مقالات

أزمة تعصف بالسلطات الثلاث وتهدد الانتقال الديمقراطي في انتظار توافق سياسي لانطلاق الحوار الوطني

خليفة شوشان
صحفي

تؤكد كل التجارب الديمقراطية المقارنة للانتقال الديمقراطي أن نجاح أي تجربة انتقالية متوقف على مدى صلابة سُلَطها الثلاث التنفيذية والتشريعية والقضائية، واحترامها لاستقلاليتها والفصل بينها في إطار ما يقتضيه الدستور.

لقد كشفت الاسابيع القليلة الماضية أن الأمر أكثر تعقيدا في التجربة التونسية أمام تأزم هذه السلطات والتداخل بينها في الصلاحيات ما يجعل أفق المسار الديمقراطي التونسي غير واضح ومفتوح على كل الاحتمالات، يحدث كل هذا في ظلّ أزمات خانقة على جميع المستويات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والصحية والأمنية وتراجع مؤشرات الحقوق والحريات. سنحاول رصد أهمّ الأزمات والمآزق التي تعصف بركائز النظام الديمقراطي التونسي بتتبّع ما يحدث في السلطة التنفيذية والتشريعية والقضائية ونضيف إليها السلطة الرابعة ممثلة في الاعلام التونسي.

الحكومة معطّلة وتنازع في انتظار استواء شروط الحوار الوطني

يتواصل الخلاف بين رأسيْ السلطة التنفيذية رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة يخفي وراءه خلافا أعمق بين رئيس الجمهورية ورئيس مجلس النواب والذي وصل حدّ القطيعة الإنسانية وغياب التواصل إلا في حده «البروتوكولي» الذي لم تنجح الصورة الأخيرة التي جمعتهما خلال زيارة رئيس الجمهورية الى الشقيقة ليبيا في إخفاء حالة البرودة. قطيعة حادة فجّرها الى العلن قرار رئيس الحكومة هشام المشيشي، عن تعديل في تركيبة فريقه الحكومي شملت إحدى عشرة حقيبة وزارية أغلبها لوزراء محسوبين على رئيس الجمهورية، تعديل كان من الممكن أن يمرّ ليباشر الوزراء الجدد مهامّهم فور نيلهم الثقة أمام مجلس نواب الشعب، ولكن رئيس الجمهورية رأى خلاف ذلك ورفض أداء الوزراء اليمين الدستورية أمامه اعتمادا على ما يمنحه الدستور من صلاحيات التأويل في ظلّ غياب المحكمة الدستورية لتتخذ الأزمة السياسية شكلا دستوريا وقانونيا وينقسم حولها أساتذة القانون الدستوري وينتهون في كل هيئاتهم الى أن الحلّ يبقى سياسيا بالحوار والتفاهم بين رأسيْ السلطة التنفيذية وهو الأمر الذي لم يتمّ الى حدود الآن ليضاعف من أزمة السلطة التنفيذية وأزمة البلاد.

ثلاث حكومات أفرزتها انتخابات ما بعد 2019 لم تصمد أمام تشتت المشهد السياسي وصراعات المصالح بين الفاعلين السياسيين لتسقط الحكومة الأولى على أبواب البرلمان بقرار من الحزب الذي كلف رئيسها وسقطت الثانية بدفع رئيسها إلى الاستقالة أمام التهديد بلائحة سحب الثقة من الأغلبية البرلمانية بتهمة تضارب المصالح، أما الحكومة الثالثة التي يقودها السيد المشيشي فلا تزال تنازع الصمود ولكن كل المؤشرات تؤكد أنها لن تصمد طويلا في انتظار اكتمال ترتيبات الحوار الوطني.

