مقالات

“المقاومة المدنية السلمية” في مواجهة المنظومة الفاشلة

خليفة شوشان
صحفي

"المقاومة المدنية السلمية" في مواجهة المنظومة الفاشلة

كلّ الاحتمالات ممكنة وكلّ السيناريوهات واردة، ما دامت البلاد مفتوحة على المجهول أزمة اقتصادية واجتماعيّة وحالة انهيار غير مسبوقة لكل المؤشرات الاقتصادية، غليان اجتماعي وسط تمدد غير مسبوق لجائحة كورونا لم تجد معها وزارة الصحّة غير التلهي بلعبة تقليص التحاليل للتغطية على التصاعد المتواصل للحالات المكتشفة، تراجع الحريات العامة وإطلاق أيدي النقابات الأمنية لتكون الحاكم الناهي لضبط التحركات الاحتجاجية وتخفّي وزارة الداخلية وراء التقارير المفبركة والمضلّلة ليجد أكثر من 2000 شاب تونسي أنفسهم بين الاعتقال والمحاكمة وما بينهما من تشهير ومطاردة وتنكيل وصل حدّ التعذيب الممنْهج الذي أكدته بيانات عديد المنظمات الحقوقية وعلى رأسها الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان.

فوق كلّ هذا الانهيار الشامل تدخل البلاد في أزمة سياسيّة غير مسبوقة فككت مؤسسات الحكم وأحالت الدولة إلى ما يشبه الإمارات المعزولة تتوزّع بين باردو والقصبة وقرطاج، يقف على رأسها ملوك طوائف السياسة كلّ يطلب الخلاص لجماعته وحزبه وجمهوره ليترك الشعب وحيدا يواجه كلّ هذه الجوائح مجتمعة.

حرب مفتوحة بين مؤسسات الحكم

هذه أحوال تونس بعد عشر سنوات على ثورة الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعيّة ومن مسار انتقال ديمقراطي لم يتردّد رئيس الجمهورية قيس سعيّد في وصفه بعبارة بليغة في رسالة تقريع رئيس الحكومة هشام المشيشي وإبراز تهافت تحويره الوزاري حين قال: “ما أشدّ مصائبنا، وما أثقل وقعها حين يريد الكثيرون ايهامنا بأننا لا نزال في طور انتقال يصفونه بالديمقراطي، وهو في ظاهره فقط كذلك وفي باطنه انتقال من الحزب الواحد إلى مجموعة فساد واحدة، إنّ التاريخ سخيف لا خير فيه إن كان يعيد نفسه لأنّ ذلك يدلّ على أنّه لم يستطع للناس وعظا ولا إصلاحا”. عبارة كان رئيس الحكومة هشام المشيشي قد استبقها بتصريح قاطع بلن الزّمخشريّة أكد من خلالها أنه “لن أستقيل، لن يستقيل وأنّه جندي في خدمة البلاد وأن الجندي “ما يزرطيش “لا يهرب”. في حين كان رئيس مجلس النواب راشد الغنوشي قد سبقهما بالتأكيد “أنّ النظام المعتمد اليوم في البلاد نظام برلماني، يفترض أن يكون فيه دور رئيس الدولة رمزيا وليس دورا إنشائيا”. هذا هو الحال في التعاطي بين الرئاسات الثلاث المفترض فيها إدارة شؤون البلاد والعباد وضمان السير العادي لمؤسساتها الدولة، فماذا ننتظر من أن يكون عليه الحال في تعاطيها مع مكوّنات المجتمع المدني من الأحزاب السياسيّة حاكمة ومعارضة والمنظمات الوطنيّة. والمناخ الذي يسود بين هذه الأحزاب والمنظمات في ظلّ توقّف لغة الحوار وانتصار كلّ طرف لصلاحياته ومصالحه وقراءته الدستور على مقاسها واستدعاء كلّ عناصر التصعيد والتجييش والمزايدة السياسيّة ودفع الأمور إلى التصادم. 

إجهاض الحوار الوطني والدعوة إلى الاحتكام إلى الشارع

تصادم وجد أكثر تعبيراته في الترجمة السياسية لهذا الخلاف الدستوري في لجوء الجميع إلى حلبة الاحتكام إلى الشارع أو الضغط على زرّ “التدافع الاجتماعي” كما يسمّيه رئيس حركة النهضة. ففي حين سعى المتصارعون دفاعا عن امتيازاتهم وغنائمهم ومصالحهم الى وضع كلّ العراقيل والقيود ورفع كلّ اللاّءات لإجهاض مبادرة الحوار الوطني التي أطلقها الاتحاد العام التونسي للشغل منذ أكثر من ثلاثة أشهر مستبقا الأزمة الشاملة التي تعيشها البلاد على جميع المستويات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والصحية والأمنية 

والدستورية ها هم يفتحون باب جهنّم على الشعب التونسي ويستدعون الفوضى بالدعوة إلى الاحتكام إلى الشارع في منعرج خطير ينبئ بصدامات عنيفة وتحوّل البلاد إلى ساحة للعبث.

