مقالات

الهجرة غير النظامية والوعود الأوروبية… مقايضة أم بيع مشروط

فطين حفصية
صحفي

خرج ملف الهجرة غير النظامية من قالبه التقليدي خلال العام الحالي بعد تيقن دول الاستقبال من استيفاء ” المقاربات القديمة ” لجدواها، فعدة جبهات مفتوحة لهذه الهجرة في القارتين الأوروبية والأمريكية استخلص القائمون على خطها الأول بعد كل هذا الوقت الحاجة إلى إعادة ترتيب أولوياتها، كما أن الحل الأمني أو المعالجة الاستباقية المبنية على الردع والقوة وإرجاع فيالق المهاجرين من حيث أتوا عبر بوابات الحراسة البحرية أو البرية ظلت مبتورة وإن حدت بشكل جوهري من حجم التدفق البشري في الوضع العادي.

ما يقود إلى تجديد الحفر في ركام هذا الملف المتحرك دوما بعيدا عن ” مسلسل ” قرض صندوق النقد الدولي لتونس والمفاوضات المباشرة وبالوكالة الجارية بشأنه هو ذروة الزيارات المكوكية للمسؤولين الأوربيين إلى تونس وأساسا الإيطاليين لتداول ” أم المعارك ” في العلاقات المصلحية بين الضفتين الجنوبية والشمالية للمتوسط وجوهرها تونس وروما وتونس وبروكسل بما هي عاصمة الكتلة الأوروبية الواسعة وتواصل الجدل بشأن ماذا يجب فعله بدل كيف نفعل؟                                            

مثلت الهجرة النقطة الرئيسية في العناوين الأربعة الكبيرة التي تضمنها البيان المشترك التونسي الأوروبي في انتظار ما سيطبخ في مذكرة التفاهم التفصيلية المرتقبة بعد أشهر قليلة، وستكون هذه النقطة الخلافية -إلى الآن – عماد حزمة الشراكة الشاملة وفق صريح الصياغة لكن ما يمكن استنطاقه بعد ماراطون المحادثات المستمرة بعد زيارة “الترويكا الأوروبية”  وتواصل التشاور بشكل غير مباشر طيلة هذا الأسبوع هو الاقتناع الواضح لتونس وروما من جهة

بضرورة تجديد اتفاقية سنة ألفين وخمسة بشكل جذري وتأكد تونس وبروكسل من جهة أخرى أن أي حل قادم يجب أن يذهب أيضا إلى بقية الرقعة الجغرافية البحرية المتوسطية الجنوبية مع تضاعف حجم دخول المهاجرين غير النظاميين إلى فضاء الاتحاد الأوروبي عبر البحر بأربعة مرات منذ بداية العام الحالي مقارنة ببقية مسارات الدخول البرية الأخرى.

إن ذلك مؤشر أخذ بشكل واضح ولأول مرة المخاوف التونسية من حل” التوطين ” مقابل المال الذي تكاثر الحديث عنه رسميا بعد أن كان الحديث سابقا ينحصر حول لعب تونس دور حارس البوابة أو ما عرف بسياسة الدعم مقابل البحر، في حين تتفهم تونس وإن بأشد العبارات الديبلوماسية المطلوبة في هذه الحالات المخاوف الإيطالية والأوروبية المشتركة من استعمال حركة الهجرة غير النظامية ورقة ضغط في الجيب لفرض إملاءاتها أيضا على إملاءات الأوروبيين والمانحين على حد السواء.

فالجانب الإيطالي كان واضحا جدا في انتقاء عباراته في هذا الاتجاه بتصريح وزير الداخلية ماتيو بيانتيدوزي مؤخرا أن روما “التقطت إشارات خجولة من تونس” فيما يتعلق بالتعاون العملياتي للحد من عمليات انطلاق قوارب الهجرة من سواحلها في تضمين صريح أنه على تونس فعل المزيد أو بصفة أدق ” أوروبا لا تعطي بلا مقابل ” ، أما تونس الرسمية وحتى المدنية والشعبية فترى في حزمة المساعدات المتواضعة التي عرضها الاتحاد الأوروبي لا تتماشى وما ستعطيه ولا يمكنها بأي حال أن تساعد عمليا البلاد الخروج من عتبة الأزمة المالية.                

