مقالات

التعيينات الحكوميّة على رأس مؤسسات الاعلام المصادرة والعموميّة ؛ محاولات للتدجين وترضيات من المشيشي لأحزاب التمكين..

خليفة شوشان
صحفي

شكّل القراران المفاجئان لرئيس الحكومة هشام المشيشي تنصيب مديرة عامة جديدة لإذاعة “شمس أف أم” ومدير عام جديد لـ”وكالة تونس إفريقيا للأنباء” (وات) القطرة التي أفاضت كأس الإعلام التونسي الذي يعيش منذ أشهر على وقع معارك متتالية لا تكاد تخمد إحداها حتّى تنفجر أخرى.

صفقة تعديل المرسوم 116 ارضاء للوسادة: 

أولى الأزمات انطلقت عندما اتفقت أحزاب الائتلاف الحاكم النهضة وقلب تونس على تكليف ثالثة الأثافي “ائتلاف الكرامة” بتقديم مبادرة تشريعيّة كتوبر 2020 لتنقيح المرسوم 116 اتفقت كل هياكل المهنة الصحافيّة على أنها تمثّل خرقا فاضحا للدستور بوصفها متعارضة مع روح الدستور والتزامات الدولة التونسية في مجال حماية حرية التعبير والإعلام. وتشرّع للفوضى في قطاع الإعلام وتفتح الباب أمام المال الفاسد والمشبوه لمزيد التغلغل في المشهد السمعي البصري وإفساد الحياة العامة وضرب قواعد التنافس النزيه ومبادئ الشفافية والديمقراطي وقد تزامن تقديم هذه المبادرة مع سحب رئيس الحكومة هشام المشيشي مشروعَ قانون حرية الاتصال السمعي البصري الذي قدمته حكومة الفخفاخ سعيا منه إلى فسح المجال لتمرير التعديل. وأمام وحدة القطاع الصحفي والهبّة غير المسبوقة للصحافيات والصحافيين وكل أبناء القطاع مسنودين من الأحزاب التقدمية والديمقراطيّة والمنظمات الوطنية وقوى المجتمع المدني سقط “مشروع العار” الذي يشرع للفوضى في قطاع الإعلام ويفتح الباب أمام المال السياسي الفاسد والمشبوه ولمزيد التغلغل في المشهد السمعي البصري قبل حتّى أن يعرض على الجلسة العامة. وقبرت الفصول الثلاث التي وضعت على مقاس القنوات الخارجة عن القانون والتي تدور في فلك أحزاب الائتلاف الحاكم النهضة وقلب تونس التي أوعزت لأداتها ائتلاف تقديم الخدمات بعرضها في مبادرته التي أكدت على ثلاثة تعديلات جوهريّة في القانون 116 تتعلق بتركيبة الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي البصري الحالية وتجديدها، حذف صلاحية إسناد الإجازات التي تمنحها الهيئة لإحداث القنوات التلفزية إلى جانب إقرار مبدإ مجرد التصريح بالوجود للوسيلة الإعلامية.

تعيينات مسقطة لترضيات حزبيّة: 

مع بداية شهر مارس عاد الائتلاف الحاكم لشنّ هجوم على الإعلام كان رأس حربته هذه المرّة رئيس الحكومة نفسه إذ عمد إلى القيام بتكليفين على رأس مؤسستين إعلاميتين جُوبها بالرفض من العاملين في المؤسستين، حيث دخل أعوان وصحافيو إذاعة “شمس أف أم” في اعتصام مفتوح بمقر الإذاعة منذ أكثر من شهر رفضا للمديرة العامة الجديدة. كما انتفض أعوان وصحافيو وكالة تونس افريقيا للأنباء في انتفاضة غضب منذ 5 أفريل الجاري رفضا للمدير المنصّب من رئاسة الحكومة،

 قبل أن تتعقّد الأمور أكثر بإقدام المكلّف على اقتحام مقرّ المؤسسة مدعوما بالشّرطة والاعتداء بالعنف المادي والمعنوي على الأعوان والصحافيين المعتصمين بها قبل أن يضطر إلى التسلّل من الباب الخلفي أمام وحدة أبناء المؤسسة وإصرارهم على طرده وهبّة عموم الإعلاميين استنكارا واستهجانا لهذه الفضيحة غير المسبوقة في تاريخ الإعلام الوطني.

