مقالات

الحكومة بين العزلة الاتصالية والمنفى الرقمي

فطين حفصية
صحفي

مضى ما يزيد عن عام منذ تولي حكومة نجلاء بودن مهامها وقيادة أول امرأة هذه الحكومة في التاريخ السياسي لتونس وتنسيق عملها وفق الصلاحيات الجديدة الممنوحة أولا بمراسيم العهدة الاستثنائية وبمقتضى الدستور الجديد، حيث نص الفصل 87 على أن رئيس الجمهورية يمارس السلطة التنفيذية بمساعدة رئيس حكومة في حين حدد الفصل 101 أن رئيس الجمهورية يضبط السياسة العامة للدولة ويحدد اختياراتها الأساسية وأتاح له تعيين رئيس الحكومة وباقي الوزراء.

هذا التمهيد المفاهيمي القانوني ليس للدخول  في “معارك الفصول” بين دستور 2014 و دستور 2022 حول ما كان وما أصبح بالنسبة إلى الحكومة وصلاحياتها لكنه للدفع نحو فهم أو محاولة فهم  “العقل الاتصالي” لهذه الحكومة ومدى استجابتها لأبسط قواعد الاتصال الحكومي مع تغير مفاتيح  المعادلة الاتصالية الأساسية من قصر الحكومة بالقصبة نحو قصر قرطاج واستئثارها بمقتضى كل هذه المتغيرات بالقرار الاتصالي – إن وجد – و البحث ولو بصعوبة عن مايسترو المعلومات في هذا الحقل السياسي والحكومي الذي تكاد تغيب فيه المعلومة ومن ثمة أي أدوات للاتصال الحكومي و التواصل.

كان الجنرال والرئيس الفرنسي شارل ديغول في ذروة الأزمة السياسية لبلاده التي أعقبت انتصاره في الحرب العالمية الثانية وخروج آلاف المتظاهرين ضد حكمه في العام 1968 يكرر أمام الصحفيين “أيها السادة أنا مستعد للإجابة عن أسئلة أجوبتي” ليس حبا في إعادة الإجابات وشغل الرأس بسيل الأسئلة الصحفية بل في إشارة إلى ضرورة قوة الإجابة أمام إجابة القوة والحاجة إلى مخاطبة الجمهور وكل الطبقة السياسية ونقاشهم متى استدعى الأمر ذلك وإن بمغص كبير للوصول إلى الهدف الأساس وهو الإقناع ثم الهدف الأقل حاجة وهو إرضاء “غريزة” حب المعرفة لدى أوسع طيف من الجمهور وتزويده بالمعلومة ولو كانت “مرة”.

في الحالة التي عليها الاتصال الحكومي الحالي ودون الدخول في أي مقارنة مع ما سبق أو أي نماذج أخرى يمكن القول بعد مرور كل هذه المدة وما شهدته البلاد من أحداث سياسية واقتصادية واجتماعية وأمنية كبرى إننا أمام مقولة مجازية ترسخها الحكومة وهي  “أيها السادة نحن غير مستعدين للإجابة عن أسئلتكم أو أجوبتكم” فنحن بالتالي أمام  اتصال حكومي أخرس ورئيسة حكومة صامتة  منذ البداية وهو خيار سواء كان إجباريا أو اختياريا يشكل تعبيرة واضحة عن التخلي عن أهم ممارسة مهمة في الفعل السياسي والحكومي وهو الاتصال والتواصل الذي ما إن يغيب حتى يخلق “منطقة نزاع” مع بقية الفاعلين في الحلقة الاتصالية وهما الفاعل الإعلامي والجمهور أو المتلقي ويؤسس ل”بؤر توتر” في العلاقة بينهما وانحسار منسوب الثقة. 

 إن المساحة الاتصالية الضيقة جدا التي تتحرك فيها رئيسة الحكومة أو وزرائها هي فسحة مؤقتة تفرضها أحداث بعينها أو أنشطة روتينية لا قيمة اتصالية مضافة لها كالتصريحات الإخبارية  المتواترة في تظاهرات عادية أو البيانات الوزارية التي تتخذ شكل البلاغات الجامدة والدورية لإيضاح أمر ما أو الرد عن خبر أو تعليق وهي استراتيجية يمكن “قولبتها”  بمنطق كرة القدم على أنها  اعتماد تكتل دفاعي اتصالي بغاية عدم قبول أهداف في شباك هذه الحكومة وهو الأمر الذي يحدث نقيضه كلما كان الحدث مهما وآخرها الأزمة التي أعقبت سقوط ضحايا الهجرة غير النظامية بجرجيس وأزمة النفايات بعقارب وصفاقس حيث ظلت الحكومة وهياكلها المحلية والجهوية والمركزية تلاحق سباق الأخبار التي نزعت “حجاب” التعتيم أو إخفاء بعض الحقائق وتغييبها فالفاعل السياسي المهيمن في هذه الأحداث وهي الحكومة بقيت تدير الفراغ وتدور حوله  نتيجة حالة اللاتواصل ما شرع كل أبواب الأخبار المضللة والإشاعات أيضا.

