مقالات

نظام الحُكم الفاشل يُصادر الحق في الاحتجاج ويختار “الحلّ” الأمني والميليشياوي!

صورة لمحمد كريت
خليفة شوشان
صحفي

في لحظة فارقة ومفصليّة من تاريخ تونس وبعد عشر سنوات على الثورة تجد المؤسسة الأمنيّة نفسها مرّة أخرى أمام تحَدٍّ مفصليّ ودقيق قد يحدّد معالم أدوارها المستقبليّة في البلاد ويرسم ملامح علاقتها بالشأن العام وصورتها في الذهنيّة العامة التي طالما كانت مشوبة بالشكّ والتوجّس والخوف. تدفع المؤسسة الأمنية في اللحظة التي تعيش فيها تجربة الانتقال الديمقراطي التونسيّة مخاضها العسير بين استكمال مسارها الثوري أو الارتكاس والفشل والعودة إلى الوراء، إلى قلب دوّامة الأحداث في استنساخ بائس للحلول الفاشلة نفسها التي دأبت عليها منظومات الحكم المتعاقبة القائمة على فرض خيار المقاربة الأمنيّةفي وجه تصاعد الاحتجاجات الاجتماعية

احتجاجات تعددت خلفياتها وتنوّعت أشكالها وتعبيراتها بين الشعبية الشبابيّة والجهوريّة والحزبية والقطاعيّة والفئويّة، فكانت في معظمها سلميّة في وجهها الكلاسيكي المطلبي وفي جزء منها صداميّة عنيفة فجّرت موجات من الاحتقان الليلي شهدتها الأحياء الشعبية والمدن الداخليّة وتخللتها بعض أعمال الشغب والاعتداء على الأملاك العامة والخاصة ودخلت في مواجهة مفتوحة مع قوّات الأمن أمام صمت ولامبالاة السلط المحليّة والجهويّة والمركزيّة والرئاسات الثلاث والأحزاب الحاكمة الغارقة في أزماتها الداخليّة.

انفجار اجتماعي منتظر سبق التحذير منه منذ أشهر رفع خلاله المحتجّون نفس الشعارات والمطالب الاقتصادية والاجتماعية والسياسيّة المزمنة التي سبقت الثورة ومهّدت لها ومثلت برنامجها وأهدافها وتواصلت خلال هباتها الارتدادية الموسميّة على مدار عشر سنوات.

قد يكون الجديد القديم في هذه الهبّة الاحتجاجيّة التي تشهدها البلاد هذه السنة تزامنها مع أزمات اقتصادية واجتماعية وسياسية خانقة زادها الوضع الصحّي وانتشار الجائحة الوبائيّة تعمّقا واستفحالا، فاتخذت تعبيرات قصوويّة أقرب إلى التمرّد على القوانين السارية المألوفة المنظمة للتظاهر والاحتجاج والكفر الشعبي بالمنجز الثوريفي أبعاده السياسية والديمقراطية والحقوقيّة. وقد يكون هذا التمرّد العفوي وانفجار المرجل الذي يغلي منذ سنوات قد أربك السلطة الحاكمة وخاصة القوى السياسيّة المتصدرة للحكم والمستفيدة منه وفي مقدمتها حركة النهضة وبقيّة المتحلقين حول مائدة الحكومة من أحزمتها الحزبيّة إلى حد الرعب واستشعار علامات اقتراب نفاذ رصيدها السياسي، فكانت ردّة فعلها الأقرب المسكونة بهواجس خسارة نفوذها وامتيازاتها التي غنمتها وراكمتها طيلة عشر سنوات، واعتماد سياسة الهروب إلى الأمام والاستنجاد بالوصفة الأسهل في نظرها والاستناد إلى الخيار الأمني في أكثر أشكاله قمعا لإخراس الأصوات ومعالجة أعراض الأزمة لا الانكباب على فهم أسبابها. وصفة أمنيّة جاهزة ومستعجلة أثبتت كل التجارب التاريخية الوطنية والدولية المقارنة أنّها لن تزيد الوضع إلا توترا وإنّها وإن نجحت عاجلا وإلى حين في إخماد دخان الحرائق الاجتماعية فإنّها لن تزيد النار الخامدة إلا توهجا واشتعالا على المدى الآجل. هذا الأسلوب السلطوي ليس بالجديد على التونسيين بل يكاد يكون نفسه الذي انتهجته النظم الاستبداديّة المتعاقبة على البلاد قبل الاستقلال وبعده، لكنّ المفارقة الكبيرة اليوم أنّ المستنسخين لهذا الأسلوب من الحكّام والأحزاب محسوبون على الانتقال الديمقراطي ويرددون بلا خجل أن الأنظمة الديمقراطيّة لا تسقط بالثوراتمتناسين في الوقت نفسه عجز هذه المصادرة أنّ المواطنين الأحرار في أزمنة الديمقراطيّة لا يحكمون بالمقاربات الأمنيّة“.

