حوارات

عبد الرحمان الهذيلي للجريدة المدنية: “سيعطي الإحباط فرصة البروز للشعبوية وللخيارات المعادية للفئات المحرومة”

حاوره، واجيه الوافي.

تشهد تونس خلال الفترة الأخيرة العديد من التحركات الاجتماعية والاحتجاجات في جملة من القطاعات، منها المنظم ومنها العفوي وذلك نتيجة تردي الوضع الاقتصادي وعدم التزام الحكومة بتعهداتها. في هذا الاطار يواصل المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية نشاطه في مختلف الاتجاهات من أجل توفير المعطيات والمؤشرات الكافية حول حقيقة الوضع في تونس، في هذا السياق أدلى رئيس المنتدى عبد الرحمان الهذيلي بحديث للمدنية في ما يلي نصه.

كيف تقيم عمل المنتدى بعد نحو عشر سنوات من النشاط؟

منذ انطلاقته، عمل المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية على أن يكون رافعة مدنية للدفاع ونشر ثقافة الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والبيئية وحقوق المهاجرين وساهم من موقعه في أن يكون قوة مراقبة وضغط وتأثير في السياسات العمومية وفي أن يكون إلى جانب الفئات الأكثر هشاشة لا فقط من خلال مواكبة ومرافقة وإسناد الاحتجاجات المطالبة بالحقوق الدستورية بل من خلال مختلف التقارير والدراسات والقراءات النقدية والتي تجاوزت أكثر من 200 إصدارا في مختلف مجالات عمل المنتدى، بشكل حول المنتدى لا فقط مشجعا على تقاطع نضالات الفئات الهشة بل أيضا فسح مجالا للباحثين الشباب لتقديم ورقات تحليلية وبحثية حول القضايا المطروحة واجتراح الحلول. وقد حدد المؤتمر الأخير للمنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية المنعقد في فيفري 2019 أهداف المرحلة وأهمها تثبيت دوره في مجال نقد السياسات الحكومية وكلفتها الاجتماعية. و ذلك من خلال عمل الرصد وتشخيص مجالات فشل السياسات الحكومية وكشف خلفيات ذلك الفشل وأسبابه، سواء تعلقت بالخلفيات النيو ليبرالية للخيارات الاقتصادية أو بالحوكمة عامة وغياب الشفافية، عبر كل اللقاءات والتظاهرات والتقارير والدراسات التي ينشرها، و بلورة بدائل وتقديم حلول من أجل سياسات اقتصادية وتنموية واجتماعية بديلة وعرض حزمة الإجراءات العاجلة في مجال الجباية والسّياسات القطاعية والحلول التنموية المقترحة وطنيا ومحليا عبر حملة مناصرة لمشروعه حول المنوال التنموي البديل، إضافة إلى بناء الشبكات والتحالفات مع الفاعلين ومنظمات المجتمع المدني وتعزيز تحالفه مع الاتحاد العام التونسي للشغل حول هذه الأهداف والبدائل. مما يعزز من دور حملات المناصرة والتعبئة ويوفّر للفئات المهمشة والمحرومة وللمحتجين مشاريع تفاوض وضغط. ويمنح هذه البدائل قوة تغيير اجتماعي وسياسي مؤثرة ويقوي فرص ديمقراطية تشاركية فعلية.

إن موقع المنتدى وصدقيته وخلفيته القيمية القائمة على احترام الحريات والديمقراطية والعدالة الاجتماعية ومقاومة الفساد ومناهضة التوجهات النيو ليبرالية مكنته أن يلعب، الى جانب المنظمات الوطنية المستقلة والقوى السياسية المدنية الديمقراطية والحركات الشبابية، دورا واضحا في تشبيك وتمفصل النضالات دفاعا عن الخط الحقيقي للثورة ومطالبها. وانحيازا لأوسع الفئات الاجتماعية المطالبة بالحرية والكرامة ومقاومة المحسوبية والفساد.

فالمنتدى يعمل اليوم، مع منظمات المجتمع المدني الديمقراطية والتقدمية والحركات الاحتجاجية، على الربط بين كل استفادة ممكنة من الديمقراطية من جهة وتعزيز كل طاقات المقاومة القائمة ضد كل مشاريع النكوص والاستبداد والشعبوية في المجتمع حتى يتسنى بناء الجسور بين كل فضاءات التغيير الاجتماعي والديمقراطي الممكنة حتى تحقيق الكرامة والعدالة الاجتماعية وصون الحقوق والحريات.

