مقالات

 الإعلام زمن كورونا وحرب المعنى 

فطين حفصية
صحفي

بنهاية شهر مارس المنقضي كان ثلاثة مليار من سكان العالم يلازمون منازلهم في عملية حجر صحي وفق المصطلح التقني الطبي أو ما سمي مجازا «احتجاز الضرورة»  للتوقي من حركة فيروس كورونا الذي يحدد بوصلته الجغرافية والجسدية تحرك البشر.

ومع اقتراب شهر أفريل من إتمام أيامه مازالت دول العالم التي تحولت إلى «بؤر سكانية مغلقة ومنغلقة على نفسها» تبحث عبر مخابرها وخبرائها عن حبل النجاة الوقائي بشكل قاطع واستئناف الحياة جزئيا عبر التخطيط للرفع التدريجي للقيود الطارئة.

جمعا ينقل التفصيلان  الزمنيان  المتقاربان  وحدة الهدف ومسلك التعامل، أما تدقيقا  وصفيا للوضع فإن دول العالم تجمع عبر صناع قرارها أنها باتت في حالة حرب مفتوحة مغايرة للتقليدية مع عدو غير تقليدي  تعتمد فيها أساسا على قوة الإعلام الجماهيري لتجعل منه السلم الذي تصعد عبر رسائله للمتلقي جملة قيم تاهت في زحام الفردانية، وعلى رأسها التضامن والتآلف  والوحدة  الإنسانية وانضباط الفرد لمصلحة المجموعة، على الأقل في المستوى القطري لكل دولة أو مجموعة بشرية إذا تمت التجزئة الجغرافية وفي معناها الشامل إذا تحثنا عن الإنسانية الكونية.

في كل ذلك أصبحت الحرية كقيمة وسلوك خارج دائرة النقاش المفتوح على المستوى الإعلامي فكل الحريات قيدت جبرا لا اختيارا (الحريات الشخصية بمفهومها الواسع – حرية التنقل – حرية السكن في حالات الحجر الإجباري- حرية الفضاء العام والخاص…) لتترك المجال للحرب في معناها التعبيري القوي كقيمة جديدة بمقتضى السياق الزمني والمعيشي فلا صوت إعلاميا منذ بداية العام الحالي يعلو فوق صوت المجهود الصحي الحربي العالمي لقتال الفيروس المصنف وفق أغلب وسائل الإعلام بالقاتل.

وعند الحديث عن قيام أي حرب ولو كانت افتراضية لا منطقة رمادية تتوسط سير معاركها فإما قتال أو سلام لكن عبر أي سلاح إعلامي خصوصا أن العدو غير تقليدي؟ 

إعلام الأوبئة مفهوم مستجد في المعجم المهني

إجابة عن ذلك أصبح المختصون في الإعلام والاتصال يتداولون بمرور الزمن الوبائي في العالم مفهوما مستجدا في خندق المعركة وهو إعلام الأوبئة كحال الفيروس المستجد إذ أن حالة التعبئة الإعلامية العالمية العامة لمكافحة الوباء لم يسبق  وجود مثيل لها في الزمن أيضا إلا أثناء أحداث مصيرية  كالحرب العالمية الثانية أو مهمة ككؤوس العالم أو منافسات الألعاب الأولمبية التي تستقطب مليارات المشاهدين في قوس زمني محدد لكن في حالة هذا الفيروس فإن  هذا القوس ترك مفتوحا زمنا وتعبئة .

أما إذا اقتربنا أكثر من تدقيق تفاصيل الإعلام زمن الوباء فسنجد الصدى  النفسي لهذه الحرب الجارية  يتوقف عند مقولة أب مدرسة التحليل النفسي سيغموند فرويد وكأنها تحاكي ما يحدث اليوم إذ يقول «نحن نسعى إلى أن نتجنب الألم أكثر من سعينا لأن نجد السعادة» فالمعركة الإعلامية في بعدها النفسي تشحذ العزائم والاستعداد للتوقي من العدو أولا وأساسا .