“بولسة” الوكالة والتنكيل بابنائها وعار “المنصِّبِ” و”المنَصَّب”

فضيحة “اقتحام التاب” هزّت القطاع الذي قرّرت هياكله الدخول في تحركات احتجاجية موحّدة بقيادة النقابة الوطنية للصحافيين التونسيين والجامعة العامة للإعلام والفروع والنقابات الأساسية لقيت دعما والتفافا من الهيئة العليا المستقلّة للاتصال السمعي البصري (الهايكا)، ومن أكثر من 23 منظمة حقوقية تونسية و6 أحزاب معارضة وأكثر من عشرين شخصية وطنيّة عبرت في بياناتها عن مساندتها المطلقة لأعوان وصحافيي الوكالة ولنضالهم المشروع دفاعا عن استقلالية حيادية مؤسّستهم ورفضا للتعيينات الحزبية المسقطة من رئيس الحكومة إرضاء لحزامه السياسي على حساب استقلالية المرفق العام، وطالبوا الحكومة بمراجعة هذه التّعيينات المسقطة على رأس كلّ من “وكالة تونس إفريقيا للأنباء” وإذاعة “شمس أف أم”، واعتماد معايير الكفاءة والمهنيّة والحياد. وقد تكثّفت هذه المساندة في تنظيم وقفة احتجاجية الخميس 15 أفريل أمام مقر الوكالة حضرها العشرات من أبناء المؤسسة والهياكل المهنية وممثلي المجتمع المدني، حمل الصّحافيون في مختلف وسائل الإعلام الشارة الحمراء تعبيراً عن رفضهم لما يحصل في القطاع الإعلامي.

القطاع الاعلامي ينتفض على سياسة التمكين الإعلامي: 

ردّة الفعل القويّة والموحدة لعموم مهنيي قطاع الإعلام العمومي والخاص بكلّ محامله المكتوبة والمسموعة والمرئيّة باستثناء قلّة من المنتسبين إلى “إعلام الجماعة” وحليفه الموضوعي أبواق مافيا الفساد الذين تخلفوا عن الإجماع الصحفي وآثروا السلامة ومصالحهم الخاصة. والمتمثلة في استنكار ورفض ما حدث من عمليّة اقتحام بائسة بالقوّة البوليسيّة لمقرّ الوكالة، جاء ليؤكد مرّة أخرى أن الإعلام التونسي رغم الهرسلة والضغط والاختراق الذي يتعرّض له على امتداد عشر سنوات من طرف اللوبيات الحزبية والماليّة والحكوميّة رغبة منها في تركيعه، يبقى السلطة الوحيدة القادرة على المقاومة وكشف أعداء الإعلام وحريّة التعبير وفضحهم وإلحاق الهزائم المذلّة بهم في كلّ المعارك، إلى درجة أنّ الطابور الإعلامي الخامس “الرديف لهذه اللوبيات المسيطرة يجد نفسه في كلّ مرّة عاجزا عن مواجهة هذا المدّ الرافض للإخضاع والتوجيه ما اضطرّه إلى مسايرة الموجة مكرها لا بطلا. 