وأمام يقين روما التي تقودها حكومة يمينية بقيادة جورجينا ميلوني أن تكون بدورها خط الاعتراض الأول فقد شرعت رسميا منذ شهر أفريل الماضي في اتخاذ خطوات وصفت ب” القاسية ” بحق المهاجرين غير النظاميين حين أعلنت حالة الطوارئ بنصف عام مع تزايد الأمواج البشرية القادمة، أما تونس فإنها اكتفت ولجملة أسباب موضوعية تتصل أساسا بالأزمة الاقتصادية والاجتماعية الخانقة في محاولات إقناع الجانبين الإيطالي والأوروبي بضرورة اتباع ما وصف بالتجديف من الجهتين في المركب بدل التجديف دوما من جهة واحدة وتركيز المعالجة على دول الضفتين مجتمعة وماوراءهما في آفريقيا جنوب الصحراء حتى يكون تحمل الوزر جماعيا وليس فردانيا.

أصبحنا إذا أمام انزعاج مقابل انزعاج وهو أمر يحدث لأول مرة في عمق المباحثات لكن العقبة الرئيسية التي تحول دون معالجة مشتركة وعميقة لأصل المشكل هو كيفية تجاوز مبدأ الشروط على الشروط بين الأطراف المتداخلة في الملف فكيف ذلك؟

من الأساسيات في هذا ” اللغم ” هو تخلي الاتحاد الأوروبي عن إرادة المعالجة لظاهرة الهجرة غير النظامية بالطريقة التي تساعده فقط بل النظر إليها كما يجب أن تعالج أي بعبارة أخرى تجاوز تكليف دور الحارس الفردي إلى الحراسة الجماعية لا بالحزمة المالية المطروحة فقط على تونس بل عبر خارطة طريق تنموية واستثمارية واستيعابية لليد العاملة والمتخصصة وفق جدول زمني محدد ومضبوط يراعي حاجيات الطرفين.

المطب الثاني ويتجاوز هنا تونس هو سياسة ” الاستقطاب ” الواضح الذي تدفع به الحكومة الإيطالية في إدارة الملف وما استخدامها حالة الطوارئ إلا مثار قلق حقوقي وإنساني باعتبار أن الأساس المنطقي لهذا الحل هو إعطاء السلطة التنفيذية الصلاحيات الواسعة وغير العادية والذهاب إلى التصرفات القصوى في معالجته وبالتالي تحميل تونس ما لا طاقة لها به حين تعود “فيالق المهاجرين” إلى النقطة التي انطلقت منها.

ويذهب هذا الاستقطاب الإيطالي مع ضغطها على أوروبا باتجاه ما تصفه ميلوني ب “التدخل الواعي والمسؤول من جانب الاتحاد الأوروبي” وما يفهم منه من ضرورة تقاسم أعباء المهاجرين وتصرف كل دولة على حدة في الملف أو فتح الباب أمامهم حتى تكون الفاتورة المالية والبشرية مشتركة.

إن هذا المأزق يهدد بالعودة إلى النقطة صفر فتدابير الردع الأوروبية الصارمة مقابل المال لن توقف الهجرة غير النظامية وما مثال الكارثة الإنسانية التي جدت بالسواحل اليونانية وأودت بحياة 80 شخصا في غرق قارب مهاجرين غير نظاميين مقابل إنقاذ 100آخرين إلا دليل على أن عرض بحر المتوسط يستدعي تغطية متوسطية شاملة بشريا ولوجيستيا وعملياتيا وليس سياسات فردية تعتمد حماية النفس، وقد غذتها أساسا الخلافات الإيطالية الفرنسية أساسا في التعاطي مع هذا الملف ووصول المراكب المنكوبة إما إلى السواحل الشمالية أو مقتل من فيها كحال الآلاف الذين سبقوهم.

Skip to content