مقالات

الإعلام طبيب ثان في خندق مواجهة كورونا

فطين جفصية
صحفي

في السابع والعشرين من ديسمبر 2019 أخبر الطبيب الصيني تشانغ جيك مينان من احد مستشفيات مقاطعة هوبي السلطات الصحية لبلاده انه بصدد التعامل مع مرض مستجد ناجم عن فيروس كوروني جديد. وحين كانت دول العالم تعد الساعات ثم الدقائق فالثواني لتوديع العام تسعة وعشر والفين كان عدد الحالات المؤكدة المصابة بالفيروس في الصين يتم المائتين وسبعين حالة. تسارعت دورة « الفيروس الوافد» عندما بدأ بعبور الحدود والبلدان وعندها بدأت أخباره تتصدر عناوين الصحف ونشرات الأخبار وتوجهات شبكات التواصل الاجتماعي والمنصات الافتراضية وصولا إلى تاريخ الحادي عشر من مارس عندما استكملت منظمة الصحة العالمية تحذيراتها لتصنفه وباء عالميا أو ما يعرف بالجائحة واستنهضت كل الدول والحكومات لبذل كل الجهد لصد انتشاره والحد من خسائره البشرية. لم تكن تونس كبقية دول العالم بعيدة عن «التهديد الصحي الزاحف « ومنذ الإعلان رسميا عن تسجيل أول حالة في الثاني من مارس تواترت سرعة التدابير الوقائية والإجرائية مع الصعود الصاروخي لحصيلة الفيروس إصابة ووفاة وعدوى ومساحة جغرافية في أركان العالم حيث بدا» «السيناريو المرعب» الذي تعيشه الجارة البحرية ايطاليا وبدرجة اقل فرنسا وإسبانيا في الضفة الأخرى للمتوسط دافعا مهما ومنطقيا للمضي في قرارات موجعة اجتماعيا واقتصاديا لخفض انتشاره على الأقل في مرحلة أولى.

تزامنا مع النشرة الصحية اليومية للجنة القارة لمتابعة انتشار فيروس كورونا الجديد بمقر وزارة  الصحة كانت وسائل الإعلام المسموعة والمرئية تعدل ساعاتها الإخبارية والبرامجية على كافة الأخبار المحيطة به أما وسائل الإعلام المكتوبة والاليكترونية فان أعمدتها وبطاقاتها وزواياها وصفحاتها مخصصة في الأغلب للفيروس المتمدد في الجغرافيا والإحصائيات. المتابع للتناول الإعلامي في تونس بمحامله المختلفة لا يفوته أولا التأكيد أن المعالجة في بدايتها كانت إخبارية بحتة أي تقتصر على نشرات الأخبار أو ما تنقله بعض الصحف فقبل إعلان تونس رسميا عن اكتشاف أول حالة بداية الشهر الجاري لم يكن كثير من التونسيين يعرفون شيئا عن الفيروس أو خاصيته أو وسائل التوقي منه أو مخاطره وهو ما تبين بشكل واضح في حالة اللامبالاة واللاهتمام بالمحاذير الوقائية لدى العديد في الفضاء العام ( تجمعات – مقاهي – أسواق – أماكن عمل – حفلات ….) ولم يبدأ الشعور الجماعي بـ»الخطر الكامن» إلا بعد اقتراب الدولة ومؤسساتها «كوصي شرعي على الأمن الصحي القومي» من استنفاذ كل أدوات الإجراءات المتبعة لمحاصرة زحف الفيروس.

