مقالات

الأطفال ذوي طيف التوحد في تونس: الدولة تجهل عددهم وعائلاتهم تصارع من أجل أن يعيشوا بكرامة

خولة السليتي
صحفية

“أنا لست في حاجة لمن يشفق عليّ وإنما في حاجة لمن يفهمني” بهذه العبارات بادر عادل مروان بالحديث إلينا، هو أب لطفل يعاني من اضطرابات طيف التوحد أجبرته الظروف ووضعية ابنه الخاصة على التخلي عن مهنته كرئيس مدير عام في شركة كبيرة بهدف التفرغ لابنه في ظل غياب مؤسسات تعنى بطفل التوحد المصنف لدى الدولة كحامل لإعاقة ذهنية.

يقول عادل: “إذا كنت وليا لطفل يعاني من اضطرابات طيف التوحد، فتأكّد أن حياتك ستتغير كي لا أقول ستنقلب رأسا على عقب، أولوياتك ستتغيّر حتى أنك قد تظلم بقية أبناءك وتشعر بالذنب لكونك غير عادل تجاههم وغير قادر على اصطحابهم أينما يريدون نظرا لأن أخاهم غير قادر على التأقلم في أي مكان، ما يضطرني أحيانا إلى البقاء مع ابني في المنزل وإرسالهم مع أمهم ليرفّهوا عن أنفسهم”.

لكن رحلة المعاناة لا تنتهي، يضيف محدثنا: ” جهّز نفسك أيضا كوليّ طفل من ذوي التوحد للتأقلم مع عبارات سيّئة من قبيل *ولدك موش متربّي.. ربّي ولدك*، هذا دون الحديث عمّن يواجه بكاء ابنك وحالته الهستيرية الناتجة أحيانا عن اعتراضك على تمكينه من حلويات أو مشروبات غازية ، ويبادر بعرض خدماته وتقديم ما منعته أنت عن ابنك شفقة منه عليه. وهو لا يفهم أن منعك ناتج عن وعيك بأن السكريات مضرّة بالنسبة إلى حالة ابنك، وهنا أؤكد أني كأب لطفل يعاني من اضطرابات طيف التوحد أبقى في حاجة لمن يفهمني ولا لمن يشفق علي”.

إن عادل مروان ليس سوى مثالا لحوالي 200 ألف عائلة يعاني أبناؤها من اضطرابات طيف التوحد في تونس، وذلك وفقا لإحصائيات قدمتها منذ سنة تقريبا وناسة عمري ممثلة إمارة موناكو الممولة لمشروع “من أجل رعاية وإدماج أفضل للأطفال المصابين بالتوحد في تونس”، وهو مشروع يهدف بالأساس إلى إيجاد آليات جديدة ومستحدثة من أجل التعاطي الناجع مع مرض طيف التوحد لتوفير كل شروط الإحاطة للأطفال المصابين به وضمان حقوقهم، ويهدف إلى نشر الوعي بمسألة طيف التوحد.

في المقابل، تغيب الإحصائيات الرسمية عن عدد الأطفال في تونس الذين يعانون من اضطرابات طيف التوحد وذلك بإقرار من الجهات الرسمية نفسها. فقد أعلن وزير التربية التوجه نحو القيام بمسح ميداني لضبط قاعدة بيانات تحدد الأطفال المصابين بطيف التوحد و توزيعهم على مختلف المؤسسات التربوية ، وكان ذلك يوم الأحد 02 أفريل الجاري بمناسبة الاحتفال باليوم العالمي للتوعية بمرض التوحد الذي يتزامن مع الثاني من شهر أفريل من كل سنة.

فقد أعلنت الجمعية العامة للأمم المتحدة في 2007 وبالإجماع يوم 02 أفريل يوما عالميا للتوعية بمرض التوحد (القرار 139/62) بهدف تسليط الضوء على الحاجة إلى تحسين ظروف حياة الذين يعانون من التوحد حتى يتمكنوا من العيش حياة كاملة وذات مغزى، كجزء لا يتجزأ من المجتمع.

تقول م.ع (فضلت عدم الكشف عن هويتها) وهي أم لطفل يعاني من اضطرابات طيف التوحد ويبلغ من العمر 7 سنوات “سئمت من بعض الأشخاص ومن عقليتهم، سئمت من التبرير وتوزيع البسمات الكاذبة عليهم علّي أكسب ودّهم وتفهمّهم لحالة ابني عندما يكون في حالة هستيرية أو يقوم بسلوك مختلف عنهم”..

