مقالات

أمنوقراطية تحت الرماد

فطين حفصية
صحفي

لم تكن مشاهد سحل طفل أعزل قاصر وتجريده من ملابسه من قبل عناصر أمنية بضاحية سيدي حسين الواقعة تحت عتبة الفقر الإجباري ثم دوسه بالحذاء النظامي لتثير مشاعر “الصدمة والاشمئزاز والقرف” وكل سلسلة التوصيفات النفسية المؤلمة فقط بل أفاضت مجددا منسوب الثقة بين الأمني والفرد وكسرت جدار الإصلاح ” الحلزوني ” في سرعته لكل القطاعات ومنها الأمن مع البوصلة التائهة عن طريقها منذ انتخابات 2011.

غاب عن القائمين على النسيج  الاتصالي الأمني أو جزء منهم إلى الآن، للضرورة التنسيبيةـ أن الروايات الالتفافية والاستباقية أو التوصيفات المعلبة من قبيل (الحادثة المعزولة والتصرف الفردي وفتح تحقيق داخلي واتخاذ إجراء تأديبي) ونقل القصة بشكل أحادي باتت خارج التاريخ في عصر الدقة الاتصالية وسرعة تدفق الصورة  والمعلومة وعلى هامش الجغرافيا لتكرر التصرفات المشابهة المعلنة منها والمسكوت عنها في عدة أماكن وجهات ولضيق مساحة الجمهورية أمام تحرك الهيئات المدنية والحقوقية وأعينها الرقابية واتخاذ المواطن موقع  الرصد الأول حد ارتباك البلاغات الرسمية لهياكل وزارة الداخلية وتكذيب نفسها بنفسها خلال ساعات قليلة وإدانة ما وقع بصريح العبارة.

 في كل ذلك يدرك الأمنيون قبل غيرهم-  وهم جزء من مواطني هذا البلد –   أن متابعة الدوران في حلقة الاتهام  والاتهام المتبادل والدفاع مقابل الهجوم هو اغتيال نفسي مهني واجتماعي مرة أخرى وإنهاك لصورة مازالت مضطربة أصلا  لجهاز نال  ” عفوا شعبيا عاما ”  لن يدوم استقراره طويلا إثر مجريات ثورة 17/14 التي مست “العتبات الأمنية المقدسة ” وهدت كل أركان الصدمة والترويع الأمنيين فوق رؤوس المسؤولين عليها.

إن الجموع الهادرة يوم 14  جانفي 2011  لم تتجمع اعتباطا منذ الصباح قبالة مقر البناية الرمادية  في شارع الحبيب بورقيبة  لإلقاء التحية الصباحية على من داخلها  أو رفعت الشعارات المعروفة لتمجيدها وشكرها على ” الأمن والأمان”  ولم تذهب أيضا قوافل المحتجين وقتها إلى المراكز الأمنية لرمي الورود حولها بل لحرقها واستباحة وثائقها وكل ما له صلة بالجوانب الأمنية … كل ذلك بعث برسالة واضحة فحواها القضاء على سلطة الخوف وأخطبوط التخويف الممثل في رمزية الأمكنة والمقرات وإيجاد ثغرة في  الحاجز النفسي المتين لجهاز قمع وترهيب رسم في المفهوم الجمعي كـ” حاكم ”  بأمره بعد الحاكم الفعلي.

حينها تلقف الأمنيون الخاضعون بدورهم لتعليمات تضعهم تحت طائلة القانون وأوامر تجعلهم ” رعايا الحاكم ” لا ” مواطني المجتمع ” فحوى هذا المتغير الجذري فتداعوا على عجل إلى مسيرات اعتذار من الشعب جابت انحاء البلاد وطالبوا قبل غيرهم بإصلاح شامل وعميق يحدد واجباتهم ويسطر حقوقهم  المادية والمعنوية  بل أنشأوا في مثال  دولي نادر نقابات مهنية  تدافع عنهم  بعد عقود حولت البوليس إلى رهينة الحاكم السياسي الأوحد  والشعب إلى رهينة في الوطن وهو ما عرف في المفهوم الأكاديمي  والبحثي المستحدث ب ” الدولة الأمنوقراطية ” التي كانت تقترب  عبر جهاز البوليس السري والعلني من عد أنفاس مواطنيها ومشاركتهم سرير النوم فهل نحن بعد  “عروض”  السحل والتعرية والغرق في رادس والوفيات المسترابة  والتعاطي مع التحركات والاحتجاجات الاجتماعية السلمية و” غزوة” حرمة العدالة في محكمة بنعروس  بغطاء نقابي بوليسي أمام خطر  أمنوقراطية جديدة بغطاء ناعم يلبس لباس الديمقراطية  ويحمي بدل الحاكم السابق ” كرتيلات ” من المافيا السياسية والاقتصادية  و أصحاب النفوذ  والمصالح ؟ 

