مقالات

دماء تغتال آخر شرعيّة للبرلمانيّة، ومبادرة الاتحاد الأمل الأخير لإنقاذ تونس من محنتها

خليفة شوشان
صحفي

كان من المفترض أن يكتب هذا المقال بعقل بارد وبأقصى ما يتطلّبه المرور بين الألغام المزروعة والقنابل الموقوتة المضبوطة بكل دهاء سياسي في مفاصل البلاد بما يقتضيه الحديث عن “الحوار الوطني” ومبادرات “الإنقاذ الوطني”، لكن انطلاق هذه الألغام والقنابل في الانفجار تزامنا مع إطلاق الاتحاد العام التونسي للشغل لمبادرته بضغطة زرّ لعينة وممنهجة وبشكل متتالٍ وشامل بعد أن تمّ تهيئة الميدان لها وشلّ مفاصل البلاد اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا وأمنيا ونفسيا وإيصال الشعب التونسي إلى حالة من الإحباط واليأس الجماعيين وإشاعة شعور من الإحساس بالغبن والمظلوميّة وفي فقدان الثقة في مؤسسات الدولة وفي نظام الحكم وفي منظومة الانتقال الديمقراطي حوّل عقول التونسيين إلى بركان غضب ساخن خوفا وخشية على مستقبل بلادهم وجعل من برودة العقل ترفا فكريا.

إنّ ما حدث أمس تحت قبّة مجلس نواب الشعب ليس جديدا وغير مستغرب، بل لعلّ أكثر المتابعين للمجلس ونوابه ولأسلوب إدارته موضوعية وتفاؤلا توقعوا ذلك وطالما حذّروا منه، فالانتقال الى العنف المادي المباشر بين النواب وتحول مكاتب اللجان وقاعات الجلسات العامة الى حلبة للمبارزة الجسديّة وتبادل اللكمات والمقذوفات ومشاهدة نواب في حالة إغماء طريحين على الأرض وآخرين تغطي وجوههم الدماء لم يكن سوى نتيجة طبيعية لدورة برلمانية كاملة قامت على الاستثمار في الشحن والتحريض والتكفير والتهديد وإشاعة الخطاب المتطرف القصووي على مرأى ومسمع من رئيس مجلس نواب الشعب الذي يبدو جليّا أنّه وجد الفرصة مناسبة لاختبار نظريته التي طالما بشّر بها التونسيين في اعتماد “التدافع الاجتماعي” منهجا لإدارة الاختلافات بينهم.

“دماء تغطي وجه البرلمان”:

عبارة تلخّص ما وصله المشهد البرلماني من بؤس غير مسبوق وما بلغته السلطة التشريعية من تهافت وانحدار وعجز وانغلاق أفق سياسي واستحالة أي امكانية لإدارة حوار الحد الأدنى السياسي بينها بما يضمن إدارة جلسات البرلمان

فما بالنا بإدارة شؤون البلاد والإجابة عن التحديات التي تواجهها وهي على أبواب الانهيار الشامل الذي ضرب كلّ مجالاتها ووصل حدّ إسقاط أحكام الميزانية من مشروع قانون المالية لسنة 2021 في سابقة هي الأولى في تاريخ تونس وقد تنتهي بإسقاط مشروع قانون الميزانية برمّته وتعطيل مؤسسات البلاد وسيرها العادي ومصالح مواطنيها وإدخالها في نفق العبث والفوضى.

مواعيد متجددة مع التاريخ : 

