مقالات

الأمن المائي وسياسة القطرة قطرة

فطين حفصية
صحفي

فتحت فعاليات مؤتمر الأمم المتحدة للمياه المنعقدة نهاية الشهر الجاري بنيويورك بمشاركة 10000 ممثل عن دول العالم والمنظمات الدولية ومكونات المجتمع المدني “حنفية الفزع” حين نقل الخبراء بإجماع تام بالتزامن مع اليوم العالمي للمياه الذي يصادف 22 من مارس من كل سنة أن العالم الآن في “ورطة كبيرة” في ظل ما تقدمه الأرقام والمؤشرات الإحصائية المنشورة حول المياه وأنه لا بد لأجندة المياه التي ستنبثق عن أشغال المؤتمر الذي يأتي بعد ما يناهز عن نصف قرن من آخر مؤتمر دولي للمياه أن تخرج بقرار مائي يستجيب لخطر اللحظة وتطلعات الأجيال القادمة.

 فربع سكان العالم هم بلا ماء وما يزيد عن 845 مليون نسمة لهم عدم كفاية الحصول على المياه الصالحة للشرب، ودول العالم في أغلبها دخلت مرحلة الشح المائي المرتبط أساسا بالتغيرات المناخية وتزايد النسق السكاني والطلب الاستهلاكي والصناعي والفلاحي وحالة الإجهاد المائي والاستنزاف للبواطن المائية رغم أن سطح كوكب الأرض مغطى بالمياه بنسبة 71 % ما جعل الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش يقول إنه “لا حل سوى الخروج بخطة جريئة تمنح شريان العالم كل الالتزام الذي يستحقه” وهنا ينطلق جهد الدول.

تبدو تونس غير منعزلة في الخارطة المائية الدولية عن حالة الشح المتواترة وتضعها الألوان المرافقة للخارطة التي نشرها المعهد العالمي للموارد عبر وحدة الذكاء الاقتصادي في اللون الأحمر القرمزي بمؤشر مخاطر يزيد عن 80 بالمائة بحلول العام 2040 يشاركها في ذلك بقية الأقطار المغاربية ودول الشرق الأوسط باستثناء مصر والخليج العربي وصولا إلى إيران وتركيا ويمهد هذا المؤشر العالمي عن الوضع المائي في تونس إلى ضرورة سماع ما يقوله خبراء المياه في البلاد عن الحاجة المتسارعة إلى الإعلان الرسمي عن حالة الطوارئ المائية وإطلاق خطة إنقاذ مائية عاجلة.

عند تشريح الوضع المائي تؤكد أرقام العام2019  أن معدل التساقطات السنوي في تونس يتجاوز 280 مم وهو متوسط ينطلق من 1000مم سنويا بمناطق الشمال الغربي لينزل إلى 100مم في المناطق الجنوبية، ومن جملة موارد مائية تناهز ال 5 مليار متر مكعب تستأثر الفلاحة بنسبة 80 بالمائة من المسحوب المائي مقابل 5 بالمائة للصناعة و2 بالمائة للسياحة وأخيرا 13 بالمائة للشرب والاستعمال المنزلي، أما نصيب الفرد من المياه فهو 450 مترا مكعبا بمقاييس فقر مائي أقل من 500 متر مكعب وندرة بأقل من 1000 متر مكعب وهنا تخلص الأرقام أننا في وضعية صعبة حسب عدد من الخبراء لكن بمحاذير كبيرة من مخاطر وجود توجه لسلعنة المياه أو إدخالها مربع الريع الاقتصادي أو رميها في مستنقع التوظيف والصراع السياسيين الجاريين في البلاد منذ أزيد من عقد من الزمن.