استحدث  الكاتب والمفكر  وعالم الاجتماع السوداني حيدر  ابراهيم علي مفهوم الأمنوقراطية  واشتغل عليه كثيرا  ويرى في ورقة علمية له بعنوان “الاستبداد في الدول العربية ودور الامنوقراطية ” بأن 《حقبة الامنوقراطية تختلف عن الديكتاتوريات التقليدية النمطية في طبيعة دور الجهاز الامني ففي النظم الديكتاتورية العادية يعمل الجهاز كأداة فنية في استمرار الحكم واستقراره، ولكن في الامنوقراطية يعمل الجهاز لحسابه الخاص ايضا، باعتباره ندا وشريكا في السلطة وليس تابعا، ولا يرى نفسه تنفيذيا فقط ، بل جزء من عملية صناعة القرار واتخاذه 》 وهذا ما يحيل في الحالة التونسية إلى الخشية الأولى المبطنة والمعلنة لكل الأحزاب التونسية منذ نهاية 2011  إثر سقوط الدولة الأمنوقراطية من عدم تحييد وزارة الداخلية وتأكيد مكونات أخرى السعي إلى تشكيل جهاز أمني مواز في فترة ما وتداول أخرى محاولات لامتناهية لاختراق القرار الأمني أو على الأقل توجيهه  لصالح أطراف سياسية بعينها.

يمكن إذا للأمنوقراطية أن تشتغل في الديكتاتورية كما في الديمقراطية الوليدة ما سرع في بداية 2011 من قرار إقالة عدد من المسؤولين الأمنيين الكبار وتجميد البعض الآخر أو عزلهم ولسنا هنا في وارد نقاش صحة القرار وقانونيته من عدمه لكن لتبسيط ما يقتضيه تجفيف منابع هذه الأمنوقراطية لأن الجهاز الأمني النافذ ونعني ” الكبار ” لا يمكن ان يتنازل وبسهولة في الأمنوقراطيات عن نفوذه أو مركزه أو قراره ،  كما كانت وزارة الداخلية منذ 2011 وصولا إلى 2020 نقطة الخلاف الجوهرية بين الفرقاء السياسيين وبين رؤوس السلطة التنفيذية في تونس من (الرئيس الراحل السبسي ورئيس الحكومة يوسف الشاهد والرئيس قيس سعيد  ورئيس الحكومة هشام المشيشي والمكلف بالداخلية الآن) حد إقالة  عدد من الوزراء في كل مرة ورفع طلبات سياسية ومدنية  بـ “تحييد مؤبد ” لها ولحقيبتها في كل حكومة وأخيرا التصريحات المتواترة لعدد من  القيادات الأمنية وإلى اليوم بعدم الزج بالمؤسسة الأمنية في مربع السياسة وصراعاتها وجعلها او دفع عناصرها لتكون حطب معركة لا علاقة لها بها بدل انخراط جزء منها في معركة موجعة ضد الإرهاب والتهريب والجريمة.

  لقد دفعت الحالة الثورية في السنوات الاولى التي تلت الرابع عشر من جانفي الى رفع شعار الاصلاح ورسم خارطة طريق للمنظومة الأمنية طرح الجزء الكبير منها وقتها  الوزير المعتمد لدى وزير الداخلية المكلف بالإصلاح الأزهر العكرمي  في جملة عناوين أهمها توحيد التشكيلات الأمنية أو بعث جذع مشترك بينها على الأقل وتحسين عملية الانتداب والتكوين والرسكلة والاتصال والتواصل وإحداث كلية مستقلة لتدريس أعوان الشرطة والحرس و وكالة مستقلة للأمن الخارجي ومجلس أعلى للأمن يضم المسؤولين الامنيين ومكونات من المجتمع المدني للتعاطي مع اي تجاوزات لكن كل ذلك بقي على الورق  إلى اليوم مع يوميات الخلافات السياسية وتشظي السلط وفقدان القوانين التي تتماشى ومنطوق الدستور الجديد وروحه، والكل يذكر اللعب بورقة مشروع قانون زجر الاعتداءات على الأمنيين بصيغه التشريعية المختلفة في قبة البرلمان وصده السياسي والمدني المعارض بشعار قانون زجر الاعتداءات على المواطنين.

اختصر أحد أفضل مراكز الأبحاث في العالم وهو مركز كارنيغي للشرق الأوسط مسألة إصلاح قطاع الأمن في تونس في دراسة له نشرت في العام 2015  بأنه يجب 《 أن يتم من أعلى إلى أسفل ومن أسفل إلى أعلى 》 للتأكيد على جذرية هذه العملية الصعبة والمعقدة لجهاز ظل صندوقا أسودا وما لم يتم ذلك سيكون الأمر أشبه بعملية تجميلية عابرة في الزمن وهو ما تم حين تمت دعوة وسائل الإعلام المحلية والأجنبية خريف العام 2011 لحضور ندوة صحفية عرضت الزي النظامي الجديد لعون الأمن لكسر  الصورة السيئة المنقوشة في ذهن المواطن والحال ان ما يجب أن يرسخ هو عقيدة  أمن جمهوري تأخذ  بالقوة دون عنف واللين دون ضعف.

Skip to content