ما بعد 25 جويلية، كيف نبني تونس الجديدة؟

الاقتباس من التجارب الديمقراطية التي تتماشى مع خصوصيّة البلاد هو الأسلم للبناء الجديد

أستاذ القانون الدستوري خالد الدبّابي لـ"الجريدة المدنية"

مجدي الورفلي
صحفي

دستور 14 جانفي يعج بالتناقضات والثغرات التي يجب تداركها عبر تنقيحه خلال عملية بناء تونس الجديدة، وخاصة فيما يتعلق بالنظام السياسي الذي حاولوا أ ن يقنعونا بأنه نظام برلماني في حين أنه نظام مجلسي مختلّ لصالح السلطة التشريعية على حساب السلطة التنفيذية، ولكن هذا لا يعني ان تتجه البلاد نحو مُغامرة ما يُعرف بمشروع البناء القاعدي المجهول النتائج، فتونس لن تخترع منظومة ديمقراطية جديدة ولن تبتكر الديمقراطية مرة أخرى وما على الدولة إلا ان تقتبس من التجربة الديمقراطية التي تتماشى مع واقعها الثقافي والإجتماعي والسياسي، هذه أهم خلاصات حوار “الجريدة المدنيّة” مع أستاذ القانون الدستوري خالد الدبّابي.

وفيما يلي نصّ الحوار كاملا:

في تقديركم، كيف يُمكن بناء تونس الجديدة بعد 25 جويلية على المستوى التشريعي ؟

لا يبدو المسار واضحا لأن الامر 117 الذي أصدره رئيس الجمهورية بتاريخ 22 سبتمبر 2021 قد نقل جميع المواد التشريعية الموجودة في الفصل 65 من الدستور إلى رئيس الجمهورية، ليصبح بذلك التشريع حكرا عليه. وما يُقلق في هذه الوضعية هي القوانين الأساسية ونحن نعلم ان القوانين تنقسم إلى قوانين عادية وقوانين أساسية، التي تطبق الدستور مباشرة فيما يخصّ الحقوق والحريات والهيئات والسلط الدستورية. فبنقل الصلاحيات التشريعية أصبح رئيس الجمهورية بمقتضى مراسيم فقط يُمكن له ان تينقح قوانين أساسية متعلقة بالحقوق والحريات والهيئات والسلط الدستورية وهذه ليست فرضية بل شهدنا نية رئيس الجمهورية بإصلاح القضاء وتنقيح القانون المتعلق بالمجلس الاعلى للقضاء وهو ما يخيف فعلا حيث لا يُمكن أن تنفرد سلطة لوحدها بالقوانين المتعلقة بالحقوق والحريات والسلط العمومية.

بغض النظر عن النظام السياسي وتوزيع الصلاحيات بين السلط، هل من الضروري تعديل االدستور الحالي  لتجاوز ما يعتبره البعض تناقضات داخله؟

دستور 14 جانفي في تقديري يعج بالتناقضات وخاصة فيما يتعلق بالنظام السياسي وكذلك في عديد المسائل الأخرى، فالدستور الحالي لم يكن مبنيا على رؤية دستورية واضحة المعالم منذ البداية فالبناء الدستوري يجب أن يكون على قاعدة رؤية واضحة وهو ما كان غائبا على تونس منذ سنة 2011، فالدستور كان نتيجة التوافقات الإرضائية التي قامت بها التيارات السياسية المهيمنة على المجلس الوطني التأسيسي مما جعل البناء الدستوري يفتقد الى الحدّ الادنى من التماسك والترابط والتسلسل وجعل الدستور مليئا بالتناقضات. وهذا ما ادى الى فشل منظومة 2014 لان الدستور الذي أقرته لم يكن يحمل نظام سياسيا ومنظومة سياسية قادرة على العمل واتخاذ القرار بصفة واضحة ومتناغمة لأن الرؤية لم تكن واضحة منذ البداية. كما ان عديد المبادئ الدستورية التي لا تلتقي نجدها في دستور واحد وهو الدستور الحالي لتونس، وهو ما يجعل الحاجة الى تعديل الدستور ملحّة والاكيد ان النظام السياسي هو المسألة الأكثر تعقيدا في الدستور التونسي والاكثر تعبيرا عن التوافقات ويجب إصلاحها في إتجاه التبسيط والتوضيح فالبلاد ليست في حاجة لمؤسسات تعقد الوضع بل مؤسسات ناجعة في مردودها.

أي نظام سياسي أنسب لتونس في تقديركم؟

المتفق عليه أن الأنظمة الديمقراطية قائمة على مبدأ التفريق والتوازن بين السلط، ومنه توجد إمكانيتان تتمثلان في اعتماد نظام رئاسي أو نظام برلماني بكل تفرّعاته وأنماطه المختلفة، بالنسبة للنظام الرئاسي لم تثبت التجارب الانسانية والدستورية نجاح هذا النظام سوى في الولايات المتحدة الامريكية للخصوصية الامريكية ووجود الثنائية الحزبية المستقرّة مما جعل من النظام الرئاسي الأمريكي مستقرّا وفعّالا وقادرا على خلق منظومة تعمل بنجاعة فيما فشلت كل التجارب التي أرادت الإقتباس من النظام الامريكي.

