مقالات

زوبعة في فنجان الحوار

فطين حفصية
صحفي

يتحدث الجميع عن الحوار منذ إعلان التدابير الاستثنائية قبل 9 أشهر دون أن يعرف أحد مفاتيحه بعد مرور كل هذه المدة، ويدفع المنادون به دوما إلى أن تونس تحتاج تصويبا حواريا تشاركيا من أجل تعديل حاسم لمسارها السياسي المترنح منذ عقد، بدا ذلك عنوان اتفاق للحاكمين والمعارضين والمنظمات الوطنية تصريحا وبيانات لكنه مثل أيضا مساحة اختلاف جذري في الأصل والشكل بين عدد من الفرقاء  وهو أمر جعل منه إلى الآن يتراوح بين القابلية أو التعليق أو التأجيل أو التجاذب أو الفشل وفق ما يرشح من مواقف وتصريحات، ولا أحد يمتلك في قادم الزمن القصير أو ربما الأسابيع القليلة القادمة إجابة تقطع الشك باليقين حوله.

فاجأ بيان الرئاسة الذي أعقب لقاء رئيس الجمهورية بوفد البرلمان الأوروبي مؤخرا حول “انطلاقة الحوار الوطني فعليا على قاعدة نتائج الاستشارة الوطنية الإليكترونية” ثم تصريحات أخرى أعقبته  المعنيين بمسار هذا الحوار ومآلاته قبل البعيدين عنه نظريا، وزاد من التباس المعنى إن كان المقصود أن هذا الحوار سيكون نوعا من التزكية المغلفة لهذه الاستشارة أو شبه “تعليب” لها، أم أنه سيتم الذهاب إلى حوار حقيقي يتقدم فيه الجميع (أحزابا ومنظمات ومكونات مدنية) بمقترحات وورقات عمل للنقاش والصياغة ومن ثمة التأليف والتأشير عليها لتبنيها قبل اعتماد مخرجاته “صك بياض” وخارطة حلول للربع ساعة الأخير من المسار الانتقالي الثاني.

إن كثرة الألقاب حول الحوار المنشود بين الفاعلين المختلفين تزيد الغموض وتضاعف التأويلات وتبني جدران تردد بل عدم ثقة أحيانا : حوار تشاركي – حوار شامل – حوار لن يشمل اللصوص والانقلابيين – حوار غير مشروط – حوار جامع – حوار على أرضية الاستشارة الاليكترونية – حوار الطرشان – حوار بقالب واحد – حوار رجع الصدى إلى آخره  من التوصيفات، أما قلة الوقت فإنها تلقي بضغط الزمن في مرمى قصر قرطاج المحمول عليه سياسيا وأخلاقيا واجب تنفيذ التعهدات السياسية والانتخابية المطروحة،  فبضعة أشهر قبل الاستفتاء المرتقب في 25 جويلية تجعل كل يوم يمر دون توضح الصورة نوعا من الذهاب إلى المجهول في مسلك أساسي من خارطة الطريق هذه.

هذه الظروف مجتمعة تضع المعنيين أمام اختبار البحث عن شكل لهذا الحوار وهيكلته في كومة الاحتقان السياسي والتأزم الاقتصادي والاجتماعي المرافق، ويمكن مرة أخرى لرئيس الجمهورية وهو من يمسك بمقود القيادة التنفيذي أن يرفع في أسرع وقت هذه الغشاوة التامة للنظر في ما تبقى من مسار متشعب وإرسال رسائل إلى الداخل المنتظر والخارج المراقب، وجب القطع ودون أي لبس مع الانتظارية والضبابية ومعرفة الإجابة النهائية للآتي:  متى سينطلق هذا الحوار وسقفه الزمني المحدد؟  من سيدعى إليه بالاسم والصفة ومن لن تتم دعوته وأسباب ذلك؟ 

