مقالات

نفق كورونا الطويل

فطين حفصية
صحفي

لم تكن الأيام القائظة الأخيرة عادية في تونس فنحن في قبضة كورونا من الخاصرة الرخوة وهي الحقيقة المُرّة، عداد ضحايا الجائحة منذ الإعلان عن اكتشاف أول حالة في بداية مارس من السنة الفارطة يقترب من سقف 17000 والإصابات تتم نصف مليون شخص و بدت مؤشرات ثلث شهر جويلية حسب أرقام وزارة الصحة الأكثر ترويعا ففي 10 أيام توفي 1323 شخص وأصيب ما يزيد عن 70000ألف بقليل. ودون التوغل كثيرا في دوامة الارقام  والنسب  والجداول الإحصائية دخلت تونس منذ بداية الشهر نادي ” الدول الحمراء ” وبائيا  بعد أن سارت طيلة ما يزيد عن سنة في مساحة صحية آمنة بأقل الخسائر إصابات ووفيات.

هذه الموجة الوبائية غير المسبوقة وانتشار السلالات المتحورة في جل ولايات الجمهورية حولت التفشي من عمودي إلى أفقي ما يجعل الوباء استنادا الى المختصين في  “طريق مفتوح ” إن لم يتم اتخاذ الإجراءات الصحية والتدابير الوقائية المستعجلة والموجعة وهو أمر لا يخص تونس فحسب بل  عدة دول في العالم بعد أن أصبح انتشار الطفرات المتنوعة للفيروس وتجديد مادته الوراثية أقرب للعبة القط والفأر في” الحرب العلمية العالمية” ضده لكن اليقظة الصحية ووقف حلقة العدوى و ووتيرة الخسائر لها شروط وضوابط لم تبلغ في تونس درجة النجاح التام منذ وضع ما سمي وقتها بالخطة الوطنية لمجابهة الجائحة.

لم يغير تصريح المتحدثة باسم وزارة الصحة نصاف بن علية مؤخرا، ثم تكذيب الوزارة لها، بشأن انهيار المنظومة الصحية في تونس الكثير ولم يفسد للود قضية كما يقال بشأن الحقائق العارية السلبية منها والإيجابية ونحصرها كالآتي :

–  دخول المستشفيات والمرافق الصحية العمومية منذ ثلاثة أسابيع نفق الضغط الاستيعابي مع تفشي الإصابات وبدت مشاهد المرضى الملقى بهم أرضا، أو قرب أسوارهذه المستشفيات، تأكيدا أن البنية الصحية العمومية تجابه جائحة فاقت طاقتها. أما القطاع الخاص فيطبق القاعدة الرأسمالية للسوق الصحية وهي ” المال مقابل الدواء “.

 – تحذير أعضاء اللجنة العلمية من حالة إنهاك بدني ونفسي ومعنوي لمن يوجدون في الخط الأول للمواجهة من أطباء وممرضين وإطارات شبه طبية وأعوان صحة في المستشفيات في حال تواصل معدل الإصابات الكبير وهنا تختزل التجارب المقارنة في إيطاليا خصوصا الصورة أكثر حين توضع الطواقم الصحية في مربع استنزافي قاس ووسط هامش زمني قصير.

– الحلقة الأهم في المواجهة والوقاية وتوسيع مناعة القطيع وهي التلقيح تسير إلى الآن بشكل بطيء جدا فالمؤشرات تقول أننا بالكاد وصلنا الى تلقيح عشر السكان بجرعتين في حين مازال الملايين من المنخرطين في حملة طلب التلقيح على لائحة المنتظرين حد رفع التونسيين على شبكات التواصل الاجتماعي لوسوم من قبيل “وينو التلقيح” وأنقذوا تونس.

–  خوض الحرب المفتوحة ضد الوباء يسير بالتوازي بأسلحة صحية وأخرى  مرافقة هي وقائية واجتماعية وهنا نقطة الوهن الرئيسية الأخرى فباستثناء الحجر الصحي الشامل وغلق الحدود الذي فرضته حكومة الياس الفخفاخ في ذروة انتشار الجائحة عالميا  والمرافقة الاجتماعية والاقتصادية البسيطة ظلت بقية القرارات والإجراءات التي توصي بها اللجنة العلمية رهينة القراءة السياسية والحكومية والضغط الاقتصادي والاجتماعي فلا نحن ذهبنا في حلول قاسية ولا اتجهنا نحو إجراءات لينة حد أن معالجتنا حافظت على التطويع البراغماتي في بعض الحالات باتخاذ أنصاف القرارات و الحلول ما ترك  التوصية العلمية في الغالب مبتورة ومشوهة.