البرلمان: الفتيتي يصف الأجواء بالمتعفّنة ويطالب رئيسه بالاستقالة

وبوصلة تحذّر من تحوّله إلى بؤرة للعنف والفوضى وبثّ خطاب الكراهية

ورد في خاتمة تقييم منظمة بوصلة لمجلس نواب الشعب خلال الدورة البرلمانية الأولى جملة من الملاحظات والخلاصات أهمها أنه و«مع انطلاق العهدة النيابية الثانية، لم يرافق تغير التركيبة الجديدة لمجلس نواب الشعب تحسنا حقيقيا في أدائه الذي لم يرتق الى حجم الرهانات التي كانت أمامه». وأنه ورغم تسجيل بعض الخطوات القليلة الايجابية فإنها «لا تمثل دليلا على تحسن مردود مجلس نواب الشعب،

كما يريد التسويق لذلك القائمون على المؤسسة التشريعية بحكم وجود العديد من مواطن الضعف والنقاط السلبية التي ميّزت أشغال الدورة البرلمانية الأولى» ومن بين أهمّ النقاط اللافتة للانتباه «المناخ العام الذي اشتغل فيه المجلس والذي عرف ارتفاعا خطيرا غير مسبوق لمنسوب الاستقطاب والعنف والفوضى خطابا وممارسة» مساهمة «حوكمة المجلس، خاصة من قبل مكتب المجلس ورئيسه، في تأزم المناخ الداخلي للمجلس وصعوبة مواصلة أشغاله» وأن «الهيكل الذي من المفترض أن يكون قدوة في احترام النظام الداخلي ويحرص على تطبيقه من كافة الهياكل أصبح، عكس ذلك، صاحب خروقات نوعية لتحقيق أهداف سياسية وفق منطق أغلبي وبغطاء قانوني» كما أشارت بوصلة إلى «الدور المتنامي الذي لعبه رئيس مجلس النواب راشد الغنوشي في محاولة لتجاوز صلاحياته الدستورية من خلال الاضطلاع بدور سياسي، خاصة في ميدان العلاقات الخارجية، وبإدارة داخلية جعلت منه رئيسا مفرّقا لا مجمّعا إذ لم يكن «رئيس الجميع، في خدمة الجميع»، كما عبّر عن ذلك في الجلسة الافتتاحية»، تميّز «التركيبة الحالية للمشهد البرلماني بالتشتّت وغياب تقسيم واضح للأغلبية والمعارضة وعدم وضوح الرؤى والبرامج السياسية، الأمر الذي خلق حركية سياحية بين الكتل أثّر في علاقة الأغلبية البرلمانية بالحكومة الذي ظهر جليّا منذ البداية في تعدّد التحالفات الظرفية مما أدى، في سابقة، إلى عدم نيل حكومة ثقة البرلمان للانطلاق في ممارسة مهامها».

ورغم ارتفاع عدد المبادرات التشريعية المصادق عليها، فإن أغلبيتها الساحقة كانت ذات طبيعة مالية (قرض أو اتفاقية 164 تمويل) متكونة من فصل وحيد، وهو ما يعكس مواصلة المجلس في عدم امتلاكه لرؤية وأولويات تشريعية واضحة ومحددة وعدم إيلاء مقترحات النواب الأهمية اللازمة.

مواصلة المجلس في مسلسل فشله لإرساء مختلف الهيئات الدستورية، وعلى رأسها المحكمة

الدستورية واتسام التعامل معها بمنطق خاطئ يقوم على اعتبار أن عدم ارساء هذه الأخيرة مرده قانوني وليس المحاصصة الحزبية وغياب الوعي بأهميتها كإحدى الدعائم الضرورية للديمقراطية تمثيليا، كان أداء المجلس ضعيفا سواء داخليا عن طريق آلية أسبوع الجهات أو خارجيا عن طريق البعثات الديبلوماسية التي ما زالت تعاني من نقص الشفافية في شأن المعلومات المتعلقة بها. مع تركيبة برلمانية متشتة وحوْكمة داخلية غير فعّالة، ومع انتشار مناخ الفوضى والعنف والاستقطاب.

هذا لتقييم لمنظمة بوصلة أكده النائب الثاني لرئيس مجلس نواب الشعب الذي وصف الأجواء داخل البرلمان بالـ«متعفّنة»، محمّلا المسؤولية في ذلك إلى الجميع، رئاسة وكتلا ونوابا واعتبر أن لا أحد لديه الحق في ممارسة ما اعتبرها «بلطجة وتعطيل عمل البرلمان»، وتساءل: «كيف لنائب شعب وهو مشرّع أن لا يحترم القوانين ويطالب الشعب باحترامها؟ وفي اشارة إلى تحمل رئيس البرلمان الجزء الأكبر من المسؤولية عن الأجواء التي وصفها بالمتعفنة أكّد أنه «أمضى على لائحة سحب الثقة من الغنّوشي مصرّحا «لو كنت في مكان الغنوشي لقدمت استقالتي وعلى الزملاء في النهضة أن ينصحوه بذلك لسحب البساط من تحت من يبحثون على تعكير الأجواء».

