كيف تتحقق السيادة الوطنية؟

الأستاذ شهيد فري: ينقصنا مشروع وطني جامع

طارق السعيدي
صحفي

في اطار ملفنا حول فرص اعادة البناء ما بعد 25 جويلية اخترنا أن نرى الأمور بعيون عالم الاجتماع ولذلك التقيا بالدكتور شهيد الفري الذي أفادنا مشكورا بهذا الحديث. هو حديث حاولنا من خلاله التقاط نقاط مفاتيح حول إمكانيات عادة البناء واستراتيجيتها ولنقف مليا عند سطوة السلطوي السياسي على مختلف المسارات الأخرى ليخلص ضيفنا إلى وجود إشكال أخلاقي وإلى غياب مشروع وطني جامع لعله يؤطر خلافا لا يمكنه تجاهله بين السلطوي السياسي واحراجات اللحظة التاريخية

هل نحن ، في تونس إزاء البناء أمْ إزاء تأسيس جديد؟

أعتقدُ أنّهُ يجبُ أن نتجاوز هذه الثنائيّة”البناء ” و”التأسيس ” . هما مفهومان يحتاجان المُراجعة لأنّ المنظور الّذي يتنزّلان ضمنه يطرحُ مدى إمكانيّة الاستمرار أو إمكانية القطيعة. يجبُ القول أنّنا إزاء لحظة تاريخيّة حرجة تفرضُ نقدًا موضوعيًّا وتغييرًا راديكاليًّا يخصّ السياسة جوهريًّا، وأخلاق السياسة أوّلًا.

يجبُ إقصاء ذلك الطّرح الذي يرى المخرج من الأزمة في “برنامج”للتّجسيم يُناط بعهدة السياسيّ أو بعهدة النّخب ضمن السّياق الرّاهن وبالآليّات نفسها التي اشتغلت منذ نهاية المرحلة الاستعماريّة، فكلّ تعويل على ذلك سينتج مزيد التّخريب. المجتمع ليس طِينًا يتمّ تشكيلُه ولا هو وعاء تصبّ فيه النّخبُ ما تريده. وسياق التّحوّلات الرّاهنة يجب أن يؤدّي إلى القطع مع تلك الرؤية الّتي تحطّ من الشعوب وتفترضُ كونها على ميوعة تسمح بتوجيهها أو بوضعها في أيّ قالب. الطّرح الدّيمقراطيّ نفسه يجبُ أن ينبني على فلسفة الدّيمقراطيّة و على أخلاقها، وليس على هكذا ممارسات و”تقنيات”. لا معنى للـ”مقرطة” كتوجيه للشعوب أو كـ”ارتقاء” بها، إنّما الدّيمقراطيّة حالة لتحرّر الفاعلين الاجتماعيّين، ليست فعلًا “إيجابيًّا” يوجّه الشعوب بأساليب تعليميّة و لا “عطاء” سياسيًّا كريمًا. إنّما هي أساسًا نسفٌ لتورّم السياسيّ السّلطويّ بخلخلة تموقعه التّاريخيّ. وهذا هو عمق التغيير. والموقف هنا أخلاقيّ. والأزمة الّتي نعيش هي أزمة أخلاقيّة في أساسها وجوهرها.