عند الإعلان عن الرصد المخبري لحالة ثانية مصابة بالفيروس بادرت التلفزة الوطنية اثر النشرة الرئيسة للأخبار بتقديم أول ملف خاص في وسائل الإعلام المحلية حول كورونا ودعت الفرق الصحية المختصة والمتدخلة والإدارات المختصة المدنية منها والعسكرية ضيوفا لهذا الملف الذي حظي بنسبة متابعة مرتفعة مع بدء الإحساس بالخطر القادم. ورغم قيام المرفق العمومي بومضة تحسيسية وحصة تفسيرية يومية قبلها بقليل فإن «الهبة الجماعية» لمتابعة مستجدات الفيروس في تونس إعلاميا لم تنطلق رسميا إلا مع إعلان رئيس الحكومة متبوعا في الزمن برئيس الجمهورية عن حزمة إجراءات أولى لمكافحة الفيروس الذي بات يتنقل محليا بشكل يومي، وهنا يمكن توصيف الوضع المتدرج في التناول الإعلامي بالانتقال من الأخبار المجرد في مرحلة أولى إلى التحسيس والتوعية والتفسير في مرحلة ثانية نحو «شد الأحزمة والتحذير والدفع نحو الشعور المواطني الفردي» بالمسؤولية في مرحلة ثالثة تماشيا مع القرارات الحكومية والرئاسية المتخذة وفق ما تتيحه الصلاحيات المتاحة لرأسي السلطة التنفيذية. هذه الدرجات الثلاث من المعالجة الإعلامية المحلية كانت تسير بالموازاة مع «ساحة افتراضية منفلتة» ميدانها شبكات التواصل الاجتماعي ظل هذا الأعلام المحلي والإدارات الاتصالية والإعلامية الحكومية تحاول تطويق سلسلة الأخبار الزائفة والإشاعات والمعلومات الخاطئة الواردة فيه حتى أصبح عدد من وسائل الإعلام هذه يكافح على ثلاث جبهات : أولى تتعلق بتقديم المعلومة المحينة والصحيحة عن الفيروس وانتشاره والمجهودات الجارية وثانية بالتحسيس والتفسير والتنبيه والتحليل لما يتصل به وثالثة لدحض هذه الأخبار الكاذبة وصد الإشاعات والمعلومات الخاطئة. يمكن في هذا المجال ذكرا لا حصرا أن نسوق أمثلة تسجيل حالات وفاة بسبب كورونا – اعتبار الثوم علاجا فعالا – درجات الحرارة المرتفعة تمنع انتشار المرض – انتشار الجيش التونسي في البلاد…. ومثل هذه الأخبار الكاذبة والزائفة التي تعرف في المهنة بالفايك نيوز تداولت بعضها بعض المنابر الإعلامية ما جعل خطرها مضاعفا لجمعها الوجود في الإعلام التقليدي فضلا عن الجديد كما أثبتت التحولات اليومية المواكبة للفيروس أن خطر الشائعات يكاد يعادل المجهود اليومي لمكافحة انتشاره. هذا الانفلات ليس سمة تونسية صرفة فمع حالة «الرعب القادم» في ما يزيد عن مائة وثمانين دولة في العالم تحدثت منظمة الصحة العالمية عن معركة أخرى تكاد تعادل المعركة مع الوباء وهي ما أطلقت عليه معركة الأخبار الوبائية أو أكثر الأخطاء العشرة الواردة ( Top 10) ومن أهمها أن عدوى الفيروس تتم عبر الحشرات وان استهلاك القنب الهندي والثوم يمكن أن يكون أداة للشفاء من الفيروس وان المرض لا يقتل إلا كبار السن لان مناعة البقية أقوى وان هذا الفيروس جاء كسباق محموم بين مصانع الأدوية وأخيرا أن فيروس كورونا يأتي في إطار حرب جرثومية عالمية.

ومع «حالة الإسهال» في المعلومات الخاطئة على منصات التواصل الاجتماعي وقبل أن تكون عدد من وسائل الإعلام الرقمية يدا يمنى للفوضى أوصت منظمة الصحة العالمية وبضغط مدني كبير، أوصت إدارة الفايسبوك واليوتيوب والانستغرام، وهي من أكثر المنصات تأثيرا في العالم التواصلي الافتراضي، باتخاذ إجراءات أكثر وضوحا وحزما لمكافحة المعلومات الخاطئة. 