القضاء: جمعية القضاة تدعو وزارة العدل إلى رفع يدها عن القضاء ومجلس القضاء العدلي إلى التصدّي لكلّ الضغوطات

خلال ندوة صحفية عقدتها جمعية القضاة التونسيين بقصر العدالة بباب بنات دعا رئيسها أنس الحمادي «وزارة العدل إلى رفع يدها عن القضاء وعدم التدخل في عمل المجالس والهيئات القضائية المتعهدة بالملفات» معتبرا أن دور الوزارة يتمثل فقط في توفير الظروف المناسبة للنظر في هذه الملفات بعيدا عن الضغوطات لا أن تكون بذاتها عامل ضغط، كما دعا الحمايدي مجلس القضاء العدلي إلى التصدي لكل الضغوطات الممكنة وعدم التغطية على هذه الملفات والتمطيط في آجالها، والحسم فيها بعيدا عن أي منطق للمقايضة بين الملفات (ملف بشير العكرمي مقابل ملف الطيب راشد)، مطالبا قاضي التحقيق بالعمل في كنف الحياد والشفافية «في هذا الملف القضائي الضخم جدا».

كما عبّر عن استغرابه من موقف وزيرة العدل بالنيابة وسعيها إلى استرجاع الإحالات التأديبية للقضاة واعتبره مثيرا للريبة والشكّ ومحاولة لتدخل السلطة التنفيذية في القضاء، وعبّر عن تخوّفه من أن يكون هذا الموقف «خطوة استباقية لإسقاط العقوبات الـتأديبية» عن المتورطين ووصف التدخل بـ«بالخزعبلات التي تقوم بها وزيرة العدل بالنيابة»، وأضاف أن «القضاة الذين يلتحقون بالسلطة التنفيذية يلعبون أقذر الأدوار، ويتمّ توظيفهم في الحكومات بغاية استغلالهم لضرب السلطة القضائية».

وكشف الحمادي أن إقالة وزير العدل السابق محمد بوستة التي جاءت بعد ورود الأبحاث إليه وقراره بإحالة كل القضاة على مجلس التأديب كانت بغاية قطع الطريق على هذه الإحالات، قبل وصولها إلى مجلس القضاء العدلي، واعتبر أن بقية الإقالات الأخرى في الحكومة قد تمّت لتغطية مسألة الإحالات.

ودعا الهياكل القضائية المتعهدة بالإحالات التأديبية المتعلقة بـ13 قاضيا من بينهم بشير العكرمي والطيب راشد، إلى كشف محتوى التقرير الصادر عن التفقدية العامة للقضاة وبيان التّهم المنسوبة للقضاة والحقيقة كاملة عن كل ملفّ وإثبات الإدانة من عدمه والمبرّرات والحجج التي تسند كل قرار. وأبرز أنّه ومن ضمن هذه الملفات قضايا تتعلق بها مبالغ كبيرة من المفروض أن تعود إلى خزينة الدولة، مذكرا بأن الرئيس الأول لمحكمة التعقيب الطيب راشد هو محلّ تتبع في قضية بتهم «تدليس وارتشاء وتبييض أموال تورط فيها أيضا رجال أعمال ومهربون إلى جانب قضاة ولا بدّ من كشف محتوى الملف للرأي العام مع احترام مبدإ سرية الأبحاث وتحميل المسؤوليات».

الإعلام: قنوات متمردة على القانون مسنودة من الأحزاب والحكومة ورئيس «الهايكا» يهيب بالنخب السياسية الدفاع عن مكتسبات الثورة والذود عن المسار الديموقراطي

جاء في توطئة رسالة مفتوحة وجهها مجلس الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي والبصري إلى رئيس الحكومة التونسية السيد هشام المشيشي «اعتبارا للقطيعة التي فرضتموها في تعاملكم مع الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي والبصري،