تصمت محدثتنا للحظات، تقبّل ابنها من جبينه، تطلق تنهيدة من الأعماق وتنظر إلينا بعينين تخفيان معاناة حقيقية ثم تواصل الحديث: “مع مرور الوقت وتكرر المواقف السيّئة أصبحت غير قادرة على التحمل، لقد سئمت نظرتهم الإقصائية والدونية لي ولابني وخيّرت القطيعة مع كل شخص يحقّر من ابني ولا يتعامل معه كونه مختلفا، واليوم وبعد تضحيات لأجل أن يحيي ابني حياة مثل بقية الأطفال أصبحت أبحث عن الكتب والوثائقيات التي تتناول طيف التوحد وأصبحت أحرص على اكتساب الخبرة من الأخصائيين الذين يعالجون ابني علّي أضغط على التكلفة قليلا وأحلّ محلّهم في حصص تقويم النطق مثلا، فكلفة علاج والإحاطة بطفل طيف التوحد مرتفعة”.

“ألف دينار الحد الأدنى للإحاطة بطفل التوحد”

يؤكد العديد من أولياء أطفال اضطرابات طيف التوحد والجمعيات الناشطة في هذا المجال أن أقل تكلفة للعناية بهذه الفئة من الأطفال هي في حدود ألف دينار شهريا وهي قابلة للارتفاع وتختلف من طفل لآخر حسب درجة تطور طيف التوحد لدى الطفل في ظل غياب مؤسسات عمومية تعنى بهم باستثناء مؤسسة يتيمة في منطقة سيدي حسين السيجومي بالعاصمة ” المركب الاجتماعي والتربوي لأطفال التوحد بسيدي حسين” وهو مؤسسة مصنفة كالأول من نوعها في البلاد.

وفي ظل استقالة الدولة وعدم تحملها جزءا هاما من تكلفة العناية بهذه الفئة الهشة من الأطفال وضمان حقها في طفولة سويّة وحياة كريمة تضمن سلامتهم وكرامتهم، قام أولياء مجموعة من الأطفال الذين يعانون من اضطرابات طيف التوحد ببعث جمعية “مسار التوحد” ، لتمثل بذلك غطاء قانونيا لنشاطهم وتمكّنهم من إمضاء اتفاقيات مع مؤسسات للحدّ من كلفة الإحاطة بطفل التوحد من ذلك الاتفاقية الممضاة مع المركب الرياضي بالمنزه السادس التي تمكّن أبناءهم من ممارسة السباحة بأسعار معقولة، حسب ما أفادنا به عادل مروان الذي منحه بقية الأولياء الثقة ليكون رئيس الجمعية. أوضح رئيس جمعية مسار التوحد أن الأنشطة النظرية المقدمة للأطفال في المركز الخاص الذي يتلقون فيه الإحاطة اللازمة، تستوجب جانبا تطبيقيا خارج المركز لمساعدتهم على الاندماج في الحياة اليومية ومخالطة الآخرين.

وبمناسبة اليوم العالمي للتوعية بمرض التوحد لهذه السنة، أعلنت وزيرة المرأة والطفولة آمال بلحاج موسى انخراط الدولة بالتكفل بجزء من مصاريف كلفة طيف التوحد وذلك عبر خلاص معاليم تربيتهم قبل المدرسية ضمن مؤسسات الطفولة المبكرة القانونية والدامجة. وأشارت إلى أن عدد الذين تم قبولهم في رياض الأطفال والمنتفعين بالبرنامج بلغ 295 إلى حد الآن ولا تزال اللجان تنظر في بقية طلبات الإدماج في رياض الأطفال، حسب تصريحها.

وأضافت وزيرة الطفولة أن الدعم سيشمل حوالي 600 طفل السنة القادمة وذلك في إطار برنامج “دمج الأطفال المصابين بطيف التوحد ضمن مؤسسات الطفولة العمومية والخاصة” والذي يسعى إلى تفعيل حق هذه الفئات إلى الالتحاق ببرامج وخدمات الطفولة المبكرة الدامجة بهدف مساعدتهم على تحقيق توازنهم وتعلم طرق التواصل مع محيطهم الاجتماعي.

وبخصوص هذا البرنامج، يتساءل رئيس جمعية “مسار التوحد” عبر “المدنية”: وفق أي معايير أو مقاييس تم اختيار طفل دون آخر؟ هل هناك لجنة مختصة؟ هل وفرت الوزارة أو الدولة للطفل الضمانات الكافية لسلامته واندماجه؟ هل يكتسب الإطار التربوي المهارات وتقنيات التعامل مع طفل التوحد؟ ثم ماذا عن أطفال الأرياف وأنا ابن الشمال الغربي وأعي حقيقة الوضع هناك؟

ويؤكد محدثنا أن هناك عائلات لا تتوفر لديها إمكانيات التنقل إلى العاصمة أو علاج ابنها لعدم القدرة على النفاذ إلى الخدمات اللازمة، قائلا: ” لقد أصبحنا نتحدث عن عدم تكافئ الفرص بين أطفال ذوي اضطرابات طيف التوحد كي لا نتحدث عن تكافئ الفرص مع بقية الأطفال، كما أن المشكل ليس فقط في من لا تتوفر لديه الإمكانيات وإنّما أيضا في من يجهل طيف التوحد بمن في ذلك من بعض المربين”.