هل هناك تفاعل حقيقي للسلطة مع كل ما يرفع إليها من تقارير من قبل المنتدى؟

للأسف ظلت تقارير المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية ودراساته النقدية ورؤيته محل تقدير السلط واعجابها خلال كل اللقاءات، وهو حديث لم يغادر الديبلوماسية رغم أن هناك من الحكومات من استمد برامجه الاقتصادية والاجتماعية من رؤية المنتدى. لقد قطعت الثورة التونسية خطوات فعلية في مسار تفكيك التسلطية وبناء مؤسسات الجمهورية الديمقراطية والمجتمع التعددي فدستور 27 جانفي 2014 وتتالي المواعيد الانتخابية تعدّ برغم التعثّرات محطاّت ناجحة في مسار التحول الديمقراطي التونسي مقارنة بما آلت إليه الأوضاع في عدة بلدان عربية مجاورة. وهي محطات لم تكن لتتحقق دون الدور البارز للمجتمع المدني والقوى الديمقراطية والوطنية التي حمت التجربة الديمقراطية. فعلى الحكومات الاعتماد على هذه القوى بما فيها المنتدى من أجل بناء تونس أخرى ممكنة والتصدي لكل القوى الرجعية والشعبوية التي تستهدف الوطن ومكتسباته.

ماهي قراءتكم للوضع الحالي الذي تمر به البلاد؟

منذ دخول البلاد في مرحلة انتقال ديمقراطي لم تحظ المسائل الاقتصادية والتحديات التنموية بالأولوية في النقاش العام. ذلك أن المسائل السياسية طغت على النقاش العام بصفة مستمرة وتقريبا بدون انقطاع في حين أن توطئة الدستور التونسي الجديد نصت على “القطع مع الظلم والحيف والفساد” لذلك فالاستجابة لمطالب الشعب المتعلقة بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية هي من صميم مطالب الثورة بل ومحرّكها الأساسي. إن ما يحصل للبلاد التونسية حاليا شبيه بما وقع منذ الثمانينات في إطار ما يعرف بتطبيق برنامج الإصلاح الهيكلي منذ1986 وبما وقع مباشرة إثر ثورة الحرية والكرامة 2011، إذ أن كل الإصلاحات التي انخرطت فيها الدولة بعد ذلك مثل إصلاح الصناديق الاجتماعية، إصلاح مجلة الشغل، إصلاح التعليم، برامج الخوصصة وغيرها دون نتائج واضحة. لذلك واصلت السياسات على نفس النهج والمنوال واستغلت المؤسسات المالية الدولية الوضع وكثفت ضغوطاتها، مستغلة الظروف المالية الصعبة التي تمر بها البلاد، لتفرض شروطا جديدة، تهدف إلى مواصلة نفس المنوال التنموي الجائر، وذلك عبر فرض جملة من الإصلاحات مثل إلغاء الدعم والشراكة بين القطاعين العام والخاص وتجميد الأجور والترفيع في الضرائب وإصلاح الصناديق الاجتماعية ونظام التقاعد وإصلاح مجلة الشغل للمزيد من المرونة وإصلاح التعليم وغيرها. وقد عملت مختلف الحكومات، التي تعاقبت على السلطة بعد الثورة، على التعجيل بتنفيذ هذه الإصلاحات لضمان الحصول على الموارد المالية الضرورية التي تحتاجها البلاد في ظل تراجع الموارد الداخلية بسبب تباطؤ النمو. ويفسر هذا الإصرار على تلبية شروط المؤسسات المالية بانخراط هذه الحكومات في مسارات العولمة المتوحشة وتمسكها بالحلول التقليدية الرامية إلى الحفاظ على التوازنات المالية الآنية على حساب التوازنات الاقتصادية الحقيقية الضرورية لإعادة التوازن المالي للاقتصاد الوطني، دون اعتبار لما يمكن أن يخلفه هذا التوجه من تداعيات خطيرة على مجمل الحقوق الاقتصادية والاجتماعية للفئات الضعيفة والمتوسط كما أن جائحة كورونا خلفت تداعيات كبرى على الفئات الأكثر هشاشة وعمقت أزمتها في ظل تخلي الدولة عنها. إن الوضع الحالي من أزمة سياسية واحتجاجات اجتماعية انذار أخير لكل الفاعلين السياسيين حول فشلهم في طرح القضايا الحقيقية وتحقيق انتظارات التونسيات والتونسيين وهي رسالة بأن سياسات اللاعدالة والتهميش لا يجب أن تستمر، وهي تحميل للمسؤولية خاصة للقوى التي تخلق معارك جانبية تستهدف فيها مكتسبات الوطن من ديمقراطية وحريات ومنظمات.

