ما بعد 25 جويلية، كيف نبني تونس الجديدة؟

آلة الزمن السياسي

فطين حفصية
صحفي

تبدو ديناميكيات الزمن السياسي التونسي في سيرورتها التاريخية متحولة بفعل محلي أكثر منه دولي رغم التأثير والتأثر المنطقيين لتونس في محيطها القريب والبعيد حسب موازين القوى السائدة في كل فترة، وحين يقال إن السياسة في مفهومها  المطلق هي فن الممكن باعتبارها فعلا مميزا ومخصوصا لا يمكن لأي كان ممارسته فإن رجل السياسة أو الحكم يمارس هذه السياسة  في ضوء علاقة الممكن والمستحيل بالظروف المحيطة والوقتية والواقعية وفي ذلك هناك 3 أنواع من السياسة  مهما كان السياسي ومرجعيته الإيديولوجية أو الفكرية أو الحزبية أو التنظيمية  أو بلد المنشأ وهي الآتية التي يمكن قياسها على تونس وما شهدته من رجة سياسية في 25 جويلية وهي سياسة : 

  • فن الممكن في الزمن الممكن 
  • فن المستحيل في الزمن المستحيل  
  • فن الممكن في الزمن المستحيل أو فن المستحيل في الزمن الممكن.

وفي الوضع التونسي يمكن تتبع خط الزمن السياسي ب4 عناوين تاريخية كبيرة صرفت وقتها وظرفها وسياقها ونتائجها الكاملة وهي: مرحلة الاستعمار – الاستقلال وبناء الدولة – نظام الرئيس الراحل زين العابدين بن علي – منظومة ما بعد 17 ديسمبر / 14 جانفي 2011 وصولا إلى التدابير الاستثنائية المعلنة والتي قطعت نظريا الزمن السياسي لمنظومة الحكم القائمة قبل ذلك أو أعلنت في أخف الحالات بداية نهايتها وهو أمر متروك للمستقبل القريب.

 في كل هذه المراحل كانت فواصل سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية أثرت في حركة التاريخ والتغيير والمجتمع التونسي كحال كل المجتمعات ولتتبع ما وصلنا إليه في الزمن السياسي الرابع والمتعلق بما يزيد عن عقد كامل (2011 / 2021) يجب الرجوع إلى 5 أرضيات حكمته للخروج بجملة استنتاجات أعقبته وهي:  

1- الأرضية السياسية التي وقفنا عليها طيلة ما يقرب من 11 عاما 

(هيئات انتقالية + انتخابات تأسيسية + تشريعيتان + رئاسيتان + بلدية دون استكمال الانتخابات الجهوية، كتابة دستور توافقي لكنه ملغم وفق المختصين، مناخ سياسي متوتر ومتعفن، برلمان متعدد لكنه هجين التركيبة).

2- الأرضية الحكومية التي سيرت البلاد (10 حكومات بأشكال مختلفة : انتقالية، وحدة وطنية، كفاءات مستقلة، سياسية) وبرامج حكومية لم تنفذ أو بقيت افتراضية.

3- الأرضية الاقتصادية التي تم بلورة منوالها (إدارة الثروات، توقف الانتاج أو تعطيله كالفوسفاط والنفط، التنمية، الاستثمار، الاقتراض، إنقاذ المؤسسات العمومية، إصلاح الإدارة والقوانين، الحوكمة…. ) 

4- الأرضية الاجتماعية التي حفت بأوضاع البلاد (الاحتقان الاجتماعي المتتابع، خفض البطالة، التشغيل، المفاوضات في القطاعين العام والخاص). 

5- الأرضية الأمنية التي تمت معايشتها في المحيط المحلي والمجاور والدولي : الحرب على الإرهاب، اغتيالان سياسيان، الفوضى الأمنية في ليبيا طيلة سنوات، التحدي الإقليمي والدولي المرتبط بالأوضاع الأمنية والسياسية في المنطقة والعالم.

بعد تشريح كل هذه الأرضيات المرافقة وتأكد الأزمة النسقية في البلاد على جميع الأصعدة يتبين أن ما تم الوصول إليه هو نتيجة حتمية أو هو من صميم اشتغال آلة الزمن السياسي، وبتقاسم أسئلة أساسية حول ما جرى من نقاشات سياسية وبرلمانية وفكرية واجتماعية وثقافية وإعلامية وارتدادات الربيع العربي وسياسة المحاور المنبثقة عنه طيلة هذه المدة فإنه لا يمكن الاختلاف حول عيش تونس مرحلة غروب مسار كامل والتوجه نحو حبك زمن سياسي جديد يتلمس تربته التنظيمية والهيكلية وخصوصا عامل الوقت الذي بات يطرح أسئلة واستفهامات.