إطلاق “دليل المربّي”

وأمام جملة الانتقادات الموجهة للوزرات المعنية وضغط المجتمع المدني المهتم بقضايا أطفال ذوي بطيف التوحد، بادرت وزارة المرأة والأسرة بالشراكة مع وزارات التربية والصحة والشؤون الدينية والشؤون الاجتماعية وكذلك الجمعية التونسية للطب النفسي للأطفال والمراهقة بالتفكير في مشروع “دليل المربي” الذي رأى النور بعد الإعلان رسميا عن وضعه خلال إحياء اليوم العالمي للتوعية بمرض التوحد في مدينة الثقافة بالعاصمة.

وقالت وزيرة الطفولة إن الهدف الأساسي من هذا الدليل هو التعرف على الأعراض الرئيسية لاضطراب طيف التوحد ووصف ترتيبات استقبال ومرافقة الأطفال المعنيين ومساعدة المربي على إدارة الوضعيات الصعبة عند مرافقتهم إضافة إلى تعزيز العمل المتعدد الاختصاصات في رعاية الأطفال ذوي طيف التوحد.

ويعتبر دليل المربي لبنة هامة في مسار الإحاطة بذوي اضطرابات طيف التوحد،

حسب وزير التربية محمد علي البوغديري الذي أعلن تنظيم دورات تكوينية لفائدة مساعدين بيداغوجيين ومتفقدين ومدرسي عدد من التلاميذ المصابين بطيف التوحد من قبل مختصين في المجال وهي استراتيجية ستعتمدها الوزارة خلال السنة الدراسية المقبلة في إطار تكوين المكونين والمدرسين ومرافقتهم.

كما أكد البوغديري أن “هذه الإجراءات على أهميتها لا زالت تعترضها إشكاليات قد تعيق دمج أطفال ذوي التوحد ولعل من أهمها صعوبة فهم خصوصية هؤلاء الأطفال خاصة إذا كانت صادرة عن العائلة أو المؤسسة التربوية”.

من جهته، يعتبر رئيس جمعية “مسار التوحد” عادل المروان أن الدولة هي المسؤول الأول عن التحسيس والتوعية بطيف التوحد داعيا إلى ضرورة بعث شعبة علمية خاصة بطيف التوحد مع أهمية تكوين الأطباء حول كيفية التعامل مع أطفال طيف التوحد. وأشار في هذا الإطار إلى صعوبة أن يكون الطفل الذي يعاني من اضطراب هذا الطيف هادئا أمام طبيب الأسنان.

من جهتها، تقول (م.ع): “لا يمكن توفير العناية أو الإحاطة بأطفال طيف التوحد بمجرد دليل، فلا بد من الاستثمار لفائدة هذه الفئة من الأطفال المهمشة من قبل الدولة فالالتفات لها يكون عادة مناسبتيا، أنا كأمّ في حاجة إلى أن تعتني الدولة يوميا بابني وأن لا تقتصر على يوم عالمي .. فدمج الأطفال في المجتمع والتخلص من وصمة العار التي تلاحق عائلاتهم بسبب نظرة المجتمع يبقى من مسؤولية الدولة بالأساس، ونحن أيضا كـأولياء في حاجة إلى رعاية نفسية، أشعر أحيانا أن حياتي تدمرّت”.

ولكن دائما ما يخرج النور من عتمة الظلام ويولد الأمل من رحم اليأس وتنبثق حياة من واقع المعاناة، فبنبرة صوت تبعث على الأمل وبحماس جالب للأنظار وفرح غير مخفيّ، تقول أم ياسين ( تمسكت بمناداتها بهذا اللقب): “ابني يعاني من اضطرابات طيف التوحد وهو يبلغ اليوم 16 سنة، البداية معه كانت صعبة ولكننا تقبلنا حالته ومن المستحيل أن أذهب إلى مكان ولا أصطحب ابني معي، أنا وابني وعائلتي لسنا بمخطئين أو مذنبين بل نحن عائلة لطفل مختلف عن الآخرين، وكم أنا سعيدة أني أم لطفل مختلف، فعالم التوحد عالم جميل جدّا جدّا ولكن لمن يتقبله.. بفضل ياسين تعيش عائلتنا حياة مختلفة، فنحن نعيش الحياة بطريقة أخرى.. حياة يملؤها النقاء بعيدا عن الأنفس المريضة ومن لا يتقبل أطفال ذوي طيف التوحد أو عائلاتهم فهو المريض الذي يستحق علاجا”. 

Skip to content