من الإسفاف حقًّا أنْ أدّعي إمكان تحليل عوامل حرج اللحظة التّاريخيّة. لا أزعم ذلك و لا أدّعيه . لكن يمكن أن أبيّن أثر تورّم السياسي السّلطوي في إنتاجها ،و جُمود ذلك النّمط و استقرار التّفكير ضمنه بما أقصى ممكنات الفعل. ” فالسّياسيّ /السّلطويّ “ظلّ هو المحرّك و المتحكّم في مختلف المسارات تسنده في ذلك نُخبٌ أغلبها إمّا يُفكّر داخل النّمط نفسه أوْ يُسايرُهُ لأهداف براغماتيّة آنيّة. بعد نهاية المرحلة الاستعمارية كان طرح “بناء الدولة الوطنية “بمثابة “نظام إيديولوجي ” يُكرَّس بدعم اجتماعي ومؤسسي فأنتج ذلك تورّم السياسيّ /السّلطويّ ضمن الخطاب و ضمن المُمارسة. ما هو نفوذ وإدارة وبناء استراتيجيّات للتحكّم والتسيير كان يتّخذ مبرّراته السياسيّة ضمن”مشروعيّة بناء الدّولة” وهكذا تألّهت ” الدّولة”فكانت مواقع السلطة كهنةً له، وتكرّست الممارسة الدّكتاتوريّة. وبعد انتفاضة2011، لم يتمّ تفكيك النّمط، وذلك ظلّ متناسبًا مع خصائص الفاعلين التّقليديّين المتمرّسين باللعبة في الحقل السّياسيّ ومع” الدّولة العميقة”أساسًا. تغيّرت الخطابات بعد2011 لكنّ الدّيمقراطيّة تحوّلت إلى “اسطورة” إذْ تمّ الانحراف بالإرادة الشّعبيّة. والسياسيّ /السّلطويّ زاد تورّمًا ، بلْ صار يفعلُ في حماية إلَهٍ جديد هو “الشرعيّة La légalité “بمضمونها المؤسسي القانوني و ببعدها التّقنيّ (الانتخابات…) وليس أكثر من ذلك البعد التّقنيّ. وكانت الدّيمقراطيّة التّمثيليّة إطارًا لذلك الانحراف بفجاجة بيّنة لا تحتاج مزيد الإثبات . ضمن انفصامٍ بيْن الفعل السياسيّ و بيْن إرادة المواطن، اقتصر دور المواطن على “الانتخاب” كتقنية للمشاركة، و على الاحتجاج كآليّة للرّفض فكلّ ما غنمه هو مجال أوسع للتّعبير عن السُّخط ووهْم الحرّيّة. بينما تعالت المواقع السياسيّة عنه، بمعزلٍ عن تقنيّات فعّالة تجعله المؤثّر الحقيقي أو تخوّله المراقبة أو المنع أو التّقييم أو النّقد أو المُحاسبة عبر مؤسّساتٍ تمثّلهُ فعلًا. ثمّ جاء حدث 25جويلية2021، يمكن أن نعتبرّ تفاعل قسم كبير من المواطنين مع هذا الحدث نتيجة وعي بذلك الانحراف السياسي والسُخط عليه. قيس سعيد ليس زعيمًا و لا قائدًا ملهمًا ولا بطلًا مُنقذًا، انتخابه رئيسًا للجمهورية في2019 ثُمّ استبشار فئة واسعة من الشعب بحدث25جويلية 2021 هما موقفان لا يعكسان ولاء شخصيًّا لقيس سعيّد ولا بحثًا عن أبوّة سياسيّة إذ لارمزيّة لديْهِ تؤسّس لذلك الولاء، إنّما هما موقفان يعكسان وعيًا شعبيًّا بخطورة اللحظة التّاريخيّة. فموقف قيس يتناسبُ مع لحظة تاريخيّة تفترضُ تغييرًا جوهريًّا، غير أنّ بوادر ذلك ليست بيّنة موضوعيًّا لراصد الواقع السياسيّ من 25 جويلية إلى الآن . هناك ، من يهرولون إلى “برنامج” قيس سعيّد الانتخابيّ (2019)، وترويج مناصريه لبعض مكوّناته خاصّة منذ 25 جويلية، من ذلك مبدأ الاقتراع المباشر على قاعدة التقسيم الجغرافي .ذلك لن يحدثَ تغييرًا في الممارسة السياسيّة، بل إنّ تورّم “السياسي/السّلطويّ” سيجد مجالًا أوسع له ضمن المحلّي. وأتصوّر أنّ ذلك سيكون كارثيًّا. تفكيك النّمط المهترئ للممارسة السياسيّة لا يكون بإضعاف دور الأحزاب ولا بتتفيه التّحزّب ولا بتوجيه المجتمع المدني نحو أي نموذج، ولن تكفي خلخلة ما استقرّ من مركزيّة السّلطة لصالح المحلّي.

وفي كلّ الأحوال يجبُ ألّا ننتظر تغييرًا إذا انساق المواطن إلى التسليم بوجود “أبوّة سياسيّة ” مُنقذة أو مركز سُلطة يتولّى الإصلاح بمعزل عن إرادة شعبيّة تقطع مع النّمط السياسوي /السلطويّ وبمعزل عن حرّيّة الفاعلين الاجتماعيّين.

حينئذ، أيّ أفق ممكن ؟

بصدق، لا أرى في الرّاهن آفاقًا قريبة. لكنْ، مهما بلغت الأزمة، فلا يمكن نفي آفاق مُمكنة على مدى آخر. لكلّ مجتمع ميكانيزماته –الخفيّة أو الظّاهرة –في الحفاظ على توازنه، كما يرى موريس هالفاكس. فدائمًا توجدُ مُمكنات للفعلِ. والمُعضلة هي وأد ذلك. وليس استقرار النّمط هو القاعدة هناك خصائص اجتماعيّة لخلق ديناميّات للقوّة ولتغيير القوّة (كما هو منظور جورج بالاندييه). إنّما فتح أيّ أفق لا يتمّ ضمن النّمط الرّاهن لما هو “سياسة”بما يشوبها من انحطاطٍ أساسه أخلاقيّ

ما هي الشّروط الّتي تراها أهمّ للتّغيير؟

كما ذكرت لك آنفًا، المشكلُ أخلاقيّ : فساد السياسيّ. ولي أن أستحضر رأي المفكّر المرحوم هشام جعيّط :”ما ينقص النّخبة في بلادنا هو الوطنيّة”.

لا بدّ من الدّيمقراطيّة كحالة اجتماعيّة وليس كتقنيّات فرز للتموقع في السلطة. أن تكون الدّيمقراطيّة حالة اجتماعيّة هو أن يتحرّر الفاعلون الاجتماعيّون وألّا تحدّ من ذلك استراتيجيّات السياسيّ. هذا يفترضُ وجود مشروعيّة واحدة مُطلقة : مشروعيّة المُشاركة.

