مقالات

كيف يمكن التأسيس لحركة اجتماعية ومدنية قادرة على المقاومة والتغيير:

ضرورة خلق ديناميكية مستمرة تقـــطع مع عرضية الفعل المجتمعي المقاوم

نصر الدين ساسي
صحفي

في خضم الانتقال الديمقراطي قد لا تكفي المؤسسات التقليدية لضمان عدم زيغ مسار التأسيس والبناء عن مقومات الديمقراطية والمواطنة والكرامة والعدالة لذلك من الضروري العمل على بناء حركة اجتماعية مدنية قادرة على المقاومة والتغيير قادرة على  مجابهة كل نوايا التراجع والارتداد وخاصة منها التي تستهدف  التضييق على الحقوق الاقتصادية والاجتماعية ومزيد بسط النفوذ الامبريالي وسلعنة الأفكار والممارسات وإطفاء جذوة المقاومة وتطويع الأفراد خدمة لمقتضيات السوق ودعما بثقافة الاستهلاك دون بقية الثقافات. في تونس كما في عديد البلدان ومع التراجع الجلي للأحزاب التقليدية واتجاه الخارطة الحزبية نحو مزيد التشتت والتفرقة ببروز مكونات حزبية مجهرية تغيب عنها قاعدة جماهرية جلها منخرط في قوانين اللعبة السياسية من خلال استبدالها لعنصر المقاومة ونهجها طريق التسويات والتوافقات من أجل اقتسام السلطة وتأبيد الأوضاع الراهنة. بعد فشل الأحزاب التي باتت عاجزة عن التأقلم مع المتغيرات المتسارعة وغير قادرة بفعل صلابة هيكلتها وخطيتها أصبحت غير قادرة على التعاطي بشكل مستجد مع الأحداث فتجدها في غالب الأحيان خارج السياق، هذا الواقع يطرح اليوم ضرورة العمل على تجذير الحركات الاجتماعية المدنية وتعزيز قدراتها على المقاومة والتغيير لتكون بديلا ناجعا لمجابهة كل الانزلاقات التي تتهدد بشكل جدي الحقوق الاقتصادية والاجتماعية.

تعزيز دور التعليم والثقافة والإعلام

ما من شك في أن التأسيس لحركة اجتماعية مدنية قوية ومتناسقة يقتضي ضرورة إدماج البعد الاجتماعي المدني ضمن برامج التعليم حتى تكون لهذا التأسيس أرضية صلبة تبنى من خلال زرع هذه القيم ضمن برامج التعليم فالتاريخ أثبت أن برامج التعليم والفضاء المدرسي عموما كانت المنفذ للنظم الاستبدادية لتنشئة أجيال إما خاضعة أو أجيال قابلة للاستقطاب و»الدمغجة» والتوجيه لذلك من الضروري في هذا الاتجاه العمل على تطوير برامج التعليم والضغط من أجل تضمينها لقيم المساواة والعدالة والمواطنة ولقيم المقاومة والرفض والمحاججة والتغيير باعتبار الفضاء المدرسي والأسري الفضاء الأكثر تأثيرا في التنشئة على هذه قيم  وفي نفس الاتجاه تأخذ المسألة الثقافية وكل التعبيرات المرافقة لها سواء منها الثقافية أو الفنية أو حتى الإعلامية بشكل عام أهمية كبرى في هذا الصدد حيث لا مجال اليوم القبول باستمرار التنميط الثقافي وبسط نفوذ السلطة على الإبداع والمبدعين من خلال ارتهانهم لفكرة الدعم ودفعهم للتحرك في مربعات الولاء أو بدرجة أقل الانخراط في سياقات سطحية دون أثر أو ممانعة ومقاومة معلنة للواقع المتردي. ويتحمل الميدان الإعلامي باعتباره قوة وسلطة تعديلية يتحمل أيضا مسؤولية هامة في هذا المجال من خلال ضعف مساهمته في بناء فكر مدني مقاوم وانخراط جزء كبير من مؤسساته في منظومة رأس المال التي تشتغل على الجوانب الدعائية أكثر من الاشتغال على التأسيس والبناء والرفض. ويبرز هنا دور الإعلام العمومي كحامل من المحامل التي يفترض أنها غير معنية مباشرة بهاجس الربح والانخراط في منظومات رأس المال بقدر ما هي مدعوة إلى نشر قيم المواطنة والمقاومة ضمن مشروع ثقافي تقدمي، لذلك من الضروري اليوم الانطلاق في التأسيس للحركات الاجتماعية المدنية عبر التأسيس لأرضية تعليمية وثقافية وإعلامية داعمة ودافعة لهذا التوجه وهذا المنوال المجتمعي الجديد.