إن علاقة الحكومات التي مرت والحكومات التي أتت مع الإعلام والرأي العام والتواصل بينهم ظلت كالساعة الرملية تفرغ ترابها ثم تعود صعودا ونزولا  حيث تبدو نسبة الرضا لامستقرة  وفق الأحداث والأجندات والسياق السياسي والإعلامي ويصل الامر احيانا ان كل طرف يحاول السيطرة على الطرف الاخر أو توجيهه أو تحجيمه ما شكل صراعا ثنائيا في المقام الاول ثم ثلاثيا حين تتجه الرسالة من الحكومة نحو المتقبل عبر الوسيط الاعلامي أو حين يعود رجع صدى هذه الرسالة اما سلبا أو ايجابا لكن في الحالة الراهنة 

يبدو الجسم الصحفي أمام وضع غريب ببابين اتصاليين مغلقين هما الحكومة نفسها والمعلومة في ضوابطها أو النفاذ إليها وكأنه أمام حصار رسمي يجب عليه فكه بكل أدوات المهنة وأصولها وأخلاقياتها لجعل أي طرف منها ينطق عله يظفر بمعلومة أرهقته وأرهقت من ينتظرها وما يزيد الأمر تعقيدا هو اختيار الرئاسة ورئاسة الحكومة آليا ما يمكن وصفه بـ “المنفى الاتصالي الاختياري” في شبكات التواصل الاجتماعي وأساسا الفايسبوك لنشر البلاغات والأنشطة اليومية.

الفايسبوك أصدق أنباء من التواصل 

إن العزلة الاتصالية للحكومة والتي تحاول تعويضها بحضور في شبكات التواصل الاجتماعي لم يحقق أهدافه أولا لالتفات الجمهور العادي والسياسي والحزبي وكل المهتمين بالشأن العام إلى “الأصل” وهو موقع رئاسة الجمهورية في ظل تغير موازين الحكم فبعد أن كنا أمام “أرخبيلات اتصالية منفصلة” تجمع رئاسة البرلمان من جهة ورئاسة الحكومة من جهة أخرى ثم رئاسة الجمهورية من ناحية ثالثة بتنا أمام منبع اتصالي رئيسي في شبكات التواصل الاجتماعي وهو ما يرد في صفحة رئاسة الجمهورية مقابل ينبوع ثانوي هو المتعلق بصفحة رئاسة الحكومة التي هي عبارة عن ملحق لصفحة رئاسة الجمهورية، أما الأمر الثاني العجيب فهو أن هذا السلاح الاتصالي الحكومي على ضعف فعاليته وقصور مداه لم يستطع الصمود أمام المد الاتصالي نفسه في شبكات التواصل الاجتماعي وسرعة انسيابية المعلومة خصوصا في الأحداث الكبرى أو المفصلية ولنا دوما في مثالي عقارب وجرجيس أبرز مثال على عدم صمود الصمت أو مجرد نشر البلاغات الجافة أمام أمواج المعلومة الموازية وتعدد قنواتها.

لقد كان منشور رئيسة الحكومة المتعلق بقواعد الاتصال الحكومي وضوابط الظهور الإعلامي والجنوح وقتها إلى “الظهور الفايسبوكي” ومع ما لاقاه من صد من هياكل المهنة والصحفيين  نوعا من تأسيس تمثلات اتصالية غير مسبوقة منذ عشر سنوات وإن ساد سابقا تسونامي اتصالي سبب فوضى معلومات وتخبطا في الفهم والإعلام لكنه على أية حال يعنبر مضمونا اتصاليا بجناح واحد لا يكتمل طيران معلوماته إلا بجناح ثان يكمله وهو الخروج من الافتراضي إلى ميدان الواقع ودون ذلك لن يقبل الجمهور هذه الرسائل غير المباشرة ولو كانت بأفضل حروف الاتصال وأشمل جمل الخطابة والبلاغة والتأثير.

Skip to content