سلطة رابعة صامدة وموحدة وعصية عن الاخضاع:

صلابة الجبهة الإعلاميّة وإثباتها قدرة الإعلام التونسي على الصمود وخوض المعارك موحّدا رغم حجم الضغوط والإكراهات تجعلنا إعلاميين نفتخر بأنّه بإمكانهم إخضاع كلّ السلط تنفيذيّة سواء كانت أم تشريعيّة أم قضائيّة لكن تبقى السلطة الرابعة الإعلاميّة “هبة الثورة” على علّاتها ومشاكلها وأزماتها عصيّة عن الإخضاع بشرفائها وشوكة في حلق كلّ أعداء الصحافة الحرّة والإعلام النزيه. لكن هذه الوثوقيّة التي اكتسبناها من حقائق الميدان لا تمنعنا من الحذر والجاهزيّة التامة لأن الهجمة مستقبلا سوف تكون أعنف تزامنا مع أزمة التموقع السياسي القادمة في ظلّ تواصل الأزمة الهيكلية لمنظومة الحكم وانفتاحها على كلّ الاحتمالات في ظلّ الأزمات المتفاقمة اقتصاديا وماليا واجتماعيا وصحيّا، وبروز مؤشرات جديّة على وجود خطّة ممنهجة من الحكومة وحزامها الحزبي للسيطرة وتأميم الإعلام العمومي خرجت من الأدراج إلى العلن ووضعت على الطاولة بعد إنهاء الترتيبات وما حدث في “شمس اف ام” و “وكالة تونس افريقيا للأنباء” مجرّد مقدمات تجريبيّة لجسّ النبض وامتحان صلابة ردّنا.

العجز الحكومي وسياسة الاحتطاب الاعلامي: 

تصريح رئيس الحكوميّة الأخير المجاني وإشهاره “لن الزمخشرية” بأنه “لن يتراجع عن تسمية كمال بن يونس على رأس الوكالة” ومسارعة قيادات من حليفة حركة النهضة للدفاع عن “التنصيب” و”المنَصَّب” يعكس الدور الوظيفي لرئيس الحكومة وطبيعة الضغط والابتزاز الحزبي الممارس عليه واستعداده لارتكاب كلّ الحماقات وإتيان كلّ الفظاعات للحفاظ على كرسيّ رئاسة الحكومة. كما أن قراره الأخير الالتجاء إلى “مسدي الخدمات الإعلامية” لحكومة مهدي جمعة وخاصة حكومة يوسف الشاهد “مفدي المسدّي” وتعيينه مستشارا إعلاميا له في رئاسة الحكومة لاستثمار علاقاته مع عديد الإعلاميين ونفوذه وسط المؤسسات الإعلامية قد يكون مؤشرا إضافيا إلى محاولة المشيشي وحلفائه استنساخ تجربة يوسف الشاهد في توظيف الإعلام وتوجيهه لخدمة سياساته وتلميع صورته فيمل يمكن تسميته “بسياسة الاحتطاب الحكومي”، في ظلّ الاستعدادات التي تجري على قدم وساق بين السياسيين للدخول في حرب كسر عظام سياسيّة.

الإعلام “الشاهد” و”الشهيد” في تشكيل المشهد السياسي الجديد: 

الامر الذي بات مؤكدا تصدقه كل المؤشرات أن الإعلام التونسي العمومي خاصة والخاص عموما سيكون مستقبلا “الشاهد” و”الشهيد” في الصراعات السياسيّة القادمة المصيريّة التي سوف تكون بمثابة حرب “الكلّ ضدّ الكلّ” بين مؤسسات الدولة رئاسة وحكومة وبرلمانا وبين القوى السياسية الحزبيّة واللّوبيات المتنفذة اقتصاديا وماليا، لذلك فالمطلوب من الإعلاميين الوعي بدقة اللحظة الوطنيّة وعدم اختزالها في بعدها القطاعي على أهميته وأن يدركوا أن الدفاع عن حريّة الإعلام والتعبير وعلى الرسالة الصحافيّة النبيلة جزء من الواجب الوطني دفاعا عن المتبقي من تجربة الانتقال الديمقراطي وتحصينها ضدّ كلّ أشكال الانحراف والتوظيف كما لو كنتم تدافعون عن آخر حصون تونس.

Skip to content