مقالات

الأغلبية الصامتة والأقلية المتكلمة

فطين حفصية
صحفي

كلما نقترب من عيش استحقاق انتخابي يطفو إلى السطح مجددا مفهوم الأغلبية الصامتة  ليؤثث القاموس السياسي وتتواتر التصريحات من هنا وهناك حول هذا “الكائن النظري”  من سياسيين ومحللين وناشطين إما كلابسين لباس النطق باسمه أو المتبنين رغبات أو طموحات هؤلاء، حيث تتفق هذه الكتلة البشرية على جملة ثوابت تجمعها  في الحد الأدنى ولو مؤقتا فيما يتعلق بالشأن العام والسياسة والاقتصاد والثقافة والمجتمع وحتى الرياضة.

يختلف المؤرخون حول تاريخية استعمال المصطلح وحصريته السياسية بين عدة أسماء بعد أن ورد في ألياذة هوميروس كمعنى للـ “الأموات”  لوصف القتلى من الجنود في حرب طروادة لكن المتطابق  أنه يعود  إلى الرئيس الأمريكي الراحل ريتشارد نكسون الذي أخرجه من فمه في 3 نوفمبر 1969 حين كانت الولايات المتحدة تخوض في نهاية الستينات حربا خاسرة عسكريا وأخلاقيا ضد فيتنام بغاية إقناع الشعب الأمريكي أن أغلبية صامتة تؤيد التدخل العسكري لبلاده هناك.

وعلى عكس ما كان يسوق كلما عادت مئات جثامين الجنود الأمركيين تبين لاحقا أن هذه الأغلبية الصامتة كانت ترفض بشكل كلي هذه الحرب المكلفة  ثم استعار الرئيس الفرنسي جورج بومبيدو بدوره هذه المفردة في 16 ماي 1970 في خطاب له “دعا فيه الأغلبية الصامتة إلى أن لا تكون صامتة وأن تعبر وتعرف كيف تعبر، ووجوبية سماعها” وذلك في تشريعيات 1968 التي تلت مظاهرات ماي الشهيرة.

هؤلاء المجهولون أو “حزب الكنبة” كما يسمون في مصر  للإشارة أنهم يجلسون فوق أرائكهم لمتابعة الأوضاع : الانتخابات والاحتجاجات والتظاهرات والأزمات الاقتصادية والاجتماعية… تتم محاولات “استدعائهم” إلى المشهد بطرق ناعمة أحيانا ومعسولة أحيانا أخرى ومهددة في بعض الحالات  كلما ضاقت الخيارات أمام الفاعلين السياسيين أو المترشحين أو أصحاب القرار والمعارضين على حد السواء إذ أننا  أمام “خليط محير” لكنه متماسك ويجب زحزته من مكانه  ليكون إما قوة تصويتية أو احتجاجية أو مؤيدة وفي أقصى الحالات غير ضارة لما يريدون بلوغه من أهداف.

في الحالة التونسية ألقى الوزير الأول المستقيل وقتها محمد الغنوشي بالمصطلح حين كان يتلو بيان استقالته يوم 27 فيفري 2011 على وقع اعتصامي القصبة 1 و 2  ومنذ تلك الظرفية ظلت هذه الأغلبية الصامتة بعيدة عن دورها التعديلي وإن عبرت عن مواقفها فقط في عينات سبر الآراء التي تنشر – رغم التحفظ على مضمونها  وطريقتها -، إذ ظلت تتنقل وفق النسب بين 40% إلى  60% إلى أن وصلت إلى 70 % من عدم المهتمين أو المتحفظين على جملة مسارات أو قرارات في آخر استحقاق سياسي مفصلي وهو الاستفتاء  الذي شارك فيه ما يزيد عن 27% فقط من جملة ما يقرب من 9 ملايين ونصف المليون مدعو للتصويت، ومن هذه الهجرة الطوعية إلى شؤون أخرى وهموم مختلفة عن السائد السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي تبدو هذه الفئة قد اختارت “منفى طوعيا” مما يجري بعد أن تدرجت أرقامها صعودا  نحو عدم الاهتمام من انتخابات 2011 وصولا إلى موعد 2019 ثم 2022.

