مقالات

من الصين إلى تونس: دروس في التحديث وشراكة خارج إملاءات المؤسسات المالية

نصر الدين ساسي
صحفي

من يزور الصين لا يعود كما ذهب. فمنذ لحظة الهبوط في مطار بكين تتبدّد الصور النمطية التي علقت بأذهاننا لعقود: “مصنع العالم”، “التنين النائم”، أو بلد الرجال الآليين الذين لا يعرفون سوى لغة الإنتاج. لكن الحقيقة أعمق وأكثر تركيباً. هنا نحن أمام مشروع حضاري متكامل، لا يقوم على الاقتصاد وحده، بل يتقاطع فيه التاريخ العريق بالحداثة العمرانية، وتتماهى فيه التنمية الاقتصادية مع الحماية البيئية، وتظل الدولة محور التوازن والضامن لاستمرارية المشروع.

هذا المشهد يعيدنا إلى تونس، حيث يعيش الاقتصاد الوطني منذ سنوات تحت ضغط الأزمات المالية والهيئات الدولية المانحة التي تقدّم القروض بشروط قاسية، تفرض سياسات تقشفية وتدفع نحو خصخصة القطاعات العمومية وتراجع دور الدولة. أمام هذا الواقع، تبدو التجربة الصينية أكثر من مجرد نموذج بعيد، بل فرصة لتصوّر مسارات بديلة، تفتح لتونس آفاق تعاون تقوم على نقل التكنولوجيا، التدريب، والاعتماد على الذات، بعيداً عن الارتهان للإملاءات الخارجية.

الدولة مهندس المشروع وليست حَكَماً محايداً.

في شوارع شنغهاي، تتجلّى الدولة كمهندس استراتيجي، لا كحَكم محايد. الأبراج الشاهقة في “البوند” على ضفاف نهر هوانغبو لم تُبنَ بقرارات شركات منفردة تسعى وراء الأرباح، بل وفق رؤية وطنية شاملة أرادت تحويل المدينة إلى مركز مالي عالمي. متحف التخطيط الحضري في شنغهاي يروي هذه القصة بوضوح: كل جسر، كل نفق، كل مساحة خضراء هو جزء من خطة كبرى صاغتها الدولة وأشرفت على تنفيذها بدقة.

هنا يطرح السؤال نفسه في تونس: ألسنا في أمسّ الحاجة لإعادة الاعتبار لدور الدولة كفاعل استراتيجي يخطّط ويمهّد الطريق للاستثمارات، بدل ترك الحبل على الغارب أمام السوق والمصالح الضيّقة؟ التجربة الصينية تؤكد أن قوة الدولة لا تعني خنق المبادرة الفردية أو الاستثمار الخاص، بل العكس، إذ إن الدولة تضبط الإطار وتمنع تغوّل اللوبيات، فتوفّر شروط منافسة عادلة واستثمار يخدم الصالح العام.

في المقابل، تعاني تونس من ضغوط المؤسسات المالية الدولية التي تدفع نحو تخلي الدولة عن ملكيتها للمؤسسات العمومية وتركها تحت رحمة السوق. وهنا يمكن أن نستفيد من فلسفة “الملكية المختلطة” التي تعتمدها الصين، حيث يتم إشراك رأس المال الخاص دون التفريط في الطابع العمومي للمؤسسات الاستراتيجية.

البيئة كشرط للبقاء لا كترف

في مدينة شانشونغ، حيث تمتزج الحدائق والأنهار مع عمران حديث، بدا واضحاً أن البيئة ليست ديكوراً، بل جزء لا يتجزأ من فلسفة التحديث. زيارة حديقة الباندا والجولة على النهر تكشف أن الحفاظ على الطبيعة يمثل رهاناً وجودياً للصين. فالبلد التزم بالوصول إلى ذروة الانبعاثات الكربونية قبل 2030 وتحقيق الحياد الكربوني بحلول 2060، ليس كشعار سياسي بل كخطة مدعومة باستثمارات ضخمة في الطاقات الشمسية والرياح، وبناء مدن جديدة بمعايير بيئية دقيقة.

في تونس، حيث التصحر يزحف والجفاف يهدد مناطق بأكملها، يصبح السؤال ملحّاً: متى نخرج من سياسة الترقيع الظرفي إلى سياسة استراتيجية تجعل الانتقال الطاقي خيار بقاء لا ترفاً بيئياً؟ الصين تقدّم المثال على أن التنمية الخضراء ليست عبئاً على النمو، بل شرطاً لاستدامته.