المفارقة الثانية التونسيّة الأخطر التي تُضاف إلى قابليّة الحكّام الديمقراطيين المنتخبينللتحوّل إلى مستبدّين باسم الشرعيّة الديمقراطيّة، قابليّة المؤسسة الأمنيّة المفترض أن تكون جمهورية ومستقلّة وحياديّة إلى أداة طيّعة في أيادي هذه الطبقة السياسيّة الفاقدة للمشروعيّة الشعبيّة. وهو الأمر الذي أكدته تصريحات الناطقين باسم النقابات الأمنيّة الذين أخذوا مكان السياسيين وتصدّروا وسائل الإعلام يروّجون عن وعي منهم أو دون وعي أن الموجات الاحتجاجيّة شأن أمنيّ أساسا وأن المحتجين مجرّد خارجين عن القانون من المشاغبين واللّصوص وقطّاع الطرق ومجرمي الحقّ العام المأجورين الذين تحركهم أيادٍ خفيّةوأطراف غير معلومة كالعادةسياسيّةوجهات خارجيّة ،حاقدة على تجربة الانتقال الديمقراطي الاستثنائيّة التونسيّةفي تماهٍ شبه تامّ مع خطاب الحكومة وحزامها الحزبي وأبواقها الدعائيّة الإعلامية. وكأنّي بهم يستمرؤون اللّدغ من جحر السّلطة مرّة ثانية ويرتضون لمنظوريهم من الأمنيّين الميدانيين المكتوين بنار الغضب الشعبي والمحشورين بين مطرقة التمرد الشعبي ومطرقة فشل الطبقة السياسية الحاكمة، لعب نفس الدور الذي سبق أن حشروا فيه خلال الثورة مع فارق نوعي كبير ومحدّد أنّ هذه المرّة لا يمكنهم تبرير لعب هذا الدور تحت عنوان الخضوع للتعليمات.

مساء الخميس 21 جانفي 2021 استضافت مريم بالقاضي في برنامجها تونس اليومعلى قناة الحوار التونسي مجموعة من الضيوف للنقاش حول الاحتجاجات الشبابيّةالأخيرة. للأمانة، توفّرت في البرنامج أهمّ شروط الحوار المهنيّ والموضوعي المتوازن وتشريك ممثلين عن أغلب القوى السياسية والمدنية المعبّرين عن مختلف وجهات النظر إذ حضر كل من بسّام الطريفي نائب رئيس الرابطة التونسيّة للدفاع عن حقوق الإنسان ورامي الصالحي رئيس مكتب المغرب العربي للشبكة الأورومتوسطية لحقوق الإنسان ممثّلين عن قوى المجتمع المدني ومدافعين عن الشباب المحتجّ ورافضين للمقاربة الأمنيّة وشكري حمادة الناطق الرسمي باسم النقابة الوطنية لقوات الأمن الداخلي ممثلا للأمنيين ومدافعا عن التدخل الأمني والرافض لاتهام الأمنيين بالمبالغة في استعمال العنف والاعتقال التعسفي. وسامي الطريقي القيادي في حركة النهضة والممثل لموقفها المجرِم للتحركات والمدافع عن الخيار الأمني الحكومي.

النقاش في جزئه الأول انقسمت فيه الآراء واختلفت فشاهدنا شبه تطابق في الموقف بين ممثلي المجتمع المدني بمشروعية الاحتجاجات الشبابية بقطع النظر عن توقيتها وبعض ما شابها من تجاوزات مدانة ولكنها لا تمسّ من جوهرها الاحتجاجي وبين موقفي ممثل النقابات الأمنيّة والمعبر عن موقف النهضة والائتلاف الحكومي والقائم على تجريم هذه الاحتجاجات واعتبارها أعمالا إجراميّة تقع تحت طائلة القانون، لكن هذا التطابق في الموقف الأمني الحكومي لم يصمد.

في الجزء الثاني من الحوار حول تصريحات رئيس مجلس شورى والقيادي بحركة النهضة عبد الكريم الهاروني الداعية إلى نزول أبناء النهضة إلى الميدان مع القوات الأمنيٍة لحماية الممتلكات العامة والخاصةفبمجرّد أن ذكّر النقابي الأمن بالفصل الدستوري المتعلق باختصاص القوات الحاملة للسلاح الحصري بالحفاظ على الأمن والتحذير من خطورة هذه الدعوة والتنبيه منها حتّى استشاط الطريقي في وجه النقابي الأمني بمنطق سلطوي ودعاه إلى الاكتفاء بالحديث الأمني وعدم إبداء رأيه في المواقف السياسيّة، لتنقلب المعادلة ولا يجد النقابي الأمني من يدافع عن حقه في التعبير وإبداء الرأي في الشأن العام إلا ممثل الرابطة التونسيّة للدفاع عن حقوق الإنسان الذي كان يختلف معه جذريا في طريقة التعاطي الأمني مع الاحتجاجات.

