مقالات

فلسطين وجع الكتابة تصرّ على اعادة العرب إلى التاريخ

خليفة شوشان
صحفي

لا أتصوّر أن موضوعا أو قضيّة تستدعي الكتابة فيها اليوم كلّ أوجاع الكتابة مثل القضيّة الفلسطينية، إلى زمن قريب قد يكون عقدين من الزمن فالسنوات في عمر الشعوب والقضايا الكبرى تعتبر تفصيلا صغيرا كانت الكتابة في القضيّة الفلسطينية أقرب إلى الكرنفال الاحتفالي الذي لا تخوننا فيه الفكرة ولا العبارة، وفي أسوأ حالات الكتابة وبمجرّد أن نمسك القلم وننطق اسم فلسطين حتى نجد أنفسنا منخرطين في قصيدة أو قصّة أو رواية عامرة بالجمالية والدلالة.

لقد كانت فلسطين جزء من هوائنا وسمائنا ومائنا ومخيالنا، من فرحنا وأحزاننا، ومن اراداتنا ووعينا، بل لنقل من رؤيتنا للعالم وتموضعنا في المكان والزمان وإحساسنا بوجودنا. فلسطين هي قلب المعادلة في وعي كل عربي آمن بأحلام الحرية والوحدة والعدالة الاجتماعية وبالقيم الإنسانية فلسطين هي القضيّة المركزيّة ونافورة أحلامنا وآمالنا في التحرر والانعتاق وبوصلتنا التي نهتدي بها إذا ما تهنا في غمار المتغيرات العاصفة.

اليوم يكاد وجع الكتابة يخنقنا ونحن نتهجّى الحروف «ف ل س ط ي ن» فيتحوّل المداد دموعا بعد أن جفّ الدم في الأوردة. هذا الألم المبحوح الذي يعتصر الوجدان والتلاشي الذي ينتابنا ونحن نشرع في الكتابة عن فلسطين ليس سوى انعكاسا لحالة التشضّي الذي تعيشه القضية التي كانت توحّدنا.

يتساءل الكثيرون «ماذا تبقى من القضيّة الفلسطينيّة؟ أو القضيّة الفلسطينية إلى أين؟ لا فرق بين السؤالين فكلاهما يحاول أن يستبق حدثا جنائزيا مهيبا تعلن فيه مراسم دفن هذه القضيّة وغلق ملفها وختمه بالشمع الأحمر. لكن السؤال الجديد بالطرح أكثر ماذا تبقى للعرب من دون القضيّة الفلسطينيّة التي كانت توحدهم؟ أو إلى أين يسير العرب بعد أن خانوا قضيتهم الفلسطينية وحولوها من المركز إلى الهامش مجرد حدث عرضيّ في حياتهم التي صارت بلا معنى؟

قد أكون مخطئا بعكس السؤال فأي معنى للحامل في غياب المحمول أو للجسد بلا روح أو للفظ في غياب الدلالة وللأمة العربيّة في غيبة فلسطين؟ وهل يمكن أن تغيب أو تغيّب القضيّة الفلسطينيّة؟ لطالما أعلن العرب في بياناتهم وخطبهم لأكثر من قرن من الزمن ومنذ اعلان وعد بلفور المشؤوم سنة 2017 «وعد من لا يملك لمن لا يستحقّ» أنهم سيحررون فلسطين ولكن الدروس المستفادة من التجربة الطويلة تؤكد باستمرار أن فلسطين هي التي ما انفكت تحرر العرب وتعيدهم إلى واجهة الأحداث وهم يوشكون على الخروج من التاريخ وخسارة الجغرافيا.

عندما أقدم الرئيس الأمريكي «دونالد ترامب» مؤخرا على الاعتراف بالقدس عاصمة لدولة الكيان الصهيوني ونقل السفارة الأميركية من «تل أبيب» إلى القدس كان على يقين هو ومهندسي القرار من لوبيات الضغط الصهيونيّة ووكلائهم المحليين في المنطقة أن الجسد العربي المثخن بجراحات الحروب الطاحنة بين الاخوة الأعداء والانقسامات الحادة في القلب منه بين الفلسطينيين وتصارع الأجندات الاقليمية والدولية حوله مهيأ لقبول هذا القرار بعد أن فقد مناعته تفاجأ بهذا الجسد المتهالك في موت شبه سريري ينتفض وتعمره الحياة وتتدفق في شرايينه الدماء رفضا للقرار، حتّى خيالاه الميتة من أنظمة العمالة التي ظنّ أنّها وقعت صك الاعتراف في السرّ خجلت من قبول الموقف ونددت. لقد كان القرار من حيث لم يدر موقعوه بمثابة جهاز الصدمات الكهربائيّة الخارجي الذي اعاد للجسد العربي شبه الميت نبضات قلبه وان لم يكن ذلك بشكل طبيعي ولكنه منحه فسحة أخرى للحياة عنوانها فلسطين.

Skip to content