وإذا طرحت الحرب وسائلها للتصدي لهذا الفيروس فإن الآلة القيمية لتحقيق الطمأنينة هو ما ترسله وسائل الإعلام إخبارا وتغطية وتوجيها وتفسيرا وتحسيسا وتحليلا واستقصاء للمعلومة ودفعا للمتلقي بهدف فتح ممرات آمنة له تبدأ صحيا بتطويق الفيروس مرورا بانكفائه نهاية بإزالة خطره تماما لكن كل هذا بأي ثمن؟  

الحرب الإعلامية عمود لسيكولوجية الأوبئة 
تجمع كل الدراسات الاجتماعية السابقة والحالية وربما اللاحقة أن الأوبئة تترك آثارا طويلة على الشعوب وعلى عقلها الجمعي وضميرها المتحرك وعلى الإعلام هنا السعي إلى محوها بأسرع وقت ممكن إذ تحدث سيكولوجية الأوبئة وبسرعة تغييرات عميقة على الفرد والجماعة سلوكا وعواطفا وتصرفا وردة فعل وهو ما تتم معاينته منذ ظهور فيروس كورونا ففي حين تنتهي كل الحروب الواضحة على الوباء (الصحية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والنفسية والأمنية)  عند محطة أو سياق واضحين فإن الحرب الإعلامية لا تنتهي بمجرد انتهاء هذه المعارك بل ستظل المساحات الإخبارية أساسا على اختلاف منصاتها المطروحة  تقود الترتيبات الجديدة لما بعد كورونا .

وتؤكد الإحصائيات المنشورة في هذا السياق ومنها ذكرا لا حصرا ما أصدرته هيئة الإذاعة البريطانية أن الأخبار المتعلقة بكورونا تحتل صدارة الاهتمام على المستوى العالمي ما جعل من كل نشراتها مثلا تحتل المرتبة الأولى محليا إذ شاهد  نشرة السادسة مساء التي عرضت يوم 18 مارس الماضي على القناة التلفزيونية الأولى للمؤسسة البريطانية 9 ملايين شخص وهو رقم لم تحققه منذ أعياد الميلاد للعام 2008، أما مجلة تايمز الأمريكية فقد أشارت في دراسة أجرتها مؤخرا أن عدد الصحف التي تناولت خبر انتشار فيروس كورونا تضاعف ب23 مرة مقارنة بفترة انتشار وباء إيبولا في العام 2018.

مؤشران عالميان لا يجانبان أيضا الواجهة المحلية فنشرة أخبار الثامنة مساء بالقناة الوطنية تستأثر بنسب المشاهدة القياسية منذ وصول الفيروس إلى البلاد، إلى حد أن النسب اليومية والحصيلة الشهرية المقدمة أكدت اقتراب كل مؤشرات المشاهدة من النسب المائوية المرتفعة جدا التي عرفتها سنوات 2011/ 2012 أو خلال أبرز المحطات السياسية والأمنية والاقتصادية والرياضية الكبرى عندما تجاوز سقف المشاهدين الثلاثة ملايين ونصف المليون كما تأكد بوضوح أن مؤشر الزمن الإخباري للفرد قد تضاعف بعشرات المرات عبر المواكبات اليومية والحينية ليوميات الفيروس .

وإذا كان الإعلام التقليدي وخصوصا الشاشة الصغيرة قد استعادا مقود الجذب الجماهيري اليومي فإن المنصات الإعلامية المطروحة على الشبكة العنكبوتية والتواصلية عرفت إقبالا اقترب من النسب الفلكية في كل دول العالم.

وينقل القائمون على منصة ناتفليكس الأمريكية أنها اضطرت لتقليل جودة الأفلام والمسلسلات التي تعرضها حتى تضمن توزيعا عادلا لجمهورها الموزع في أركان العالم الخمسة. أما محليا فإن الضغط الكبير على سرعة تدفق الانترنت من قبل المستخدمين لم يعد مرتبطا بساعات الذروة الاستهلاكية فحسب بل بات ما يقرب من سبعة مليون ونصف  تونسي يصلون الساعات الطويلة بزمن الإبحار العنكبوتي لأغراض مختلفة .

إن الاختبار المهم الذي يخوضه العالم الآن يمثل محطة فارقة للشعوب والدول مجتمعة أم مجزئة ومن المؤكد  أن الريح آتية لتهب على النظام العالمي الحالي فالعالم لم يعد كما كان وفق عالم الاجتماع الفرنسي آلان تورين حيث يشعر الجميع بالخوف و يمضي نحو انتقال وحشي لم يخطر على فكر أحد.

وإذا كان عالم الاجتماع تورين الذي يقترب سنا من إقفال قرن من الزمن يرى بأن البشر في أحلك المعارك الجارية ضد كورونا يعيش اللامعنى فإن الإعلام زمن الأوبئة أعاد في أغلبه عند هذه اللحظات الفارقة من تاريخ البشرية صنع جملة معان وقيم تضامنية نزعت عن بعض «بؤره» السعي المحموم  للربح السريع بأي ثمن لأن الصحة هنا على المحك وهي التي لا تقدر بثمن.

Skip to content