وبالتالي فالنظام البرلماني المُعقلن هو الأمثل، لكن يجب توضيح أن النظام البرلماني لم يكن موجودا في دستور جانفي 2014 الذي ينص على نظام غير متوازن بين السلط عكس ما يجب أن يكون عليه النظام البرلماني، حيث كرّس عدم التوازن لصالح السلطة التشريعية على حساب بقيّة السلطات وخاصة السلطة التنفيذية، فجوهر النظام البرلماني هو إمكانية توجيه لائحة لوم ضدّ الحكومة من طرف الاغلبية في البرلمان وما يُقابله من إمكانية طلب حلّ البرلمان من طرف السلطة التنفيذية المتمثلة في الحكومة ومتى وُجد هذا التوازن بين التقنيتين وُجد النظام البرلماني ومتى اختل هذا التوازن لا يمكن التحدث عن نظام برلماني.

وفي تونس، وفق دستور 14 جانفي لم نكن في ظل نظام برلماني حيث ينص على لائحة اللوم ضد الحكومة. أما الحق في حل البرلمان الذي ينص عليه الفصل 79 فقد أُحيط بشروط غريبة وتعجيزيّة مما يجعل تطبيقه معجزة دستورية وقانونية بداية من التنصيص على مرور 4 أشهر دون التوفق إلى تشكيل حكومة ومن وجهة نظر سياسية لا يمكن تطبيقه فحتى إن كانت الاغلبية البرلمانية غير راضية على الحكومة فستصوت لها تفاديا لسيناريو حل البرلمان كما كان الحال مع حكومة إلياس الفخفاخ وبالتالي فإن الكلمة تعود إلى البرلمان او بالأحرى مصير البرلمان بيد البرلمان من الناحية السياسية والاجرائية دون وجود حق الحل بطريقة موضوعية ويوازن السلطة التنفيذية والسلطة التشريعية سياسيا وهذا مخالف لمبادئ الديمقراطية في النظام البرلماني مما يجعل النظام الذي كنا نعيشه هو نظام مجلسي او نظام برلماني محرف ويقوم على اختلال التوازن لصالح السلطة التشريعية وتحكمها بموازين القوى السياسية والدستورية وبالتالي يجب وضع نظام برلماني حقيقي وليس نظاما مجلسيا كما كان في تونس وحاولوا إقناعنا بأنه نظام برلماني.

أي نظام انتخابي أنسب لتونس؟

أعتقد أن النظام الانتخابي الأنسب لتونس هو النظام المختلط، وهو نظام يمزج بين تقنيات مأخوذة من نظام الاغلبية ونظام التمثيلية النسبية وكان معمولا به في ألمانيا وطبق لفترة وجيزة في إيطاليا في أول التسعينات، وهو نظام ينص على تمكين الفائز الأول من الاغلبية المطلقة للمقاعد في الدائرة الانتخابية فيما يقع توزيع بقية المقاعد وفق مبدأ التمثيلية النسبية على قاعدة اكبر المعدلات أو اكبر المتوسطات.

ومزايا نظام الإقتراع المختلط بالنسبة للحالة التونسية حسب رأيي يتلخّص في تحقيقه للمعادلة المتمثلة أولا في إفراز أغلبية واضحة ومتجانسة وقادرة على الحكم وتحمّل المسؤولية كاملة أمام الشعب والمجلس التشريعي إثر إنتهاء مدة الحكم وهو ما كنا نفتقده في منظومة سنة 2014 التي أفرزها نظام الأغلبية النسبية مع أكبر البقايا مما أدى الى عدم القدرة على إيجاد أغلبية واضحة أو فائز واحد، أما الجزء الثاني من المُعادلة التي يحقّقها النظام المختلط فيتمثّل في الحفاظ على الحدّ الأدنى من التعدديّة ووجود الأحزاب الصغيرة والمتوسطة في المجلس التشريعي مع وجود أغلبية واضحة يُمكن ان تحكم.

هل تعتقدون أن إنهاء دور الأحزاب كفاعل أساسي في العملية السياسية والديمقراطية التمثيلية ككلّ والمرور الى مشروع البناء القاعدي هو الحلّ لبناء تونس الجديدة؟

الديمقراطيّات قائمة على منظومة حزبيّة متينة والأحزاب في جوهر الديمقراطية، والحديث عن البناء القاعدي الذي نجهل تفاصيله خطير في تقديري خاصة أنه سيدفع البلاد نحو المجهول مرة أخرى باعتبار أنه لم يُوجد قبلا ولا نظير له في القانون المُقارن والأنظمة السياسيّة المُقارنة والتجارب الدستورية المقارنة، حيث انه نظام غريب لا تحمله تونس كمُغامرة لا تُعرف نتائجها في ظل الوضع الاقتصادي والمالي والاجتماعي في البلاد.

 تونس في حاجة لوضع أسس حقيقيّة للإصلاح مُتعارف عليها وأثبتت فاعليّتها في التجارب المُقارنة، فتونس لن تخترع منظومة ديمقراطية جديدة ولن تبتكر الديمقراطية مرة أخرى وما على الدولة إلا أن تقتبس التجربة الديمقراطية التي تتماشى مع واقعها الثقافي والإجتماعي والسياسي. 

Skip to content