نحن اليوم في قلب العاصفة تعبث بنا مناخات متوترة ومشحونة بالحقد والكراهيّة والعجز والاحباط، مناخات مشبعة بالتطرّف كان الاتحاد العام التونسي للشغل قد استشرف مساراتها ومآلاتها ونبّه إلى مخاطرها المحدقة على وحدة البلاد وهو يتقدّم رسمياً قبل أسبوع بمبادرة إلى رئيس الجمهوريّة “لإنقاذ تونس من أزمتها” ولإخراج البلاد من الوضع الدقيق الذي تمر به. مناخات موبوءة أكسبت هذه المبادرة مشروعيتها الوطنيّة وحولّتها الى أمل التونسيين والمتبقي في إيقاف حالة الانهيار الذي يهدّد كيان الدولة، بل لعلّه قدر منظمة حشّاد ومسؤوليتها الوطنيّة التاريخيّة التي لم تتأخر في تحملها أن تكون الملجأ الأخير للتونسيين وصمّام أمان دولتهم وآخر حصونها الجامعة المانعة التي لا تخون للدفاع عنها ضدّ كلّ العابثين بكلّ عناوينهم وارتباطاتهم ومصالحهم. فليست المرة الأولى التي ينتدب فيها التاريخ الوطني الاتحاد وتستدعيه اللحظة الحاسمة للقيام بهذا الدور المنقذ فيلبي النداء. ولعلّ مسيرته الزاخرة تؤكد ذلك في عدة محطّات ومنعرجات؛ فمنذ خمسينات القرن الماضي زمن الاستعمار حمل المشعل وتحمّل مسؤولية الكفاح الوطني المباشر وفي الخنادق الأولى ضد المستعمر الفرنسي عندما تمّ اعتقال قيادات الحزب الدستوري الحرّ والزجّ بهم في السجون لإفراغ الساحة السياسية من قياداتها ودفع ضريبة ذلك اغتيال زعيمه ومؤسسه خالد الذكر فرحات حشّاد، كما كانت له الكلمة الفصل عندما دخلت البلاد في أزمة سياسية طاحنة أثناء الصراع اليوسفي البورقيبي هددت بالانقسام العميق صلب الحركة الوطنية فكان للاتحاد شرف تنظيم مؤتمر 1955 بمدينة صفاقس ووأد الفتنة في المهد ومنح برنامجا اقتصاديا واجتماعيا متكاملا للدولة الوطنية الوليدة مثّل حبل نجاتها وبنى دعائم الدولة التونسية الحديثة. دور المنظمة النقابية لم يتوقف خلال الخمسينات بل استمر مكافحا اجتماعيا ووطنيا لإرساء دولة الحريّة والكرامة والعدالة الوطنيّة ليتوّج ذلك خلال “ثورة الحرية والكرامة” الذي مثّل حاضنتها وعنوانها وهو يصاحب انتفاضة الشباب التونسي بالتوجيه والنصيحة ثم بضمان مدنيّتها وسلميّتها وحمايتها من كل محاولات الانحراف والتوظيف. وهل كان منح المنظمة العمالية مع بقية شركائها من المنظمات الوطنية جائزة “نوبل للسلام” مجاملة دوليّة؟ أو كان بمثابة الاعتراف الدولي بالدور المفصلي الذي لعبه الاتحاد في الخروج بالبلاد من مستنقع “الحرب الأهلية” والفوضى الشاملة وخلط الأوراق الذي أراده أعداؤها عندما فشلت مخططاتهم التمكينيّة في السيطرة على مفاصل الدولة وتركيعها وسقطت كلّ أجندات مشغليهم الإقليميين والدوليين في تحويلها إلى “قاعدة” لكل قوى التطرف والإرهاب من قوى الإسلام السياسي في إطار استراتيجيتهم الجهنميّة المسمّاة “بالفوضى الخلاقة” التي مهدوا لها بإطلاق أيدي ميليشياتهم التكفيرية للقيام بالعمليات الإرهابية ضدّ قواتنا العسكرية والأمنية واغتيال القيادات السياسية الوطنية ودفعوا بمرتزقتهم من “روابط تخريب الثورة” لممارسة العنف المنظم ضدّ قوى المجتمع المدني والفنانين والإعلاميين وإشاعة مناخ من الخوف في بين التونسيين.

هي مبادرة الفرصة الأخيرة:

من كلّ هذا التاريخ الزاخر المشرّف يستمدّ الاتحاد العام التونسي للشغل مشروعيته للاضطلاع بدوره التاريخي وإطلاق مبادرته الوطنية “لإنقاذ تونس من أزمتها” التي لا يختلف تونسيان في تشخيصها وتبيّن مظاهرها وتداعياتها التي تخيّم على البلاد وتضغط بكلاكلها على صدور العباد وتكاد تجهز على المتبقي من أنفاسهم وقدرتهم على التحمّل. بل لعل ألدّ خصوم المنظمة النقابية من قوى الإسلام السياسي التي تضمر حقدها بخطابات منافقة أو التي تعلنه وتجاهر به وتعتبره عنوان أمّ معاركها المصيرية، لا تقدر رغم كل مناوراتها على الإنكار بأن البلاد تسير على شفا الانهيار وأن كلّ المؤشرات الاقتصادية والاجتماعية والسياسيّة والأمنية تؤكد ذلك. فما بالنا بأصدقاء المنظمة وأبنائها من كل القوى السياسية التقدمية والديمقراطية المدنية التي تؤمن بالدولة الوطنية التونسية وتستشعر حجم المخاطر التي تهددها منذ مهزلة الانتخابات التشريعية 2019 التي دقّ تقرير دائرة المحاسبات آخر المسامير في نعش شرعيتها المغشوشة وفضح ما شابها من خروقات جسيمة وتجاوزات فادحة ترقى إلى الجرائم الانتخابية وتزوير إرادة التونسية. في اللحظة المناسبة أطلق الاتحاد مبادرته للإنقاذ التي اختار لها مدخلا حاسما ودقيقا يدرك جيدا بحكم تجربته الطويلة وخبرته في إدارة الأزمات وقطع الطريق على المستثمرين فيها أن يكون مؤسسة رئاسة الجمهورية آخر قلاع الشرعيّة المتهافتة في تونس بعد أن أفلست كلّ الشرعيات بما فيها البرلمانية والحزبية وباتت بعضها عبئا على البلاد والعباد. لذلك تلقّفها كلّ الوطنيين الصادقين ككل المبادرات السابقة واعتبروها بمثابة بارقة الأمل وقبس النور في آخر النفق الذي تردت فيه البلاد وعدّوها النداء الأخير لإنقاذ تونس وإيقاف المسار الجهنمي لتفكيك دولتها وتمزيق وحدتها من خلال استدعاء كلّ العصبيات القبليّة والجهويّة والدينيّة لخلط الأوراق ومواصلة تزييف وعي التونسيين وحرفهم عن القضايا الوطنية الحقيقيّة، وفي انتظار أن ينهي رئيس الجمهورية تردده ويكون في مستوى المسؤولية الوطنية التي حملّه إيّاها الاتحاد وقبله ملايين التونسيين يواصل الاتحاد تحركاته لتوفير كلّ شروط نجاح هذه المبادرة بحشد القوى الوطنيّة حولها وتجاوز كلّ الألغام والقنابل التي يحاول المتمعّشون والمستثمرون في الأزمات تفجيرها.

Skip to content