوضوي واغتصاب الملك العام وغياب خطة اتصالية واضحة للمجلس البلدي.

واثر الاحتجاجات عدلت بلدية القيروان المدينة سياستها الاتصالية وعملت على احداث خطة مكلف بالاتصال داخل المجلس البلدي لضمان التواصل مع المواطنين ومنظمات المجتمع المدني والإعلام.

ويقول الصحفي بولاية القيروان ناجح الزغدودي أن «وجود مجتمع مدني واعي ومتحرك كان عاملا مساعدا لتغير واقع العملية الاتصالية ولكن أغلب المجالس البلدية بولاية القيروان تعاني قصور اتصاليا». ولا يخفي الصحفي تخوفه من عوائق الحصول على المعلومة داخل المجالس البلدية وتضارب المعلومات المصرح بها من قبل أعضاء المجالس البلدية لدى الإعلام.

وتشير الاحصائيات المنشورة من مقبل منظمة «البوصلة» إلى أن 21 بالمائة من المجالس البلدية بمختلف المناطق تعتمد وسائل الإعلام المسموعة في الوقت الذي تستعمل 9 بالمائة فقط كافة وسائل الإعلام الممكنة وهو ما يعكس غياب سياسة اتصالية واضحة لدى المجالس البلدية عموما.

و لم تطور طرق عمل جديد في التواصل والاعلان عن أنشطتها وبقيت في أغلب أنشطتها تكتفي بالمعلقات واللافتات والبلاغات الرسمية ولما لا الاكتفاء بالمعلقات داخل مقر المجلس البلدي.

ورغم وجود تجارب لمحاولة ادراج التواصل الاجتماعي والارساليات القصيرة ضمن منظومة الإعلام بجلسات المجلس البلدي لدعوة المواطنين والمجتمع المدني والاعلام للمشاركة إلا أنها تجارب محدودة.

ويقول الزغدودي أنه «لا تملك أي بلدية في ولاية القيروان مثلا موقع خاص بها للإعلان عن أنشطتها ودعوة المواطنين لحضور الاجتماعات كما أن هناك عديد الصفحات لنفس المجلس البلدي وتدير إحدى الصفحات كبلدية الشبيكة مثلا رئيسة البلدي السابقة».

ويصعب على ناجح كغيره من صحفي القيروان وبقية الولايات الحصول على معلومة دقيقة وآنية من قبل المجالس البلدية حتى في حال تقديمهم لمطالب نفاذ الي المعلومة.

ولا يخفي أعضاء المجالس البلدية الحاليين أو المستقيلين سوء التواصل الذي تعاني منه المجالس البلدية ويؤكد منجي القاسمي أنه «ليس هناك تفاعل بين المجالس البلدية والمجتمع المدني في علاقة بالشفافية والتشاركية وهناك غياب للتواصل مع المواطنين».

أزمة الشفافية هذه يغرق فيها أكثر من 100 مجلس بلدي من أصل 350 مجلس بلدي  لم يتجاوز مؤشر الشفافية فيه 10بالمائة في مجمل معاملته ما يعكس ضعف الديمقرطية التفاعلية داخل هذه الهيكل حديث الولادة وهو ما يعطل سير عمل هذه المجالس ويفقد أغلبها ثقة المواطن ويخلق داخله نوعا من الإحباط ينعكس عبر عدم الاهتمام بحضور جلستها ومتابعة أعمالها.

Skip to content