من منظور أخلاقي يجب ألا يكون هناك معنى لأيّ مشروعية Légitimité سياسية تاريخيّة، ولا مشروعيّة إنجاز، أو مشروعيّة فعل، ولا مشروعيّة نضاليّة، ثوريّة أو غيرها، ولا دينيّة أو هوويّة مهما كانتْ ولا معرفية ولا غيرها لتكريس قوّة سياسيّة تبني استراتيجيّاتها للاستمرار في السلطة على تلك المشروعيّة. من كافح الاستعمار ومن ناضل ضدّ الدّكتاتوريّة ومن خدم تونس وأنجز في أي مجال كان، ومن دافع عن الهويّة (و،و، ..إلخ) ينبغي أن يكون أفقهم الحقيقيّ لرهاناتهم هو الإنسان وليس السّلطة لذاتها بأيّ مشروعيّة كانتْ، حين تكون السّلطة هي الهدف يتفكّك كلّ رأس المال الرّمزي الّذي يبني تلك المشروعيّة، ويتناقض السياسيّ مع نفسه. ستنتج عن ذلك اضطرابات متتالية بالتّأكيد وستبقى الحياة السياسيّة هكذا بركانًا يُلقي حممه. تبقى هناك مشروعيّة واحدة مُطلقة تستجيبُ لإنسانيّة الإنسان هي مشروعيّة المشاركة. إنسانيّة الإنسان كرهان أوحد و مطلق هي التي يفترض أن تكون بوْصلة الفاعل السياسيّ

ما يعوزنا في تونس هو “مشروعٌ وطنيّ” جامع لا يمنعه النّمط السياسيّ المتخلّف المخرّب والهدّام. “مشروعٌ وطنيّ” لا يختلف حوله الفاعلون الاجتماعيّون، أيْ يجبُ أن يبنوه، وهو مُمكنٌ حين تتحرّر الخطاباتُ فعلًا ليتمّ الاتّجاه إلى التّنمية كمسألة جوهريّة وحاسمة بمقتضى الرّهانات وضغوطات الواقع، واستفادة كلّ الفاعلين الاجتماعيّين منها وضمان العدالة الاجتماعيّة وتحقيق تكافؤ للفرص بينهمْ.

فالمشكل الجوهريّ هو واقع التناقضات وسائر التباينات بيْن السياسيّ / السّلطوي في تورّمه المرَضيّ وبيْن إحراجات اللّحظة التّاريخيّة التي تنسجم مع وعي الفاعلين الاجتماعيّين ومواقفهمْ.

الاختلاف الآن صار معطًى جوهريًّا تجبُ عدم المُراهنة على تجاهله أو محاولة الحدّ منه أو المجازفة باستمرار تعالي السياسيّ / السّلطوي عنهُ. إزاء ذلك لا بدّ من الاستجابة للّحظة التّاريخيّة في توظيف الاختلاف كظاهرة إيجابيّة صحّيّة ضمن مشروع وطنيّ جامعٍ دون أن يكون ذلك احتواءً للاختلاف أو انحرافًا به إلى التّطويع نحو التّجانس ،هذا لا يتحقّق إلا بتفكيك السياسيّ/ السّلطوي وإلغاء البعد التّسلطيّ فيه لتحويل السياسيّ إلى حضن للتّنوّع والتّعدّد والفعل.

تحرير الفاعلين الاجتماعيّين شرطٌ لكلّ شيء، ولا يُمكنُ الاتّكاء على المقولات التي طالما روّجت سياسيًّا حول التّنمية. نلاحظ أنه منذ نهاية الفترة الاستعماريّة لم يتبلور في تونس” منوال تنمويّ “واضح، هناك سياسات مترددة ومرتبكة وأحيانًا متناقضة وغير ذات أفق، سادت فيها الخيارات المركزية الفوقيّة الّتي خدمت الدّولة العميقة ورأس المال المحلّي الّذي نجده في غالبه غير وطنيّ.

الرّاهن يفرضُ بناء تصوّرات تقوم على الفعل وعلى مُسلّمة تحرّر الفاعلين الاجتماعيّين مع وُجود مُشترك يفترض أن يبني وحدتهمْ، ولا يمكن أن أتصوّره الآن سوى رهان التّنمية في معناها الشّامل وفي استجابة ذلك المعنى لحقوق الإنسان مهما كان الاختلاف فلا بدّ من حدّ أدنى من الوفاق، لا يُمكن إقصاء تنوع أهداف الفاعلين الاجتماعيّين وتبايناتها، ولا القفز على واقع الصّراعات الإيديولوجيّة، إنّما، يجبُ البناء على مقتضيات الرّاهن وهي،كما بينتُ، تنموية أساسًا ، خاصّة أنّنا نرى ّ المكاسب الوطنيّة – على محدوديّتها النسبيّة- مهدّدة بالانهيار والتّلاشي.  

Skip to content