بماذا تفسر غياب الارادة السياسية في الأزمة الاجتماعية الحالية؟

لئن كانت الازمة الاجتماعية الحالية التي تمر بها تونس نتاج سياسة اقتصادية واجتماعية تم الحفاظ على استمراريتها حتى إثر الثورة بل هي أيضا نتيجة أزمة سياسية مستمرة منذ الانتخابات الأخيرة التي أفرزت قوى شعبوية ورجعية رذلت العمل السياسي واستعدت القوى الوطنية والديمقراطية ومكتسبات المجتمع التونسي. بل وأصبحت تتحكم في المشهد السياسي وساهمت في خلق الأزمة السياسية الحالية بشكل أضعف الإرادة السياسية في إدارة التحديات الاقتصادية والاجتماعية، وهو ما أدى حاليا إلى مشهد حكومي يتيم سياسيا وخاضع للابتزاز وفاقد لأي رؤية أو إرادة للإصلاح. بل إن الحكومة كان جزءا من المشكل وساهمت بأدائها المرتبك في توتير المناخ الاجتماعي وتصعيد موجات الغضب. إن حالة الوهن التي عليها الحكومة والضعف والارتباك تؤكد غياب أي إرادة ورؤية للإنقاذ الحقيقي للبلاد.

يعيش شباب تونس حالة احباط ويأس، بماذا تفسر ذلك؟

لا يخفي المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية خشيته من المرحلة القادمة في ظل مشهد سياسي محبط و تنامي خطاب العنف و غياب مشاريع حقيقية للإنقاذ وفي ظل استحقاقات اجتماعية ملحة لا تحتمل تأجيلا وانتظارات لفئات عديدة من الشعب التونسي وعزوف للشباب عن المجتمع والدولة، بما يجعلنا اليوم أمام مواجهة اجتماعية جديدة تتغير فيها مواقع المعادين للمطالب الاجتماعية وأدواتهم. وتتجدد فيها مطالب الكرامة والتشغيل والتنمية والعدالة الاجتماعية. ف “الدّولة الجديدة” التي من المفروض أن تنبثق من روح الثّورة أصبحت محلّ تساؤل أمام عدم فاعليتها في ردم الهوّة وفي تكريس التفاوت والبطالة والاقصاء والافلات من العقاب. الوضع الاجتماعي والاقتصادي والسياسي مبرر للاحباط وغموض المستقبل وهو ما يدفع شباب تونس إلى المجهول وخاصة “الحرقة”. فلم يعد الإحباط حكرا على المنقطع عن الدراسة أو المعطل أو ساكني الهوامش ومن هم تحت، بل أيضا شمل الموظف والمثقف والجامعي والاطارات العليا… إن حجم هذا الإحباط هو نتيجة لتهميش المكون الشبابي الذي أصبح في شبه عزلة وأقصى طموحه هو المغادرة نحو آفاق أرحب. 

