أخبار مدنية

توفيق بن بريك والسّجنُ الـمُريب

بقلم: ناجي الخشناوي

"الحريّة، الحريّة الرّائعة للجميع، أو لا شيء على الإطلاق" ادوارد سعيد

في أقلّ من شهر واحد يُوجّه الجهاز القضائي سهامهُ مباشرة نحو النّخبة التّونسيّة، صحافييّن وكُتّاب وجامعيّين ومُدوّنين، إذ كانت البداية مع المدونة الشابة آمنة الشرقي التي سُلبت حريتها مدة ستةِ أشهرٍ بداية من يوم 14جويلية 2020، ليقضي بعدها دكتور الفلسفة وأستاذها بالجامعات التونسية، فريد العليبي منذ يوم 15 جويلية 2020 أياما وليال وراء القضبان الحديدية لأحد زنازين الإيقاف، وأخيرا وليس آخرا اصطدم الرأي العام التونسي والأجنبي يوم الخميس 23 جويلية 2020، بخبر إصدار حكم بسجن الإعلامي والكاتب التونسي توفيق بن بريك بسنة سجن مع النفاذ العاجل بتهمة “الشّتم والثّلب والمسّ من الكرامة الإنسانية”.

هذه المحاكمات والإيقافات تنزّلت في سياق زمن سياسيّ مُتحرّك بسرعة كبيرة، إذ شهد شهر جويلية استقالة رئيس الحكومة، وشهد تصاعد وتيرة الصّراع بين الكُتل البرلمانيّة من خلال جدل عريضتي سحْب الثّقة من رئيس الحكومة وسحْب الثّقة من رئيس البرلمان، كما شهدت نفس الفترة تصعيدا في خطاب رئاسة الجمهورية تُجاه ما يحدث في المؤسسة التشريعية، لعل أوضحها الكلمة التي ألقها رئيس الجمهورية من مقر الفرقة الخاصة للجيش الوطني فجرا وذكّر فيها بالمداخل الدستورية المتاحة له، وأولها الفصل 80 من الدستور وإمكانية حل البرلمان، كما شهد شهر جويلية أيضا منعرجا جديدا في قضية اغتيال الشهيدين شكري بالعيد ومحمد البراهمي قدمته هيئة الدفاع عنهما، حيث قرّرت محكمة التعقيب سحب ملف الجهاز السري وملف الشهيدين من محكمة تونس وإحالتهما على محكمة أريانة…

وإذ نستعرض هذه الأحداث المتواترة، فذلك ليس من باب التذكير بها، وإنما لاقترانها بعملية الإيقافات والمحاكمات وتزامنها معها، وهو ما يجعل فرضية توجيه الرأي العام أقرب الفرضيات لفهم مدلولات التحرّك المباغت والسريع للجهاز القضائي وخاصة وتحديدا في علاقة بتنفيذ الحكم الغيابي الصادر في حق الإعلامي والكاتب توفيق بن بريك يوم 23 جويلية 2020 ، وهي فرضية تجد ما يعزّزها أيضا أمام توجيه أصابع الاتهام لجزء كبير من الجهاز القضائي بـــ”الارتهان لسلطة بارونات المال والسياسة” مثلما ورد في بيان النقابة الوطنية للصحفيين التونسيين الداعي إلى إطلاق سراح بن بريك، وأيضا في البيان الذي أمضته 36 جمعية ومنظمة مدنية الذي عبّرت فيه عن خشيتها من “ان يصبح القضاء التونسي أداة لضرب حرية الصحافة والفكر والتعبير”، وهذا أيضا لم يعد خافيا على أحد، فمن بين الأسئلة الحارقة التي يطرحها اليوم كل مواطن في تونس، إلى متى سيظل الجهاز القضائي مكتوف الأيدي أمام المهرّبين الذين نخروا الاقتصاد الوطني؟ وإلى متى سيظل مكتوف الأيدي أمام القضايا الإرهابية التي جعلت تونس على كف عفريت؟ وإلى متى سيظل مكتوف الأيدي أمام جرائم التّسفير التي تُدبّرها الجمعيّات الدّينية والدَّعَوية في حق الشباب التونسي؟ وإلى متى سيظل مكتوف الأيدي أمام حملات التّحريض التي تَشُنّها بعض الأحزاب على المنظمات الوطنية وفي مقدمتها الاتحاد العام التونسي للشغل وعلى المؤسستين الأمنية والعسكرية؟ وإلى متى سيظل مكتوف الأيدي أمام ملفات الفساد المالي والتهرّب الجبائبي والضريبي لعدد كبير من المتمعشين والفاسدين الذين استثروا من مال المجموعة الوطنية؟…

هل انتهت كل القضايا والجرائم ليهتم الجهاز القضائي بكاتب وإعلامي مارس حقّه في حرية التعبير والتفكير؟

ما دور الكاتب أن لم يكن محرّضا على الحرية؟ ما دوره إن لم يرفع مطرقته الفكرية والثقافية لتحطيم الأوهام والمقدسات الفاشيستية؟ ما دور الكاتب إن لم يهتك حُجب الظلم والاستبداد؟ ما دور الكاتب إن لم يصدح بحقائق الأمور وبواطنها على رؤوس الملأ؟ أية خطورة على الأمن العام لدعوة لفظية ألقاها توفيق بن بريك على قناة تلفزية أمام عمليات التفجير والقتل التي نفذها الإرهابيون طيلة السنوات العشر الأخيرة؟ وأمام اغتيال الشهيدين شكري بالعيد ومحمد البراهمي؟ وأمام عمليات التّسفير وتهريب الإرهابيين؟ وأمام التّحريض على قتل النقابيين والحقوقيين والمدونين والكتّاب والفنّانين؟ وأمام فتاوي التّكفير اليومية التي يفجّرها بعض الأئمة في وجه السّلم الاجتماعية ووحدة الشعب التونسي؟…