نجد أنفسنا مضطرين إلى مخاطبتكم من خلال الرأي العام» ما يؤكد وصول العلاقة بين الهيئة والسلطة التنفيذية ممثلة في رئاسة الحكومة إلى القطيعة وانعدام الحوار بالنظر إلى تراكمات كثيرة ناتجة عن تعاطي الحكومة مع العديد من الملفات أهمها وحسب ما جاء في رسالة مجلس الهيئة (ملف إذاعة «شمس أف. أم» المصادرة وتعيين مديرة عامة لها بشكل مفاجئ ودون الرجوع إلى الهيئة، التعتيم في التعاطي مع عملية التفويت فيها للقطاع الخاص وعدم التداول في ملف الإعلام المصادر في إطار الشفافية) وأرجع مجلس الهيئة السبب الرئيسي إلى غياب الإرادة السياسية في إيجاد الحلول العملية لملفات الإعلام العالقة ونتيجة للارتهان إلى المصالح الضيقة وإلى لوبيات المال والسياسة.

ما جاء مكثفا في الرسالة المفتوحة الى رئاسة الحكومة جاء مفصلا على لسان السيد نوري النوري اللجمي رئيس الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي والبصري خلال جلسة حوار بمجلس نواب الشعب والذي قدّم معلومات صادمة حول وجود أربع قنوات غير قانونية متمرّدة ترفض الخضوع للسلطة التعديلية للهيئة ولقراراتها وتعمل دون إجازات وهي ثلاث قنوات تلفزية (نسمة والزيتونة وحنبعل) وقناة إذاعية (إذاعة القرآن الكريم) وقع حجز معداتها الخاصة بالبثّ قبل يومين وتحوّل هذه المنشئات إلى منصات اتصالية لأصحابها أو لأحزاب سياسية بعينها وساهمت بطريقة مباشرة أو غير مباشرة في الترويج لأحزاب سياسية وشخصيات سياسية بعينها في تعارض مع القانون وهو ما مثّل في نظره  علامة سلبية في علاقة بعدم توفر الإرادة السياسية إذ وصل الأمر حدّ توفير الدعم والغطاء السياسي لحالة تجاوز القانون عبر إسناد هذه القنوات من قبل أحزاب سياسية تشكل اليوم الحزام السياسي للحكومة الحالية وهو ما يفسر في نظره غيابا شبه كلي للتفاعل بين الهيئة والحكومة ورفض الحكومة الردّ على مراسلات الهيئة والذي يعتبره أمرا غير مفهوم بالنظر إلى أهمية التنسيق المشترك في اتجاه حلّ الملفات العالقة. وأشار إلى تأكد هذا الدعم السياسي للقنوات المتمردة والتواطؤ الحكومي من خلال تزامن إيداع مقترح القانون عدد 34 لسنة 2020 من قبل كتلة ائتلاف الكرامة بمجلس نواب الشعب يرمي إلى تنقيح بعض فصول المرسوم عدد 116 من خلال إخضاع انتخاب أعضاء مجلس الهيئة لمجلس نواب الشعب والذي اعتبرته الهيئة إخضاعا لتركيبة مجلس الهيئة للمحاصصة الحزبية إضافة إلى إلغاء نظام الإجازة وتعويضه بنظام التصريح بالنشاط الأمر الذي من شأنه أن يدخل الفوضى على مستوى المشهد الإعلامي ويجرد الهيئة من أهمّ أداة تمكنها من تعديل وتنظيم قطاع الاتصال السمعي البصري، مع اتخاذ رئيس الحكومة الحالي هشام المشيشي قرارا مفاجئًا بتاريخ 19 أكتوبر 2020 يقضى بسحب مشروع القانون الأساسي المتعلق بحرية الاتصال السمعي البصري، الذي تمّ إيداعه بتاريخ 9 جويلية 2020 من قبل حكومة  الياس الفخفاخ وهو القرار الذي بررته الحكومة بالرغبة في مراجعته في مدّة وجيزة بما يضمن حرية التعبير والإعلام ودستورية القانون وعدم المساس بمصلحة القطاع. وهو ما لم يتمّ إلى حدود اليوم.

ودعا نوري اللجمي في ختام مداخلته أمام مجلس نواب الشعب النخبة السياسية الواعية بمسؤوليتها أن تقف وقفة جادة للدفاع عن مكتسبات الثورة والذّود عن المسار الديموقراطي الذي أصبح مهدّدا أكثر من أي وقت مضى حتّى يبقى بعض من بصيص الأمل في بناء مجتمع أفضل وتكريس المبادئ التي تضمّنها الدستور.

Skip to content