لماذا يتصاعد نسق التحركات الاحتجاجية من سنة إلى أخرى؟

تدفع كل المؤشرات الاقتصادية إلى القلق وتؤكد فشل السياسات الحكومية على وضع خطة انتقال اقتصادي واجتماعي تضع حدا لمزيد تدهور الأوضاع وتمكن من الاستجابة لمطالب التنمية والعدالة الاجتماعية الملحّة التي تستمر في رفعها والنضال من أجلها عدة فئات وشرائح اجتماعية وسبق أن قلنا في تصريح خلال جوان 2019 “إن حجم الإحباط واللامبالاة إزاء كاريكاتورية المشهد السياسي سيعمق هذه القطيعة ويعطي فرصة البروز للشعبوية وللخيارات المعادية للفئات المحرومة. إن الانتخابات وحدها وخاصة في شكلها الحالي لن تغير الكثير من واقع التونسيات والتونسيين إذا لم يواكبها مجتمع مدني قوي وحركات احتجاجية واجتماعية ذات تعبئة ميدانية قوية واعلام مستقل وقضاء عادل ونزيه وهيئات دستورية حيوية”. إن المشهد السياسي الحالي يؤكد ما ذهبنا إليه ورغم محاولة عديد المنظمات، على غرار الاتحاد العام التونسي للشغل والمنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، الارتقاء بالنقاش والصراع الانتخابي الى صراع برامج وأفكار. إن القفز على الاستحقاقات الحقيقية للشعب التونسي في خدمات عمومية تضمن الحد الأدنى من الكرامة، وفي الولوج لكل الحقوق والاخفاق في تحقيق الانتقال الاقتصادي والاجتماعي وتعميق التفاوت يدفع اليوم فئات عديدة للانخراط في الفعل الاحتجاجي تشبثا بالحقوق الدستورية وبكرامة العيش والعدالة. إن الديناميكيات المحتجة محليا وجهويا وقطاعيا نتيجة سياسات أضعفت الدولة وكرست التفاوت وعجزت عن تحقيق انتظارات التونسيات والتونسيين. هذا النسق سيتواصل قد يخفت أحيانا لكن يعود بأكثر قوة ليكون صرخة ضد مواصلة نفس التمشيات الاقتصادية وأمل في تغيير جذري للمنوال التنموي السائد من أجل بديل تنموي عادل ومستدام يكرس الحقوق كل الحقوق.

لماذا تتفاعل الحكومة فقط مع المحتجين الذين يعطلون مواقع الانتاج؟

تعاملت كل الحكومات مع الاحتجاج الاجتماعي بالصمت أو الوصم والحملات الاعلامية أو الملاحقات الأمنية والقضائية، وهرسلت النشطاء وانهكتهم بالمحاكمات وعاقب كل التحركات الاحتجاجية التي اختارت وسائل نضالية في كنف احترام القانون، وظلت الاحتجاجات امام مقرات السيادة جهويا ومركزيا لأشهر دون أي التفاتة في مشهد غاية في الاقصاء والتحقير. وبالتالي دفع هذا السلوك الاحتجاجات الى الأقصى باعتبار أنه غالبا ما يكون الحل ممكنا وهو ما يقع الاستجابة له. فمثلا العشرات من العائلات تظل عطشى لأيام دون أي تفاعل مع نداءاتها وفي لحظة التجائها للأسلوب الأقصى يكون الحل خلال ساعات. كل ذلك رسخ سيناريو جاهزا لدى الديناميكيات الاحتجاجية وهو المرور للأقصى حتى تضمن الانصات. تبنى تكتيكات الاحتجاج دائما على تفاعل الطرف المقابل والحكومات المتعاقبة رسخت هذا الأسلوب في الاحتجاج. بصرف النظر عن الموقف من آلية الاحتجاج يجب البحث دائما عن الأسباب العميقة له حتى يكون التدخل استباقيا.

وهل يعني هذا أن الحكومة هي من تدفع الحركات الاحتجاجية إلى الانحراف نحو التصعيد واتخاذ أشكال غير سلمية؟

عموما، ومقارنة بما يقع في دول عديدة في العالم، فإن الفعل الاحتجاجي في تونس فعل سلمي مدني ويظل الدستور ونصوصه عناوين الاحتجاج الرئيسي. لم ينزل الفعل الاحتجاجي في تونس إلى الانحراف بل حافظ عموما على أشكال سلمية وإن سببت احتجاجا مضادا. فالاحتجاجات صرخة في وجه حقوق منتهكه لأن الحق في الماء والحق في بيئة سليمة والحق في الشغل والعيش بكرامة والحق في تطبيق الاتفاقيات إلخ… عناوين لا اختلاف في مشروعيتها وتظل هي التي تنتظر إجابة وليس الهروب نحو مناقشة الشكل الاحتجاجي. فكيف لمواطن لا يتزود بقطرة ماء أو باحث عن دواء أو طبيب أو باحث عن مورد رزق لعائلته أو غيرها، وهو يشاهد الاحتجاجات في البرلمان واحتجاجات النخب المهنية والقطاعية أن يناقش الشكل وهو يعاين الأسوء. تبقى المسؤولية أساسا للتعامل الحكومي والذي يراهن على الوقت وتشتيت جهود المحتجين بشكل يدفعهم دفعا للاقصى. 