مقاومة الشعبوية والتطرف والاستقطاب الديني

من بين النقاط التي يتوجب الاشتغال عليها لبناء حركات اجتماعية مدنية قوية وقادرة على التغيير هي مقاومة المد الشعبوي المتنامي الذي أصبح يشكل تهديدا مباشرا للفعل المجتمعي المدني المقاوم وذلك من خلال تضخيمه لدور الشعب من جهة وضربه للمؤسسات الموجودة من جهة أخرى في عملية  بتر للمنوال المدني وبناء نوع من الدكتاتورية الشعبية الهدامة التي قد تصل حد العنف خصوصا مع حفاظها على كل مقومات التفرقة من انتماءات جهوية و»عروشية» فلا مناص من العمل على مقاومة هذا المد الشعبوي الجارف وبناء مقاربة مجتمعية تكفل التعايش في إطار التنوع مع تجذير القدرة على المقاومة والتغيير وطرح البدائل. ولا يقل الاستقطاب الديني والتطرف خطورة عن الشعبوية فكلها نظريات وإيديولوجيات تستهدف العزل الاجتماعي سواء عبر تضخيم المجموعة أو عبر تضخيم الذات فالاستقطاب الديني الذي يبني مقولاته على قتل جانب الرفض والمقاومة لدى الأفراد وخلق محطات للتناوب ونزع الإرادة الفردية لصالح الجماعة ومصلحتها وهذا ما يفسر في أحيانا كثيرة سهولة تحويل الأفراد إلى ذئاب منفردة وعبوات ناسفة ويكون غالبا التطرف طريقا للعزل وآلية للشحن ضد مقومات المدنية والمقاومة لذلك لزام علينا الانتباه إلى الأطروحات الفكرية التي تعمل على تصديع البناء المدني بالعمل على تحصين الأفراد وخلق آليات ممأسسة ومستقلة للمتابعة والتأطير وإعادة الإدماج الاجتماعي ضمن قيم المواطنة والمساواة والعدالة.

الانتباه للاختراقات والحركات المضادة

بعد أن أضحى دور الحركات الاجتماعية هاما ومحوريا في تعديل السياسات وجبهة قوية للضغط والمقاومة تحركت عديد الهياكل والأحزاب للاستفادة من دور الحركات الاجتماعية وقوة تأثيرها في الرأي العام وقدراتها التعبوية وذلك من أجل تحقيق أهدافها المتمثلة في إسناد مقولاتها السياسية والحزبية بعمق جماهيري وشعبي وقلب المعادلة لتبدو أجندات الأحزاب استجابة لمطالب اجتماعية وجماهرية وثانيا من أجل شق الصفوف والحيلولة دون أن تكون جبهة اجتماعية متناغمة ومتجانسة قد تكشف حقيقة ضعف الأحزاب التقليدية وتلاشي أثرها وفعلها في الحكم كما في المعارضة والمقاومة. ولا يخلو هذا الاتجاه من رغبة جامحة في اختراق هذا الجدار المجتمعي المدني الذي شكل في محطات عديدة درعا ضد تمرير مشاريع تضرب قيم المدنية والعدالة وحقوق الإنسان على غرار الوقفة الشرسة لسحب البند الدستوري الذي يضع المرأة مكملة للرجل وغيرها من المواقف التي نجحت الحركات الاجتماعية في مقاومتها والتصدي لها عبر الضغط والمناصرة وكسب الرأي العام. رغبة الأحزاب وعديد الهياكل في اختراق الحركات الاجتماعية يجب التنبه لها عبر تحصين صفوف هذه الحركات التي تستمد قوتها من عدم خضوعها لأجندات أو أطراف بعينها لكن هذا الأمر يقتضي في حدوده الدنيا صياغة ميثاق مجتمعي مدني على غرار ميثاق «بورتو ألغري» للمنتدى الاجتماعي العالمي يتضمن الخطوط الكبرى والقيم المشتركة التي يتوجب الدفاع عنها وهو ما سيسهل لاحقا التفطن لكل الحركات المعادية أو الساعية إلى الاختراق أو الحريصة على ضرب هذه الحركات المدنية بطرق عدة سواء بالتقليل من قيمتها وتأثيرها في الواقع أو بتكفيرها أو بخلق أنشطة وهياكل موازية.

