مقالات

أحمد بن صالح …السادة الوزراء 

ahmed ben salah
صور محمد كريم السعدي
فطين حفصية
صحفي

في منتصف  أكتوبر 2012  حين  اقتربت حالة ” التدافع السياسي و الاجتماعي”  من بوابة المحظور، كان المؤسسون الحكماء ( الأحمدان بن صالح والمستيري وثالثهما المرحوم مصطفى الفيلالي) يتابعون بانتباه شديد في  قصر المؤتمرات بالعاصمة كلمات الأشغال الافتتاحية للمؤتمر الوطني للحوار  ولما تساءل رئيس الحكومة آنذاك حمادي الجبالي إلى أين نسير؟ حرك بن صالح الجالس في الصف المقابل للرسميين رأسه يمينا ويسارا بشكل خفيف وكأنه يدقق الإجابة دون كلام. .

  سارع الجبالي إلى المغادرة بعد إنهاء كلمته دون أي تعليق للصحفيين المتراصين لاستجوابه أما  سيد أحمد مثلما  بادله  الوزير الأول الباجي قايد السبسي التحايا السريعة فقد شرع في تقليب سيجاره الكوبي المعتاد تمهيدا لإشعاله ثم الإجابة عن السؤال الصحفي الكابوس: ما العمل؟ 

ذهب رأسا إلى الجوهر دون فسحة تفكير أو تردد  بالتأكيد أنه “ثمة مبالغة في الهزان والنفضان في وقت اللي البلاد في حالة اقتصادية تعيسة ووقت اللي مطلوبين في ديون كبيرة” ثم أنهى بعربية خالصة  “هناك أرضية وطنية جامعة والحذر كل الحذر من تجاوزها” أو أكثر تبسيطا :  للتونسيين حدود مشتركة لا يحق لأي أحد تسلق سياجها.

انتهى الافتتاح الرسمي وتابعت الأحزاب نقاشاتها المتعلقة بورقات المؤتمر التي ستتبلور في إمضاء مشترك لتوصياتها في حين غادر أحمد بن صالح  ورفيقاه آخر حبات عنقود الكفاح الوطني ودولة الاستقلال بعد أن طرحوا رؤيتهم مبتسمين أمام عدسات الكاميرا التي تعرفهم ويعرفونها رغم الابتعاد “التعليماتي” عنها في الزمن السابق.

ahmed ben salah
صور محمد كريم السعدي

لم يكن أحمد بن صالح شخصا واحدا بل مجموعة أشخاص حملوا حقبا وأحداثا ولم يكن قاعدة ثابتة محنطة إنما  استثناء عند كل فعل وتفرد عند القرار  وتجديد في الممارسة يدفع بيمينه وينهي بيساره  له ما له وعليه ما عليه كما يقول خصومه قبل أنصاره.

أما  الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة فقد حل به وقت يضع فيه نفسه في كفة  والصديق العدو صالح بن يوسف في كفة ثانية وإذا استوى الميزان يضيف إليه من ناداه ذات مناسبة توددا  بـ”يا غول” في إشارة إلى أحمد بن صالح،  ولا يخفي بورقيبة أمام مقربيه أن بن صالح “جملة عقول في عقل واحد”  وطاقة عمل وتفكير رهيبة لذلك منحه حقيبة الصحة غداة الاستقلال ثم أطلق يده بداية عقد الستينات على كل الوزارات التقنية الاقتصادية  ليشق البلاد طولا وعرضا ويصبح الرجل الثالث في الحكم.