ما وقع خلال البرنامج من مشادة كلاميّة بين ممثل السلطة الحاكمة وممثل قوى المجتمع المدني وخاصة في التعاطي مع الشأن الأمني يعكس عمق الصراع بين عقليّتين وتصورين للثورة وأهدافها ولأسلوب إدارة الشأن العام ولفهم دور المؤسسة الأمنيّة بين تصوّر سلطوي توظيفي عبّر عنه ممثل حركة النهضة يتمثل في اختزال الثورة في الديمقراطيّة الشكلية وإدارة الشأن العام بالمغالبة التي تتعامل مع المؤسسة الأمنية بمنطق التعليمات المسقطة بوصفها أداة قمع في يد القوى السياسية الحاكمة والطبقة السائدة ولِمَ لا إسنادها بميليشيات حزبيّة نهضاويةلمزيد تحصين مصالح المتنفّذين. وبين تصوّر مدني ديمقراطي مؤسساتي عبّر عنه ممثل الرابطة ومن ورائه القوى التقدمية والديمقراطية الاجتماعية يقوم على مصالحة الثورة مع بُعدها الاجتماعي وعمقها الشعبي وإدارة الشأن العام بمنطق الحوار التشاركي وفهم الظواهر الاجتماعية بما فيها غير المألوفة لا الاكتفاء بإدانتها وشيطنتها والتعامل مع المؤسسة الأمنية بأسلوب النقد الإيجابي في اتجاه استكمالها لإصلاحاتها الداخلية والتحوّل من أمن التعليمات إلى الأمن الجمهوري المهني والمحايد الذي لا يمكن ارتهانه إلى أي جهة سياسية وتوظيفه عصا غليظة في وجه الاحتجاج الشعبي وفي يد السلطة وأحزابها

التصورات التي عكستها المشادة بدت واضحة للجميع وخاصة للأمنيين الذين ساءَتهم محاولة ممثل السلطة النهضاوي إسكات ممثلهم النقابي بذلك الصّلف والتكبّر والغطرسة التي تنمّ عن احتقار وازدراء أكثر مما ساءتهم انتقادات ممثل الرابطة للمقاربة الأمنية وتوريط الأمنيين في مواجهة مع الشباب المحتجّ. لكن تحوّل هذا الفهم إلى وعي بخطورة الدور المشبوه الذي يُراد للأمنيين لعبه يتطلب أيضا انتباه جمهور الأمنيين بمختلف أسلاكهم إلى الأدوار التي تلعبها النقابات الأمنيّة التي تحوّلت بعضها إلى قوى ضغط وأذرع أمنيّة في خدمة مراكز نفوذ اقتصاديّة وماليّة وحزبيّة وخارجيّة أحيانا أكثر منها جبهات مدنية متقدّمة للدفاع عن المصالح الماديّة والمعنويّة لمنظوريها من الأمنيّين وفي مقدمتها تكريس استقلالية وحياديّة ومهنيّة المؤسسة الأمنيّة واستكمال مشروعها الديمقراطي والحضاري بالتحوّل إلى أمن جمهوري منحاز إلى أبناء الشعب لا منتصرا ومدافعا عن مصالح الطبقات المتنفّذة والسائدة. صدّقناكم بقلوب وطنيّة صافية عندما سالت دموعكم وهتفتم أمام البناية الرماديّةالتي تختزل تاريخ الاستبداد أبرياء أبرياء من دماء الشهداءوفتح الشعب وشبابه في الأحياء الشعبية ومدن الدواخل المنسيّة التي تنحدرون منها صفحة جديدة مع المؤسسة الأمنيّة وتجاوزوا عن كلّ ميراث القمع والإذلال والتعذيب وقطع الأرزاق والأعناق.

أيها الأمنيّون الشرفاء، لا يغرّنّكم المديح الكاذب والدفاع المنافق الذي تظهره السلطة وحزامها والأحزاب الحاكمة وأبواقها الدعائية والإعلامية وهم يضعونكم في فمّ المدفع ويحوّلونكم الى باراشوكلتلقي الغضب والإحباط الشعبي حاضنتكم الأولى وحصنكم الوحيد أمام أذرعهم الإجرامية والإرهابية. ولا تدفعوا الشعب إلى أن يتجرّع مرارة الندم ويستعيد حقب الشكّ والخوف منكم وفي مؤسستكم واختزال كلّ مساوئ السلطة وجبروتها فيكم، ولا تُلدغوا من جحر الاستبداد مرّتين.



Skip to content