إن محاولة بسيطة لاسترجاع ذاكرة العنف والاعتداء على عدد كبير من رموز الثقافة التونسية ستجعلنا نكتشف هول ما حدث في هذه العشرية الأخيرة، محمد الطالبي ويوسف الصديق ورجاء بن سلامة وليلى طوبال والنوري بوزيد ونصر الدين السهيلي ومحمد الصغير أولاد أحمد ونادية الفاني ورجب مقري ولطفي العبدلي وعادل بوعلاق وأمال القرامي ونايلة السليني وألفة يوسف وحمادي الرديسي ونجيب بن خلف الله ونادية الجلاصي ومحمد بن سلامة والقائمة لا تنتهي، وبالمثل القائمة أكثر طولا في الاعتداء على الصحافيين والإعلاميين والمدونين، وهو ما جعل هذه الاعتداءات قاعدة لا استثناء أمام الصمت المريب للجهاز القضائي وتجاهله للمعتدين، لمن حرضّ وموّل ونفّذ، صمت وتجاهل ساهما في منح غطاء قانوني لقوى الردة والانغلاق والشعبوية للتمادي في التطاول على مثقفي البلاد ونخبها بما يخدم مشروعهم ويكرّس دولة الجهل واللامعرفة والشعب المُدجّن الخانع والمنضبط لمربع الخوف والاستبداد.

إن هذا الصمت المريب والتجاهل غير المبرر يجعلنا نتساءل عن مدى استقلالية الجهاز القضائي وحياده، وعن مدى جاهزيته لحماية الشعب التونسي وفي مقدمته نخبته المثقفة بمفكريها وفنانيه وإعلامييها، بل إن السؤال الذي يقفز اليوم، أمام فضيحة سجن توفيق بن بريك، هو ما مدى احترام الجهاز القضائي لنخبتنا التونسية؟ ومرد هذا السؤال هو الصفة التي تخيرتها جمعية القضاة التونسيين، الجمعية التي كانت تناضل بشراسة زمن بن علي من أجل استقلالية القضاة والجهاز القضائي، تخيّرت في بيانها، الذي كان أساسا موجها للرد على بيان النقابة الوطنية للصحفيين وبيانا مدافعا عن القطاع لا عن مبدأ الحرية، إذ وصف بيان الجمعية، توفيق بن بريك بأنه “معلّق على البرامج التلفزية”؟؟؟ هكذا، والحال أن توفيق بن بريك كاتب وشاعر وإعلامي نشر في أشهر دور النشر العالمية مثل إكزيل قاليمار ولوسوي وأبولونيا ودار الجنوب ودار مسكلياني ودار أبولونيا، وتُوّج بعديد الجوائز العالمية منها جائزة داشل هامت الأمريكية وجائزة سوسيتا ليبيرا الإيطالية التي رفض تسلّمها لتعارضها مع قناعته، والأهم من ذلك أن توفيق بن بريك رُشّح سنة 2012 لنيل جائزة نوبل للآداب، وهو يكتب في كبرى الصحف العالمية وهو أيضا صاحب جريدة “ضد السلطة” ومؤلف عديد الكتب منها كوزكي واللص وكلب بن كلب ووهران، فكيف يتم تقزيمه ووصفه بمعلق برامج تلفزية؟ أليس هذا اعتداء آخر على الرّجل وتحقير لمسيرته؟؟؟

الثابت والأكيد أنه لا إجماع حول شخص توفيق بن بريك، بل إننا نختلف مع شخصه وشخصيته، مع مواقفه السياسية، مع كتاباته الأدبية والصحافية، نختلف مع اختياراته الشخصية في الانتماء،ولعل الجدل  الحاصل حول سجنه على مواقع التواصل الاجتماعي خير دليل على عدم الاجماع حول شخص بن بريك، ولكن لن نختلف في أن توفيق بن بريك هو، “الملعون الذي كان بإمكانه أن يكون لصا عظيما أو رئيس عصابة، هو ذاك الذي يسرق الأغنياء كي يعطي الفقراء، كل شيء لديه مُتوقّع ومُخطّط له بعناية وهو يحفر النّفق، ولكن من أجل الجميع، وكي يتحرّر الجميع”، كما وصفه إدوارد سعيد، ولن نختلف أيضا على أن توفيق بن بريك مثلما وصفه الكاتب والجامعي عبد الحليم المسعودي في رسالة وجّهها إلى رئيس الجمهورية اثر  حكم سجن الصادر ضد الكاتب بن بريك، بأن توفيق بن بريك “علامة صحية مضيئة في مجتمع ديمقراطي”.

إن الزجّ بكاتب مثل توفيق بن بريك في السجن يتجاوز بكثير إجراءات التّتبع القانونيّة ويتجاوز المرسومين 115 و116 وفصولهما الترتيبية لأنه يصيب في مقتل المسار الديمقراطي ويهدد في مكمن المبدأ الأول الذي انبثقت منه جميع المبادئ الكونية، ألا وهو الحرية…

Skip to content