مقالات

سلبُ حريّة المدوّنة آمنة الشّرقي بحكم إبتدائيّ: كوفيد وحُكمُ المحكَمَة المُبيدِ

بقلم: ناجي الخشناوي

الحكمُ السّالبُ لحريةِ المدوّنةِ الشّابة آمنة الشّرقي القاضي بسجنها لمدة ستةِ أشهرٍ، والذي أصدرتهُ المحكمةُ الابتدائيةُ يومَ الثلاثاءِ الموافق لــــ 14جويلية 2020، وفق تسريبات نشرتها أغلب الإذاعات والصحفِ والمواقعِ الرسميةِ، ليس إلا حلقةً من سلسلةٍ طويلةٍ من المحاكماتِ الجائرةِ والتي أصبحت ربّمَا العنوانَ الأبرزَ في العشريّةِ الأخيرةِ، عشريةُ ما بعدَ الإطاحةِ بنظامٍ ديكتاتوريِّ والعشريةُ أيضا، التي مازالت توصفُ بأنّها مرحلةُ التأسيسِ لمسارٍ ديمقراطيِّ يُفترضُ أن تكونَ فيه الحرياتُ الفرديةُ والعامةُ مضمونةٌ وأوَّلُهَا حريةُ التفكيرِ والتعبيرِ.

ورغم تبنِّي تونس لقانون صحافة تقدّمي منذ سنة 2011 ألغَى الأحكامَ الجنائية المتعلقةِ بجرائمِ التعبير والمعتقد، ما يزالُ الجهازُ القضائي يستندُ إلى مواد قمعية في المجلةِ الجزائيةِ و”مجلة الاتصالات” لتجريمِ الخطابِ السلمي، حيث يتمُّ اعتقال المدوّنين، والصّحفيين، والنُّشطاءِ على  وسائل التواصلِ الاجتماعيِّ وتحاكمهم وأحيانا تسجنهم لمجردِ انتقادهم السلمي، وما المدوّنة آمنة الشرقي إلا مثال من مئات الأمثلة الذين كانوا ضحايا أفكارهم ومعتقداتهم.

وأصلُ “القضيةِ” معلومٌ للجميع منذُ يوم 2 ماي 2020 عندما مارست المدوّنة الشابة آمنة الشرقي حقهَا الدّستوري والمُوَاطنِي والطبيعي في النّشر وإعادة النّشر على وسائل التواصل الاجتماعي ما اعترضها في العالم الافتراضي، حيث قامت بإعادة نشر تدوينة كان قد نشرها مدوّن آخر وتتمثل في نص قصير يصف في لغة عربية موزونة وذات إيقاع وسجع يصف وضع العالم والبشر أمام جائحة كورونا، حيث جاء في هذا النص القصير: “كوفيد والفيروس المبيد.بل عجبوا أن جاءهم من الصين البعيد.فقال الكافرون انه مرض عنيد. كلا بل هو الموت الأكيد. لا فرق اليوم بين الملوك والعبيد.فاعتصموا بالعلم واتركوا التقاليد.ولا تخرجوا لتشتروا السميد. وامكثوا في بيوتكم إنه بلاء شديد. واغسلوا أيديكم بالصابون الجديد.”.

وهذا النص مثلما نلاحظ كُتب بلغة سلسة وبمفردات الحياة اليومية التي نتداولها بشكل طبيعي، وهو أيضا نص فيه توصيف مكثّف لحالة العالم الذي انهار أمام جائحة كوفيد 19 وسوّى بين الجميع، غير أنّ ما أثار حفيظة سدنة الإسلام السياسي هو شكل التدوينة التي تم تداولها والتي تشبه سور كتاب القرآن، لتنهال على الشابة ذات 27 سنة رسائل التهديد بالقتل وبالاغتصاب من كل حدب وصوب، ولتتحرك النيابة العمومية بشكل سريع وتقوم بملاحقتها وقرر المدعي العام بعد سماعها بالمحكمة الابتدائية في تونس أن يوجه إليها تهمة “المس بالمقدسات والاعتداء على الأخلاق الحميدة والتحريض على العنف”، وهي تهمة توجه للمدونة آمنة الشرقي في انتهاك صارخ وتعدّ على المادة السادسة من الدستور التونسي التي تنص على أن “الدولة راعية للدين، كافلة لحرية المعتقد والضمير وممارسة الشعائر الدينية، ضامنة لحياد المساجد ودور العبادة عن التوظيف الحزبي. تلتزم الدولة بنشر قيم الاعتدال والتسامح وبحماية المقدّسات ومنع النيل منها، كما تلتزم بمنع دعوات التكفير والتحريض على الكراهية والعنف وبالتصدي لها”..

ويذكر الجميع أنه في نفس الفترة التي انتبهت فيها النيابة العمومية إلى التدوينة التي أعادت نشرها آمنة الشرقي على مواقع التواصل الاجتماعي، شهدت تونس عدة تجاوزات وحامت الكثير من شبهات الفساد خاصة فيما تعلّق بالكمامات وبالمعدات الطبية وخاصة بعمليات احتكار كبيرة للمهربين للسلع الغذائية ومنها تحديدا مادة السّميد المذكورة في التدوينة، فضلا عن التجاوزات التي أتاها رئيس بلدية الكرم في تلك الفترة والساعية لضرب مقومات الدولة المدنية ومقومات الجمهورية التونسية، والأخطر من ذلك أن النيابة العمومية لم تنتبه أيضا إلى ارتفاع منسوب العنف ضد المرأة في فترة الحجرة، وغيرها من العمليات الإجرامية التي تضاعفت في فترة الحجر الصحي.

إصدار حكم قاض بسلب حرية مواطنة تونسية، ورغم انه حكم ابتدائي وسيتم استئنافه من قبل محاميي المدوّنة آمنة الشرقي، إلا انه يمثل انتكاسة جديدة تنضاف إلى “مسار طويل من الانتكاسات” التي يبدو أنه مسار أصبح أكثر سرعة من مسار الانتقال الديمقراطي وتركيز مقومات الدولة المدنية والجمهورية الديمقراطية، فالإيقافات والملاحقات والتضييق المستمر على أصحاب الكلمة الحرة وفي مقدمتهم الإعلاميون والصحافيون والمدونون، وعمليات الهرسلة ومحاولات الاختراق التي باتت تطال منظمات وجمعيات المجتمع المدني، تحوّلت إلى سياسة مدروسة وممنهجة، تتغذى أساسا من حملات التحريض والتشويه وتمر بتعطيل مشاريع القوانين وأولها مشروع قانون المحكمة الدستورية وهي أيضا تتغذى خاصة من الوضع القضائي الغائم الذي لم يتخلّص، أو لم يمكنه البرلمان، من التخلص من بعض المواد في المجلة الجزائية التي تجرم حرية التعبير، وخاصة منها إنهاء الملاحقات القضائية ضد الخطاب السلمي، واعتقالات الأمن التعسفية، مع العلم أن تونس أمضت على العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية.

Skip to content