يجتمع المكتب التنفيذي لحركة النهضة بتاريخ 11 فيفري 2021 ويصدر بيانا يدعو فيه أنصار الحركة وكل القوى والأحزاب التي تدعم التجربة الديمقراطية والبرلمان والدستور إلى النزول إلى الشّارع والوقوف إلى جانب “التجربة الديمقراطيّة” وتردّ رئيسة الحزب الدستوري الحرّ في ندوة صحفية يوم 12 فيفري 2021 وتدعو أنصارها ومختلف القوى الديمقراطية، إلى النزول إلى الشارع “للدفاع عن “الدولة المدنية”.

في تصعيد هو الأخطر منذ جويلية 2013 الذي أعقب اغتيال الشهيد محمد براهمي بعد ستة أشهر على اغتيال رفيقه الشهيد شكري بلعيد ودعوة القوى التقدمية والديمقراطية إلى اعتصام الرحيل بساحة باردو قبالة مجلس نواب الشعب الذي ردّت عليه حركة النهضة وحلفاؤها بالدعوة إلى “اعتصام الدفاع عن الشرعيّة” في المكان والتوقيت نفسيْهما وكادت الأمور تتطوّر إلى تصادم مباشر بين الاعتصامين. دعوات شوارعيّة لا نعلم إن كانت ستكون متزامنة في شارع الحبيب بورقيبة يوم 27 فيفري 2021،

أو هي لمجرّد الاستعراض والمزايدة وتحسين شروط تفاوض لا نعلم الجهة التي تحتكم إليها والثمن الذي سيدفع فيها، ونتمنى ألا تكون من خارج تونس خاصة في ظلّ الأخبار والمعطيات المتواردة عن لقاءات بعضها معلن والآخر خفيّ مع عديد السفارات الأجنبيّة ولعلّ آخرها لقاءا 08 و10 فيفري 2021 الذي جمع على التوالي سفير الاتحاد الأوروبي بتونس “ماركوس كورنارو” بكلّ من رئيس حركة النهضة راشد الغنوشي ثمّ رئيسة الحزب الدستوري الحر الأستاذة عبير موسي. إلى جانب ما تسرّب من أخبار عن رفض رئيس الجمهوريّة قيس سعيّد لقاءات وساطة بطلب من عديد سفراء الدول الأوروبية في تونس.

إجماع على فشل المنظومة، واختلاف حول إسقاطها والبديل عنها

كلّ هذا التّجاذب والصّراع المفتوح بين الرئاسات الثلاث وخاصة بين رأسي السلطة التنفيذية منذ ثلاثة أشهر، وحالة الشلل شبه التامة والتعطّل المزمن والهيكلي الذي يعيشه مجلس نواب الشعب منذ أكثر من سنة ونصف ينضاف إليها الدفع نحو “التدافع الشوارعي” والصراع المفتوح بين الأحزاب الكبرى في البلاد زادت الوضع الاقتصادي المنهار والاجتماعي المحتقن والصّحّي الكارثي تأزما. وجعلت السؤال الأكثر إلحاحا يتعلّق بمصير النظام السياسي الذي أثبت فشله وأصبح يمثّل خطرا على استمرارية الدولة وإدارة مصالح البلاد. سؤال لم يعد طرحه حكرا على قلّة من النّخب السياسيّة ذات الرؤية الاستشرافية التي استبقت أزمة الحكم ونبهت إليها بل تحوّل إلى إشكال مؤرّق وقضيّة وجود بالنسبة إلى التونسيين وجدت ترجمتها في الشعارات الاحتجاجيّة الشبابية الأخيرة المطالبة “بإسقاط المنظومة/السيستام” والتي زلزلت أقدام الطبقة السياسية الحاكمة والمعارضة ووضعتها أمام فرز حقيقي بين الكافرين بهذه المنظومة وإن اختلفت بدائلهم وبين المدافعين عنها وإن تناقضت مصالحهم وتموْقعاتهم فيها. ودفعت بالحكومة الراعية الرسمية والمدافعة عن مصالح الطبقة المتنفذة والمستفيدة من المنظومة إلى الارتداد عن المكسب الوحيد الذي يجمع التونسيين على تحققه بعد الثورة وهو حرية التعبير والتظاهر والعودة الى الأسلوب المحبّذ للدكتاتوريات والأنظمة الاستبدادية المتمثل في اشهار المقاربة الأمنية “وبوْلسة” الشّوارع والسّاحات العامة كما حدث في ساحة باردو وشارع الحبيب بورقيبة وانتهاج سياسة القمع والاعتقالات.

دعوة إلى إسقاط “المنظومة الفاسدة والفاشلة” رفعها الآلاف من المحتجّين قد يكون وللمفارقة أكثر من كثّفها في جملة سياسية رئيس حزب مشروع تونس محسن مرزوق أحد مهندسي اتفاق لقاء باريس بين رئيس حزب نداء تونس المرحوم الباجي قائد السبسي ورئيس حركة النهضة راشد الغنّوشي وأكبر المدافعين عن المنظومة الحالية ومرسّخي دعائمها بدعوته المباشرة إلى “مقاومة مدنية سلمية” بكلّ ما تعنيه عبارة “المقاومة” من مخزون سياسي ونفسي لدى الأوساط العريضة من الشعب رفضا للمنظومة الحالية بوصفها حسب نظره “سبب الأزمة السياسية الراهنة التي أفرزت معركة بين السلط سيكون الخاسر الأكبر فيها هو الشعب التونسي. “

Skip to content