وفي منطقة شمال أفريقيا والشرق الأوسط أعلنت إدارة فايسبوك شراكتها مع منصة «فتبينوا» لتدقيق المحتوى في 19 دولة بينها تونس للتدقيق في صحة الأخبار المضمنة في صور وفيديوهات حول فيروس كورونا حيث تأكد بمجال لا يدعو للشك أن «الحجر الافتراضي» للأخبار الخاطئة والصور والفيديوهات الزائفة جزء من المعركة حيث الأسوأ لم يأت بعد في عدد من الدول.

من الناحية العملية والمهنية في التصريف الإعلامي لتطور الفيروس محليا يمكن القول أننا مررنا بثلاثة أزمنة في وسائل الإعلام بمتلقيها المختلفين : سامعين وقارئين ومشاهدين… يتعلق الأول بالتغطية الأولى للحالة الأولى المصابة بالفيروس وما فتحته من نقاش وتعريف باستعدادات الدولة وتدابيرها للتصدي له وتحسيس المواطن بخطورة الأمر وآليات التوقي والحيطة في الفضاءين العام والخاص، أما الزمن الإعلامي الثاني فيهم موازاة يوميات الفيروس في تونس مع ما تقوم به مؤسسات الدولة من وزارات وإدارات وولايات من مجهود على أرض الواقع. أما الثالث فهو التعريف والتبسيط لحزمة الإجراءات والتدابير الاحترازية الأخرى التي انبثقت عن اجتماع مجلس الأمن القومي وتلاها رئيس الجمهورية في كلمة مباشرة للشعب في حين سنكون أمام زمن إعلامي غير مرغوب بالمرة لكنه وارد على طاولة الإعلاميين ومفتوح للمستقبل وهو كيفية التناول والتغطية الإعلامية مهنيا وأخلاقيا عند تسجيل تواتر في حالات الوفيات أو ارتفاع عدد الضحايا وما يمكن أن يحدثه من إرباك للمواطن والمجموعة خصوصا عندما ترفق الأخبار المحزنة والصور المؤثرة في وسائل الإعلام التقليدية ب» سيل « الإشاعات والمشاعر على حد السواء في الشبكات التواصلية الاجتماعية .

الإعلام الجديد أو البديل حالة إسهال معلوماتي وآليات فرز مطلوبة

هذه الأزمنة الإعلامية وان تختص كل واحدة منها بظرف تطرحه الظروف الموضوعية والأحداث والمكان والنتائج فإنها تكاد تكون واحدة عند الدول التي مسها الوباء مع فوارق تتصل بتنويع الأشكال الصحفية المعروضة أمام المتلقي : أخبار تفسير نقل تحقيقات استقصاء أو التوغل في اختصاص صحفي دقيق يكاد يكون مفقودا في تونس وهو الصحافة الطبية والصحية والعلمية إذ تشير الإحصاءات المنشورة مثلا أن رقم مبيعات المجلات والدوريات الطبية تضاعف بشكل سريع في الولايات المتحدة منذ الكشف عن وصول الفيروس إلى البلاد وشروع الرئيس الأمريكي في اتخاذ تدابير وقائية.

ومع بدء الخط التصاعدي لحصيلة فيروس كورونا في تونس يمكن الاستنتاج أن الدولة والإعلام أصبحا طبيبين كل من موقعه لمكافحته ووقف سريان عدواه في مرحلة أولى وجمعا هدفا واحدا وهو عدم السماح للفيروس بالانتشار مثل حرائق الغابات وكل له سلاح إطفاء: الإعلام بالإخبار والتوعية والتفسير واستنهاض روح المسؤولية واحترام الإجراءات المعلنة والدولة بمؤسساتها لتأكيد تدخلها وردة فعلها والتصدي للعدو المشترك والغابة الأخرى التي يحجبها وأهمها الثمن الاقتصادي والاجتماعي.

Skip to content