ماهي عناوين مضامين هذا الحوار؟ وما إذا كان “مكملا” أو عنصرا إضافيا لما ورد في الاستشارة الاليكترونية أم سيكون حوارا وطنيا حقيقيا ينطلق من مبدأ المساواة في الانطلاق والوصول؟ 

يمتلك اتحاد الشغل في هذا الكم من الأسئلة المفتوحة، مسنودا ببقية المنظمات الوطنية، ورقة الضغط الإيجابي باتجاه عدم “احتكار” القرار وتوسيع دائرة الرأي والرأي المخالف تحت سقف وطني مشترك وواضح  ويمكن أن يلعب عن بعد دور “الوسيط غير المباشر” في توجيه الصراع غير الخفي بين الشارعين الرئاسي والمؤيد وشق من الطيف الحزبي والمدني المعارض، وقد جاءت تصريحات الأمين العام للمنظمة الشغيلة نور الدين الطبوبي عدد من أعضاء المكتب التنفيذي متطابقة  في هذا الاتجاه فـ “لا حوار بشروط أو بنتائج مسبقة”  وأنه لا  “لاءات دائمة أم نعم نسبية” في كل الحوارات.

رابطة حقوق الإنسان التي  نقل رئيسها أيضا أنه “لا إقصاء من الحوار إلا عبر القضاء وعلى أساس هيئات قضائية” ظلت تؤكد أنه لابد من حسم الإطار الذي سيجرى فيه هذا الحوار قبل كل حديث عن عناوينه، ولتمش منهجي تذهب كل المنظمات الوطنية إلى أهمية رسم شكل هذا الحوار والمشرفين عنه، ولما نعلم أن البرلمان بات في حكم الواقع خارج معادلة الفعل فإن تعديل عدد كراسي هذا الحوار وشروطه أو نتائجه المسبقة ستكون ضرورة لأجل سيره بشكل جيد وفي أضعف الحالات حجز الحد الأدنى من القبول به وبنتائجه، فرئيس الجمهورية وبعد خروجه من منطق  لا حوار إلا مع الشعب  يمكن أن يخرج تحت عامل “شعرة معاوية” مع الجميع  ومبدإ التشاركية إلى استخلاص أنه لا حوار مع البعض فقط وذلك تحت أسباب واضحة و يافطات معلنة ومحددة اتفق ويتفق فيها تقريبا مع كل المشاركين المرتقبين.

لجنة الصياغة تنتظر الصياغة 

مع تشابك “منصات” هذا الحوار المرتقب تقول الضرورة قبل سرعة العد التنازلي نحو الاستفتاء بأهمية معرفة هوية لجنة الصياغة التي ستكون محطة التجميع الرئيسية لكل المضامين السياسية والدستورية والانتخابية والقانونية لهذا الحوار، ولا تستوي ملفات المنعطف الحاسم في تاريخ تونس دون الكشف الكامل والواضح للمعلومات المتعلقة بالتركيبة النهائية لهذه اللجنة وطبيعة صلاحياتها وأدوات عملها وهامش تحركها بين التقرير والاستشارة وأخيرا هندسة توليفها وخلاصاتها المنتظرة أي أنها ستكون بعد الحوار مباشرة أم بالتوازي مع أعماله قبل تسليم “الأمانة” لأصحابها. 

إن عدم الصياغة السريعة للترتيبات الحوارية القادمة تجعل الأزمة السياسية منفتحة على احتمالات عديدة وأسلحة تكتيكية مختلفة بدأت معالمها تتوضح بعد صراع الشرعية في الشارع ثم محاولة الجر نحو تنازع للشرعيات، اذ تم الدخول في فصل ثالث من معركة “الاستنزاف السياسي”   عبر ما يعرف باستقطاب الجبهات أو سباق المبادرات سواء في أوساط المعارضة أو الموالاة في حين يبدو طريق الخلاص سالكا وفق دروس التاريخ والجغرافيا عند إيجاد قطب وطني جامع ولو كان قربانه تنازلات من هنا وهنا.

Skip to content