الوقت الداهم 

 بعد دخول التدابير الاستثنائية التي أعلن عنها رئيس الجمهورية قيس سعيد شهرها الخامس يمكن تفكيك بعض مميزات هذا الزمن السياسي الجاري الذي استهلك وقتا قصيرا نظريا وطويلا من حيث سقف الانتظارات إذ: 

 لازالت تونس إلى الآن تتأرجح بين قوسين : قوس 25 جويلية من جهة وقوس 24 جويلية من جهة أخرى  والذي يحاول إعادة تنظيم صفوفه المشتتة ويحاول كل طرف التقاط نقاط ضعف خصمه لتسجيل نقاط في مرماه أما الفاعلون الأساسيون في ما يعرف بالإسناد النقدي، وأساسا الاتحاد العام التونسي للشغل، وعدد من المنظمات والمكونات المدنية المترابطة معه فإن إيمانهم بعدم انتهاء الفسحة الزمنية  مازال قائما مع الأخذ بمحاذير عدم إعطاء أي صك على بياض أو امتلاك أحد  للحقيقة، حسب توصيف أمين عام المنظمة، كما تنظر المنظمة الشغيلة قبل الذهاب إلى خيارات أخرى في تكاليف أي توسع لهوة التباين بين رئاسة الجمهورية والاتحاد خصوصا حول مواضيع الحوار الوطني و مكافحة الفساد وإصلاح القضاء وإدارة هذه الفترة الاستثنائية أو خوض معركة بالوكالة عن خصوم سيستفيدون سياسيا في كل الحالات.

إن السياسة التي تنشد التغيير عبر الوضع القائم مع إدراك ماهية الممكن في الوضع أو الزمان أو المناخ العام لم تحصل إلى الآن رغم أن الرئيس قيس سعيد حظي بما لم يحظ به أي سياسي قبله تصويتا (2 مليون فاصل 7 في الانتخابات) و ثقة (94% مباشرة بعد الاعلان عن التدابير الاستثنائية) وحزاما ( تأييد منظمات وأحزاب ومزاج شعبي عام) ورصيدا خارجيا (تقبل دول وازنة القرار مقابل عدم معارضة واضحة لعواصم قرار أخرى أو في أقصى الحالات الضغط لأجل إنهاء هذا المسار بسرعة)، ورغم كل ذلك فإن الرجة السياسية أو الهندسة السياسية لمن بيده مقود الحكم  والقيادة ما تزالت غير واضحة بتاتا أو هي ضبابية لديه قبل أن تكون لدى الآخرين.

الفعاليات الحزبية التقليدية، من حكمت وعارضت، باتت تعيش شيخوخة سياسية بعد أن استنزفت قواها طيلة  10 سنوات من الشحن السياسي المتبادل وغرقت  بعلم أو دون علم في “الثرثرة السياسية” المفتوحة في وسائل الإعلام والمنابر الحوارية وابتعدت بشيء من التنسيب عن طبيعة دورها السياسي المفترض بعد “حالة البهتة” الجماعية التي رافقتها بعد 25 جويلية وظلت ردود فعلها إما مؤيدة أو معارضة أو في منطقة رمادية بينهما.

 لم نجد إلى الآن مجموعات سياسية تتحدث عن سقف وطني مشترك أو تطرح بدائل واضحة ومسطرة باستثناء المناداة بتسقيف زمني محدد وواضح وهو مطلب لا يمكن ان يكون محل خلاف إبان معالجة الفترات الاستثنائية أو الانتقالية بل أن رئيس الجمهورية جدد التزامه للداخل والخارج بإعداده لمنفذ خروج من الحالة الاستثنائية بهدف العودة للوضع المؤسساتي العادي، ولن نر إلى الآن معارضة منظمة بأرضية عمل واضحة وإنما مجموعات تتقاسم النطق الرسمي باسم المواطنين المعارضين لتدابير 25 جويلية.

يمكن شراء الصبر بالوعود أو برامج المسكنات الأولية للصمت الأولي لكن لا يمكن شراء الوقت حين ينتهي مع تصاعد اختناق الزمن الاقتصادي والاجتماعي، ومهما حاولت كل الأطراف الاستفادة من آلة هذا الزمن السياسي السائد (رئيس الجمهورية ومؤيدوه ومعارضوه على حد السواء) فإن نزع الغربة المستقبلية التي يعيشها عدد كبير من التونسيين المنقسمين بدورهم يبدو تحديا جماعيا ملحا لا يمسك خيوطه طرف واحد إذ بات لزاما معرفة إلى أين يمضي المركب بالجميع فلا المؤقت يمكن أن يكون دائما  ولا هذا الدائم يمكن أن يبقى ملتبسا للداخل قبل الخارج.

 لا بد أن ينتهي هذا الزمن السياسي بالوصول إلى ترتيبات دستورية وسياسية (تنقيح الدستور وتغيير النظام الانتخابي) بأكبر ما يمكن من التوافق  الوطني التام قبل المرور إلى  اختبار الآليات الديمقراطية الحاسمة لأي قرارات سياسية مصيرية  أي الاستفتاء.

أخيرا يبدو الحديث عن سلطوية منتظرة سابقا لأوانه إذ لا يمكن لسعيد بالضرورة اقامة نظام استبدادي دون وجود حزب سياسي  معه أو حلفاء موثوقين في ثنايا الدولة العميقة  لكن المتوقع  هو  سير  تونس  تدريجيا نحو اعتاب مرحلة جديدة من التحول الدستوري الجذري الذي سيعيد رسم كل الخارطة السياسية والاقتصادية والاجتماعية المستقبلية لكن بأي ثمن ووقت؟ 

Skip to content