إن الأغلبية الصامتة أو غير المكترثة ليست “كومبارس” بالمعنى التقني الانتخابي والسياسي بقدر ما هي كتلة ضخمة وسلبية وتنقسم إلى 3 وحدات : وحدة بعيدة كل البعد عما يجري واختارت عالمها داخل العوالم،  وثانية مواكبة لما يجري لكنها لا تريد أن تؤثر أو تتأثر، وثالثة تشعر بالإحباط وترفع مقولة لا ضرورة للتدخل، وكل هذه الوحدات من الأغلبية الصامتة تقابلها آليا أقلية متكلمة أو معبرة هي في الآن نفسه فاعلة بتحريكها في كل مرة تحولات الخارطة السياسية والحكومية والاجتماعية إما لقناعاتها أو مصالحها أو لحسن توجيهها والتأثير فيها، والتحدي المحدد هنا هو كيفية تعبئة هذه القوة الخفية أو جذب جزء منها على الأقل خصوصا أن الشعارات والبرامج لم تعد وسيلة إقناع.

الظل الغائب وآوان الظهور 

الواقع الذي نعيشه لا يحجب الغيوم المتلبدة وراء أسئلة هاته الأغلبية الصامتة مقابل الأغلبية المتكلمة التي احتلت المنابر الإعلامية والفضاء العام وأثرت وتؤثر في سير القرار ووهن الديمقراطية الناشئة في البلاد طيلة 10سنوات إلى أن وصلنا إلى ما وصلنا إذ بدا هذا الظل الغائب طيفا يتعايش مع كل المستجدات وإن تغيرت نحو الأسوأ، فحجاب سكوتها لم يغطى توجه نسبة كبيرة من هؤلاء إلى التكلم من “فراغهم”  بلغة أخرى تعتمد أقصر الحلول  وأيسرها حسب تفكير جزء كبير منها للهروب من واقع الحال كركوب مراكب الهجرة غير النظامية نحو الضفة الأخرى من المتوسط أو اختيار أخرى خطا جغرافيا مليئا بالمجهول ينطلق من تركيا نحو صربيا فبقية الفضاء الأوروبي الغربي في حين تعتمد فئة  أخرى على  توسل طرق وأهداف وتسويات تنطلق من بيئتها المجتمعية لمجابهة “ألغام” الحياة فصرنا نعيش تطبيعا مع سلوكات غير قانونية لقضاء الشؤون الخاصة أو توجها نحو العنف المادي واللفظي الملحوظ يوميا كردة فعل آلية عن أمراض العصر أو “تجمهرات قطاعية وجهوية” تحاول افتكاك ما أمكن ولو كان شيئا لا يحمل قيمة كبيرة.

هل يستوي بذلك أن نطلق على الجزء الكبير من هذه الأغلبية الصامتة  “البلد الحقيقي” أو الوجه المعبر عن البلاد والمجتمع حين تفكر ثم تتصرف أم نضعها ونجزؤها وفق قراءة سوسيولوجية انتخابية واقتصادية وثقافية ونفسية حقيقية ثم نقدمها أمام “محكمة العقل” للتشريح والتحليل قبل إصدار الأحكام والمواقف سواء حول اختيارها أو تموقعها حتى يصبح من الممكن ولو جزئيا إدخالها في آلية التأثير وتغيير تمترسها في هذا المعسكر أو ذاك؟ 

الجواب هنا نعم لكن بجملة شروط إذ يمكن لهذا “الحزب الأكبر” أن يكسر التنافر المنطقي بين الديمقراطية – ولو كانت هشة جدا – ومفهوم الأغلبية الصامتة حين يتفق على من يمثله للحديث نيابة عنه وهو أمر متحول وفق التجارب القريبة والبعيدة في حال تمت تجزئة المواضيع  والإشكاليات المتصلة بهؤلاء كالاختيار الجيد لمن يتحدث باسمهم في السياسة أو الاقتصاد أو الثقافة  أو جمعهم في وعاء جمعياتي أو مدني أو مواطني مختلف للتطرق إلى جملة قضايا أو أحداث من جوهر اهتمامهم،  لكن الصحوة من هذا الركود ممكنة بشكل كلي في حال توفر المناخ الذي يجعل منها مؤمنة بأنها فعلا هي الأغلبية التي يجب أن تحدد عديد المسارات والخيارات أو تشعر بأنها قادرة على إعطاء الدروس بدل إعطائها الدروس وذلك هو التحدي العظيم وإن تصحر كل المشهد أو سادت بهتة جماعية هذا الواقع .

Skip to content