أما خبير المياه الدولي وكاتب الدولة السابق للموارد المائية عبد الله الرابحي الذي كان سباقا إلى التحذير من سيناريو مائي كارثي فقد كرر في مداخلات إعلامية له بضرورة الإعلان رسميا عن حالة الجفاف في تونس التي تراوح نسقها التراكمي المستمر منذ ثلاثة أعوام واتخاذ إجراءات استباقية لتدارك الوضع الحالي تتلخص في ثلاث نقاط : تشريعية إجرائية أولها إصلاح مجلة المياه وتحيين القواعد القانونية وحوكمة المياه وثانيها استكمال المشاريع المائية وإجراء الإصلاحات اللازمة والآنية لأي عطب وأخيرا وضع استراتيجية الماء لأفق 2050.

ويؤكد التقرير السنوي القطاعي للمياه الذي يعرض للمرة الثامنة على التوالي أنه وقع منح الأولوية على مستوى التصرف في الموارد لمياه الشرب بالدرجة الأولى والحال أن الحوكمة المائية تستدعي زمن الأزمات تفعيلا شاملا في الأمد المستعجل والقصير  خصوصا أن نسبة إهدار المياه في تونس

 تعد نسبة مفزعة ببلوغها سقف ال40 بالمائة فضلا عن إيجاد الحلول للتحدي الطاقي واللجوء إلى المياه غير التقليدية ومحاولة تعبئتها مثل المياه غير المعالجة وتحلية مياه البحر ومكافحة تلوث المائدة المائية  وهي حلول انخرطت فيها منذ مدة دول مجاورة لنا ودول شرق أوسطية تعاني فقرا مائيا مدقعا يتجاوزنا بكثير.

تجفيف منابع الإهدار

يبدو أن التعويل على “الوعي المواطني المائي” بعيد المنال حقيقة في ظل العقل الاستهلاكي الجمعي رغم مجهودات الدولة في هذا الاطار عبر التواصل الفردي والومضات التوعوية والمعلقات الدورية والظرفية حسب المناسبات ولا يستدعي الاستنتاج كثيرا من الدراسة والتمحيص حين نواكب لبرهة زمنية بسيطة الحركية المائية في المطبخ التونسي لوحده كمنطقة سوداء في هدر الماء غسلا وطبخا وتنظيفا أو على نطاق أضيق قليلا حين نرصد كيفية غسل السيارات أو سكب المياه أمام المحلات في سائر الأيام ففي خلاصة الأمر يذهب السلوك الاستهلاكي التونسي المائي مداه دون إدراك لا للثقل المادي أو المستقبلي وهو ما تفطنت إليه دول تتشابه معنا في المنحى الاستهلاكي الإرادي لسهولة تبذير المياه وهدرها ففي جنوب أفريقيا بالخصوص نجحن تجربة تقويم السلوك الاستهلاكي عبر استخدام نظريات السلوك الاقتصادي التي طورها الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد “ريتشارد ثالر” ومن ثمة تغيير سلوكات المواطنين في استهلاك المياه في البلد الذي يحتل المركز الخامس في قائمة الدول الأكثر تعرضا لخطر الجفاف في العالم.

وتنبني الخطة السلوكية على ما يطلق عليه نظرية الدفعة التي وضعها ثالر في العام 2008 وتنبني على أن الحكومات يمكنها دفع الأفراد نحو اتخاذ قرارات شرائية مناسبة أكثر من طريق محفزات وإشارات غير مباشرة يتخذ في أعقابها هؤلاء الأفراد قراراتهم عبر أصل نابع من دواخلهم ولكن ببعض المساعدة والتوجيه فقط من الدولة وهنا ذروة الإشكال الحاصل في تونس الآن حيث يذهب صاحب القرار المائي إلى اعتماد القطع الظرفي للخدمة المائية في توقيت محدد والحال أن ذلك قد يضاعف من الاستهلاك في حال تأهب الفرد لهذا الانقطاع وعندها تكون الخسارة مضاعفة والهدر أكثر.

يمكن استعارة هذه النظرية التي تعتمد في النهاية على تحفيز أقل الفواتير استهلاك ماديا على المنوال التونسي لكن ببعض الصبر والأناة وكثيرا من التوعية بنظام القطرة قطرة قطرة.

Skip to content