الاستقلالية والشفافية

الاختراقات للحركات الاجتماعية لا تتعلق بالقوى المعادية لحقوق الإنسان أو المستندة إلى إيديولوجيات متطرفة فقط وإنما هناك بعض المكونات التي تتقاسم ظاهريا نفس الأفكار التقدمية الكبرى أو تتبنى المقاربة المجتمعية عبر إعلان استقلاليتها عن فلك الأحزاب لتتجه مباشرة نحو مأسسة الفعل المجتمعي والاستفادة منه بأكبر قدر من خلال الاشتغال عليه بشكل مدروس في ظاهره مجتمعي وفي باطنه سياسي بامتياز وهي منهجية مقنعة نجحت في أحيان كثيرة في استمالة الرأي العام من خلال تمسكها بدورها كحركات مجتمعية مدنية لتكشف لاحقا حقيقة رغباتها السياسية ونواياها في دخول معترك السلطة والأمثلة على ذلك كثيرة منها «عيش تونسي» أو جميعة «خليل تونس». عديدة هي الجمعيات المدنية التي أدركت أهمية دور الحركات الاجتماعية وحاولت تطويعها واستغلال نفوذها لغايات سياسية بعيدة عن الأهداف الحقيقية في نشر ثقافة المقاومة والقدرة على التغيير. وعلى غرار التعددية الحزبية والنقابية توجد تعددية اجتماعية لكنها غير متجانسة والبعض منها يشتغل على البعد الاجتماعي والمدني لكنه لا يتبنى مفهوم المقاومة والرفض والتغيير بل إن البعض منها يدعم فكرة الحركات الاجتماعية الناعمة والدافعة إلى الموالاة لأجندات خارجية مرتبطة بمنسوب الأموال الوفيرة التي تحصل عليها بعض الجمعيات مقابل تنويم منطق الرفض والتغيير. وعليه فإنه من الضروري التأكيد على مسألة الاستقلالية كأرضية لا جدال حولها بشأن الحركات الاجتماعية وثانيا مسألة الشفافية المالية حتى لا تتحول بعض هذه المكونات إلى ما يشبه الوكالات لتبييض الأموال وتبييض الأجندات الأجنبية.      

نحو مزيد من التشبيك والفاعلية

تحصين الحركات الاجتماعية عبر ميثاق مجتمعي مدني ليس الإجراء الوحيد المتاح بل هناك حزمة من الإجراءات الضرورية لدفع الحركات الاجتماعية نحو مزيد من الفاعلية والنجاعة وفي مقدمتها الاتجاه نحو مزيد تشبيك العلاقات مع بقية المنظمات الوطنية المستقلة والقادرة على أن تشكل ذراع إسناد قوي للحركات الاجتماعية من خلال قدراتها التأطيرية والتفاوضية بالأساس ويمكن أن يكون الذراع النقابي ممثلا في الاتحاد العام التونسي المنظمة النقابية العريقة هو ذراع الإسناد الفاعل والأقدر على توفير البعد التفاوضي كإحدى آليات التغيير إضافة إلى القدرات التعبوية والتأطيرية للمنظمة النقابية التي تتمتع بمقومات الشريك الاستراتيجي للحركات الاجتماعية وتتبنى نفس قيمها ورغباتها في المقاومة والتغيير. بقي أن نشير إلى ضرورة تفعيل الحركات الاجتماعية المدنية من خلال الاستفادة من علاقات التشبيك مع المنظمات الوطنية وخاصة النقابات وكذلك الانفتاح على المحيط التلمذي والطلابي الذي طاله التصحر والاستقطاب وأخيرا ضرورة خلق ديناميكية مستمرة تقطع مع عرضية التحركات أو الفعل المجتمعي المقاوم على نحو يضفي المزيد من الفاعلية والدورية على فعل وأثر الحركات الاجتماعية ويعمق مبدأ المقاومة والتغيير فكرا وممارسة و وسيلة وغاية.                              

Skip to content