–  تشتت القرار والسلطة وعدم الإدارة الموحدة للأزمة خلق ارتباكا وتفرقا وضبابية أصلا  فصادفنا إجراءات على مستوى وطني بقيت حبرا على ورق أو بتطبيق شكلي ورأينا ما يشبه العصيان المدني  لبعضها في وقت كانت فيه الجائحة تسير نحو مداها الأقصى ولم يخف “صراع القصور ” الذي اتخذ الجائحة غطاء لتصفية الحسابات درجة الإخفاق وخسارة الوقت وترنح المعالجة اللازمة.

 – وجود قلق مجتمعي عام  ودائرة شك واسعة في الحاضر والمستقبل بعد أن وصل الأمر إلى ما وصل إليه. وتوسعت دائرة الخسائر البشرية والإصابات وغاب التمشي الناجع وهو تعميم التلقيح على كل الفئات وتبدو الآثار النفسية التي ستتركها الجائحة قيمة مضافة سيدفعها الفرد سواء مسه الفيروس او لم يمسه، في حين شكل الصمت الحكومي والرئاسي بعيدا عن الأنشطة الرسمية والبروتوكولية المعتادة كلما اشتدت ذروة الأزمة نوعا من التخفي وراء الأزمة والتنصل من ضرورات الاتصال و التواصل مع الشعب في محنته الصحية والاجتماعية.

إن الغيمة الوبائية المارة على سوادها لا يمكن ان تغطي بعض المناحي الإيجابية وأبرزها “العسكرة الميدانية” في جهات يصعب الوصول إليها لتلقيح الأفراد والمساهمة في مجهود التطعيم المناعي اذ منح نزول الصحة العسكرية جرعات اوكسيجين جديدة  للخارطة الصحية المرهقة وساعد الطواقم الطبية وشبه الطبية المدنية في حملة التلقيح السلحفاتية ورفع نسقها ولو جزئيا بداية من ولاية تطاوين مع توفر الحد الأدنى من الجرعات  في حين كان مجهود الجيش الوطني في اقامة مستشفيات ميدانية بأقصى سرعة ممكنة الأثر الصحي العميق لأماكن كانت بؤرا موبوءة ومنها القيروان مؤخرا وقبلها قبلي.

ومثلت الجائحة على قساوة محصلتها وثقل كلفتها نقطة تكاتف مجتمعي طوعي منذ بدايتها فبعيدا عن حلبة صراع الديكة السياسي وتنازع السلطات والسباق الحزبي المحموم لتسجيل النقاط كان الفيروس الممتد في الأجسام المعزولة تلقيحيا يجدد الانصهار الوطني والمدني في الداخل والخارج، وجاءت نماذج مضيئة من عديد الجهات مثل المستشفى الميداني الذي تم تركيزه بمجهود مواطني في ضاحية الزهراء أو تجهيز مستشفى القيروان في أوج الذعر الصحي للجهة وإقبال التونسيين في الخارج على توفير مكثفات الاوكسيجين وسيارات الإسعاف المجهزة أما تطوعيا فقد انخرط الآلاف عبر وسائل التواصل الاجتماعي  والجمعيات والفعاليات المدنية في حملات توعية وتثقيف ومساعدة لوجيستية وصحية  في المدن  والقرى والأحياء وتوسيع دائرة المسجلين في التلقيح، أما العامل الخارجي المهم في هذه الموجة الوبائية القاسية فهو العون الصحي الذي قدمته دول شقيقة وصديقة بتوفير جرعات التلقيح أو المستلزمات الطبية والدوائية والتي ستؤثر حتما في ميزان المواجهة.

وإذ سيكون عامل الزمن والجدول الإحصائي اليومي للجائحة محددا لما سيأتي خصوصا خلال الأسابيع القليلة القادمة ولمرحلة اختبار التحصين ضد الفيروس فإن مصادقة مجلس الوزراء على مشروع قانون الطوارئ الصحية ولو بصفة متأخرة جدا يعد أفضل من لا شيء قبل عرضه على البرلمان الذي لن يشكره أحد تقريبا على اللاشيء الذي فعله منذ دخلنا النفق الطويل للجائحة وعلى وفاءه الدائم لإضاعة الفرص.  

Skip to content