ماهي قراءاتكم لملامح قانون المالية لسنة؟

واصل مشروع قانون المالية لسنة 2021، رغم استثنائية الوضع نتيجة الجائحة وتداعياتها المستمرة، اعتماد سياسات تقشف طبقا لاملاءات المانحين من خلال برمجة اجراء تعديلات لأسعار بيع المحروقات للعموم قصد التقليص من نفقات الدعم، ومثل هذا الاجراء سينتج عنه حتما ارتفاع أسعار النقل والكهرباء وعديد الخدمات والمواد المستهلكة للطاقة مع تدهور القدرة الشرائية لشرائح عديدة من المجتمع.

كما أن استمرار سياسات التقشف تبرز من خلال الضغط على الانتدابات الجملية المبرمجة سنة 2021 رغم الحاجيات الهامة لبعض القطاعات الاجتماعية الحساسة مثل قطاع التربية والصحة والتكوين المهني والثقافة…

 مثل هذا الاجراء يندرج في البحث المحموم على تقليص نسبة حجم الأجور من الناتج الوطني الخام. إضافة الى مواصلة الاقتصار على ضبط المداخيل والنفقات وسياسات التوازنات الكلية مع الحرص على الحد من عجز الموازنة دون أي نفس اصلاحي أو تنموي. ومواصلة الحد من نفقات التنمية رغم ضعف الاستثمار الخاص وضعف نسبة النمو. علما وأن هذا التعامل غير المسؤول مع قضايا التنمية يتزامن مع تراجع خطير للاستثمارات المصرح بها.

والأخطر مواصلة الاقتراض الذي شهد ارتفاعا متزايدا علما أن قيمة خدمة الدين العمومي ستتجاوز حاجيات الاقتراض. وهذا اللجوء المتكرر والمتصاعد إلى التداين العمومي هو نتيجة غياب العزيمة والجدية في اعتماد اصلاح جبائي يمكن من توزيع عادل للعبء الجبائي ومن الحد من الامتيازات الجبائية ومن مقاومة التهرب الضريبي ومن اخضاع القطاع غير المنظم الى المساهمة الجبائية ومن مقاومة تهريب الأموال. ومن المؤسف أن يقع تبرير غياب مثل هذه السياسات منذ 2011 بدعوى أن مردودها المالي لا يمكن أن يتحقق إلا على المدى المتوسط والطويل. وفي الحقيقة فإن مثل هذا الغياب هو ناتج عن رفض اللوبيات وأباطرة الفساد والمستفادين من الأوضاع القائمة لكل نفس اصلاحي إلى جانب تداخل المال والسياسة وانتشار الفساد.

كما كشف مشروع الميزانية ضعف العناية التي يحظى بها القطاع الصحي العمومي وضعف الموارد المخصصة له جرّاء سياسة تخلي الدولة عن القطاعات الاجتماعية والتي نتج عنها اهتراء البنية التحتية للهياكل الصحية العمومية وضعف التجهيزات وهجرة الكوادر الصحية نحو القطاع الخاص والخارج واتساع هوة الخارطة الصحية بين الجهات والمناطق وفقدان الأدوية والمستلزمات الطبية وسوء التنظيم والتصرف واستفحال ظاهرة الفساد وتدهور الخدمات. هذه الأوضاع أدت إلى صعوبات كبيرة هذه الأيام في التعامل مع الأزمة والتكفل بمصابي الكوفيد 19 رغم المجهودات والتضحيات التي يقوم بها إطارات وأعوان الصحة نهارا وليلا.

عموما يؤكد مشروع ميزانية الدولة لسنة 2021 مواصلة السلطة القائمة القطيعة التامة مع الانتظارات الشعبية وطموحاتها في تحقيق تنمية بديلة ببعديها الوطني والاجتماعي. يمكننا القول أن المنوال التنموي الذي اعتمد في تونس منذ الاستقلال وإلى غاية الآن لم يكن فقط السبب الرئيسي في تعميق التفاوت الجهوي واتساع الفوارق الاجتماعية، بل كان السبب الأساسي في تنامي ظاهرة البطالة وتفشيها خاصة لدى حاملي الشهادات العليا، بالإضافة الى تنامي ظاهرة التشغيل الهش. كما أن هذا المنوال ساهم في تدنى الخدمات العمومية وفي تفاقم ظاهرة الاقتصاد الموازي، هذا فضلا عن تدهور الاوضاع البيئية. ومرة أخرى يؤكد المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية على ضرورة العمل على بلورة بديل تنموي واضح المعالم والاختيارات والأولويات، قادر على رفع التحديات، يستجيب للانتظارات الشعبية ويوفر المرجعية الضرورية لكل ميزانية عمومية.

Skip to content