إن تجربة التعاضد التي التصقت بشخصه  شغلت دنيا العام والخاص وملأ اسمه الناس حيا ومغادرا  ففي جلسة استماع  بالمجلس الوطني التأسيسي طرح عليه نائبان سؤالا خارج النص حول “تجربته المرة والفاشلة في التعاضد” فأجابهما وهو يداعب فروة رأسه “الكل يتداول مفهوم الفشل بناء على معلومات وتراكمات من التشويه والصوت الواحد لكن دون أن يرينا أحد مكامن هذا الفشل تحديدا  أو كيفته  وأرجو أن أجد شخصا يفسر  لماذا لا يحب التعاضد”.
ربما غاب عن جمع من المؤسسين الجدد في جلسة الاستماع تلك أن الوقت الذي أضاعته البلاد في فصل الدستور الأول قد حسمه بن صالح قبل ما يزيد عن نصف قرن بضربة تفكير واحدة حين اقترح بنفسه في بيت الزعيم صالح بن يوسف الصياغة المتعارفة للفصل المثير للجدل “تونس دولة مستقلة دينها الإسلام ولغتها العربية”.

ahmed ben salah
صور محمد كريم السعدي

يخفى على  الكثير أيضا أن الرجل وهو النائب الاول لرئيس المجلس القومي التأسيسي حمل في جيبه نص إعلان الجمهورية في ورقة صغيرة صيغ  فيها نص مقتضب بقي يحتفظ به حتى أثناء نومه إلى حين الإعلان الرسمي المشهود.

ولد أحمد بن صالح نقابيا يحمل إكراهات السياسة وليس سياسيا مناصرا للعمال لأن ذلك من صميم إيمانه  فحمل عهد حشاد على رأس الأمانة العامة للاتحاد العام التونسي للشغل عندما طال إرهاب المستعمر الزعيم الوطني والنقابي وسار لسنتين ( 1954 / 1956) على “الخط الحشادي” قبل الاستنجاد البورقيبي به لمهام بناء دولة الاستقلال  ولم يغادر بن صالح النقابي الاتحاد إلا وقد نقل رفات رفيق دربه واستقر النقابيون في مقرهم الجديد (القديم الآن) قبالة بطحاء محمد علي .

إن الرجل  “تونسي دفعة واحدة” على قول الراحل اولاد حمد… أربعة وتسعون عاما  أمضى الجزء الغالب منها  تونسيا في الكفاح الوطني ثم تونسيا مرافقا للباي الشهيد المنصف باي و تونسيا نائبا مؤسسا فصاحب وزارات بتزكية بورقيبية مطلقة ثم تونسيا سجينا فمعارضا فمنفيا نهاية بتونسي عائد إلى وطنه بداية الألفين… هي تقسيمات زمنية ومكانية لرجل جمع السلطة والسجن والمنفى والحرية بقبضة واحدة دون كلمة واحدة.

يردد عدد من التونسيين القولة المجازية التالية للفاسدين والمفسدين “أنت بالجافال وما تنظافش” لكنهم لا يدركون أن أحمد بن صالح أجاب القاضي الذي يقف أمامه ابان محاكمته بتهمة الخيانة العظمى سنة سبعين  أن”جافال بر تونس الكل ماينظفكش” عندما اتهمه هذا القاضي بالفساد، فذهبت هذه المقولة مدلولا لفظيا يتداوله الناس إلى اليوم بعد أن شاهد مئات الآلاف جلسة هذه المحاكمة الشهيرة التي بثت إذاعيا في ذلك الزمن بأمر شخصي من الزعيم بورقيبة.

بمغادرة أحمد بن صالح تترك تجارب هذا  الرجل الوطني الشعبي لمجهر القراءات الاقتصادية والتاريخية والسياسية والأكاديمية  الهادئة بعيدا عن السرديات “الحنجورية المتوترة” والأحكام الإطلاقية البعيدة عن التنسيب وإن ظل إلى ما قبيل رحيله مؤمنا بما فعله لأجل حلمه ببناء مجتمع اشتراكي تسوده العدالة والحرية والتقدم… هو نسيج وحده مثلما عنون الراحل الذي سبقه بأسابيع الشاذلي القليبي ذات مناسبة  أحد مقالاته حول سيد أحمد وكأن حبوب عنقود “عمداء الدولة” لا يطيقون رحيل بعضهم البعض.

Skip to content