التخطيط الحضري لمدن تتنفس

أكثر ما يثير الدهشة في التجربة الصينية أن التحديث العمراني لا يلغي الإنسان، بل يُعيده إلى قلب الفضاء. في شنغهاي أو بكين، المساحات الخضراء والحدائق العامة ليست استثناءً، بل جزءاً من المشهد الحضري. الجسور المعلّقة والأنفاق والطرق السريعة بُنيت بعناية، لكنها تترك مجالاً للأنهار والبحيرات والمتنزّهات.

هذا يضعنا في مواجهة واقع مدننا التونسية المكتظّة والعشوائية، حيث تضيق الفضاءات العمومية أمام المواطنين، وحيث يغيب التخطيط بعيد المدى. هنا أيضاً يمكن أن يشكّل التعاون مع الصين مجالاً مثمراً، سواء في تصميم البنية التحتية أو في تبادل الخبرات حول كيفية إعادة الطبيعة إلى قلب المدينة.

نحو الشراكة والسيادة الوطنية

إذا كانت الصين قد بنت تحديثها على أربع ركائز: محورية الدولة، التنمية الخضراء، التخطيط الحضري، وكسر الصور النمطية، فإن تونس مدعوّة لترجمة هذه الدروس إلى شراكة عملية تقوم أولا على التدريب ونقل التكنولوجيا: فتح آفاق أمام الشباب التونسي للاطلاع على التجربة الصينية في مجالات الذكاء الاصطناعي، الزراعة الذكية، الطاقة المتجددة. وثانيا على التعاون في البنية التحتية والاستفادة من خبرة الصين في بناء الجسور، الموانئ، المدن الذكية. وثالثا في الطاقات المتجددة: استثمار مشترك في الطاقة الشمسية والرياح، خاصة في الجنوب التونسي الذي يملك إمكانات هائلة. ورابعا في التعاون الأكاديمي والبحثي: إنشاء مراكز بحث مشتركة في الجامعات التونسية بالتعاون مع الجامعات الصينية.

بهذه المقاربة، يمكن لتونس أن تبدأ التحرر تدريجياً من التبعية لمؤسسات مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، التي ربطت الاقتصاد الوطني بعقود من التقشف وتراجع الخدمات العمومية.

الإعلام كجسر للتعاون وتفكيك الصور النمطية

لا تكتمل التجربة دون بُعد إعلامي. فالصين، رغم إنجازاتها الضخمة، ما تزال محاطة بالصور النمطية في الإعلام الغربي الذي يختزلها في كونها “آلة إنتاج” أو “خصم جيوسياسي”. من هنا تبدو الحاجة إلى سياسة إعلامية جديدة تعرّف بالشراكات الصينية–التونسية وتكشف أبعادها الإنسانية والثقافية، لا الاقتصادية فقط.

الإعلام يمكن أن يلعب دوراً محورياً في توسيع فضاء المعرفة المتبادلة، عبر برامج تبادل للصحفيين، وتغطيات مشتركة للمشاريع، وإنتاج مواد وثائقية تُعرّف بالرؤية الصينية للتحديث. كما يمكن للإعلام التونسي أن يستفيد من التجربة الصينية في الرقمنة والتوزيع المتعدد المنصات، بما يجعل العلاقة الإعلامية جزءاً من التعاون الاستراتيجي بين البلدين.

جسور التحديث والصداقة

رحلتي إلى الصين كانت أكثر من مجرد زيارة، كانت درساً في أن التحديث ليس وصفة جاهزة تُستورد، بل فلسفة تُبنى على مقومات كل بلد. التجربة الصينية قامت على دولة قوية، تخطيط بعيد المدى، تنمية خضراء، ومدن تحتضن الإنسان. أما في تونس، فإن اللحظة التاريخية تفرض البحث عن بدائل خارج قوالب المؤسسات المالية الدولية، والرهان على شراكات متوازنة تُعيد للتنمية معناها الشامل.

فالصداقة الصينية التونسية يمكن أن تتحول من شعار ديبلوماسي إلى مختبر عملي للتعاون، في الابتكار والبيئة وتخطيط المدن. وإذا كان التونسيون يبحثون عن طريق للنهضة بعيداً عن التبعية، فإن الصين تقدّم مثالاً على أن المستقبل يُبنى بالإرادة والسيادة، لا بالإملاءات والتقشف.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *