مقالات

الرؤوس الثلاثة والرئاسات المتعددة

لمياء بوزيان
صحفية

مرّت حكومة المشيشي دون جواز سفر سياسيّ ودون تأشيرة العبور؟ هل لها القدرة على الصمود؟ هذه الحكومة التي قام رئيس الحكومة المكلف هشام المشيشي بتوصيفها بأنها “مستقلة” تقدم على مغامرة انتزاع الاعتراف عن مضض في توقيت بات فيه البرلمان مترنّحا غير ثابت يخشى التورط في عدم منح الثقة بنفس المقاس الذي يخشى فيها التورط في منحها. وتكونت الرئاسة برأسين.

حلّ البرلمان والحزام الأسود

إن المآل الدستوري يتركز على مآل دستوري مباشر ومآل دستوري غير مباشر وهو الأكثر حساسية. وينطوي المآل الدستوري المباشر على ثابت ومتغير. يتعلق الثابت الدستوري “المعزز بالعرف الدستوري” باستمرارية حكومة تصريف الأعمال القائمة بعملها، وتستمر قدرتها في مجال اختصاصها على تسيير دواليب الدولة، دون أن ترتبط بها مباشرة مسألة تحملها لمسؤوليتها السياسية أمام مجلس نواب الشعب ويطول الحديث في هذه المسألة. أما المتغير الدستوري، لهذا المآل فهي إمكانية تنفتح على سيناريوهين محتملين، الأول سيناريو تقرير الرئيس حل البرلمان والثاني سيناريو تقرير الرئيس لخيار عدم حلّ البرلمان، واتخاذ الرئيس لأي واحد من القرارين يخضع لأمرين، الأمر الأول تقدير الموقف السياسي للرئيس للفوائد والمعوقات ولنتائج اتخاذ مثل هذا القرار الأول أو الثاني وللمفاضلة بينهما الأمر الثاني، الاختيار بين أي من القرارين، يخضع موضوعيا للسلطة التقديرية المطلقة للرئيس فيما عدى قيد احترام الإجراءات الشكلية.

إنّ استمرارية الحكومة سواء تم حلّ مجلس نواب الشعب والاحتكام عبر انتخابات تشريعية مبكرة للشعب صاحب السيادة، أو لم يقع حلّ مجلس نواب الشعب واستبعاد خيار الانتخابات التشريعية، ففيما يتعلق بكلا الإمكانيتين السيناريوهين ، فإن مسألة الحزام السياسي كمآل دستوري غير مباشر، و” طرحها مسبقا ” كلازمة من اللوازم الشرطية في مسار التعاطي مع الحكم، قد تنطوي على معنى السلاح متعدّد الاستعمالات ضمن حالة الاستجابة لشروط معينه حكومة سياسية أو كفاءات أو مختلطة، وبمعايير معينة أخرى كمشروع الحكومة وبرامجها.

ومهما يكن من أمر طرح مسألة الحزام قبل التكليف أو بعده، أثناء تكوين الحكومة فإن المسألة تظل برمتها ضمن هذا التصور مسألة تفاوضية أو مسألة تشاورية، قبل عرض الحكومة على المجلس أو التصويت على الثّقة، بما ينطوي الأمر على اشتراطات واشتراطات مقابله، خلال عملية الوصول إلى اتفاق على التكوين وعلى منح الثقة، وهي أمر ينطوي أيضا على مخاطر عدم تجنب الإدراك والإدراك المقابل أن في المسألة سجال يستهدف لي للأذرع بين الماسك سياسيا بميزان الحزام، وبين الماسك سياسيا أيضا بمقتضيات الدستور، التي لا تشترط التزاما ملزما بنص الدستور لمضمون هذا المسار، أيضا يطول الحديث في هذه المسألة وتنسيبها وتقديرها ومخاطر أو إيجابيات السجال في دائرتها، وتختلف هذه القراءة في أكثر من جانب عن طرح مسألة الحزام بعد تكوين الحكومة وعرضها على تصويت الثقة في مجلس نواب الشعب وهذا هو المسار الطبيعي الدستوري الأكثر مقبولية بكثير والذي يتجاوز كل سلبيات المسار الراهن، من المسار الذي تطرح من خلاله المسألة حاليا، خاصة في ضوء استمرارية التساؤل

هل كان التصويت بالثقة التي تمت أصلا على حكومة الفخفاخ تكتيكيا أم استراتيجيا؟ وهل كان تحريك مسألة تضارب المصالح هي المبتدأ الفعلي، تمهيدا لإعادة طرح الثقة بحكومته؟ أم كانت مجرد استثمارا في وضعية قانونية للفخفاخ بما يطرح المسألة برمتها في إطار قرار سابق من لحظة ما قبل تكليفه بتشكيل الحكومة.

ضبابية المشهد

إن ضبابية هذا الأمر واستمرارية التساؤل دون توضيح قطعي من شأنه أن يساهم بشكل كبير في

“تلويث الثقة التي لا تساعد في إيجاد مناخ ثقة سليم تدار من خلاله دواليب الدولة ومن خلاله يتم التصدي الفوري للمشاكل الحقيقية للشعب التونسي.

وفي هذا المناخ من الثقة، فإن التساؤل سيبقى بدوره قائما بين ما هو تكتيكي وبين ما هو استراتيجي سواء تعلق الأمر بمنح الثقة أو تعلق بعدم منح الثقة على حدّ سواء، فهل الغاية هي الحيلولة دون حل البرلمان والمرور للانتخابات؟ وهي مقدمة بدورها إلى إعادة تحريك لائحة سحب الثقة من رئيس البرلمان بعد مرور فترة من منحها الثقة، أم إن منح الثقة يستهدف حكومة ثابتة ومستقرة تكمل ولايتها تحت الرقابة المسؤولة للبرلمان، وفي هذه الحالة فإن جدليّة الحكم بمسؤولية مباشرة أو الحكم بلا مسؤولية تبقى قائمة. وإن كان قرار منح الثقة استراتيجيا، فهنا يكون أيضا الحزام استراتيجي، وهنا نجد مصلحة حقيقة للشعب التونسي في حكومة مستقرة تستطيع أن تستكمل مدتها بأريحيه ضرورية للاستمرارية في تطبيق مشروع الحكومة وبرامجها القطاعية المختلفة دون هزات وسجالات خطرة وبالمدة الضرورية لمتابعة المشروع والبرامج القطاعية

هل الحل في الحلّ

الإمكانية الأخرى ارتباط حلّ مجلس النواب والمرور إلى صاحب السيادة ، بمدى جهوزية الهيئة المستقلة للانتخابات في مدة معقولة لإنجاز العملية من عدمها. وترتبط بالإمكانيات المالية التي يمكن رصدها أو من الصعب تأمينها، كما ترتبط بمدى السيطرة على جائحة كورونا ودرجة خطورتها والكيفية التي تجرى الانتخابات التشريعية في إطارها. وكذلك ترتبط بتغير تقدير الموقف بالنسبة للأحزاب في تقديرها لشعبيتها ومدى حظوظها بالفوز فيما لو أجريت الانتخابات، وهذا ما سيوثر بقراراتها بشأن منح أو عدم منح الثقة ورغبتها في حل أو عدم حل البرلمان، كما ترتبط الحالات أيضا بتقدير الأحزاب لما ينطوي عليه دفع الأمور باتجاه حل البرلمان، من رهانات متعددة الأبعاد والمرامي .

إن مجمل العملية ترتبط بالأزمنة المهدورة، في السجال والمناورة، إن هدر الوقت هو الأخطر، وهو الخيار السائد من 2011 إلى يومنا هذا، هدر الوقت هو الاستثمار والتنمية في المجهول، وحين تراوح نسبه النمو بين 8% إلى 11,50 % تحت الصفر، مع ارتفاع نسبة المديونية والاستمرارية في سياسة القروض، يصبح التساؤل الأهم أين هي اللحظة التي يستثمر بها الجميع في معالجة المشاكل الحقيقية للشعب التونسي؟ وهو الاستثمار البديل عن الاستثمار في هدر الوقت في السجال ولعبة حوت القرش الذي نريد أن نلتهمه اليوم ، دون فطنه للمخاطر الداخلية والخارجية، وحين نأكله لا أحد يستطيع أن يقول خلاف القول ( أكلنا يوم أكل الثور الأبيض ).

إن الاستثمار الحقيقي الاستراتيجي والتكتيكي لا بد له من أن يكون استثمارا في بناء كل جسور الثقة تحت سقف سيادة الدولة وسيادة منطق الدولة وسيادة منطق وأداء الإنجاز الفوري في مشاكل وأهداف الشعب التونسي الصاحب الأصلي للسيادة . وللخروج من هذه الإشكاليات ومن منطق السجال ” الفعل ورد الفعل” غير المجدي.

الخروج بميثاق دستوري وطني يعتقل السجال في حده الأدنى المعقول بزيادة مساحة الحصانة الميثاق الوطني، الذي يتضمن عدة ثوابت وطنية ذات قيمة ما فوق دستورية لا يمكن تجاوزها، ومن شأنها تحصين الاستقرار والأداء الداخلي والخارجي لمنطق الدولة وسيادتها، تحول كل المؤسسات السياسية والحزبية والمدنية والإعلام في الدولة إلى الإنجاز والعمل فورا على المشاكل الحقيقية للشعب التونسي كما يتضمن مطلوبة في القانون الانتخابي وجوانب طفيفة في الدستور لكنها أساسية لدوران دواليب الدولة وانسجامها. ميثاق دستوري وطني كمخرج من مخرجات حوار يدار من أطراف الحوار الاجتماعي من جهة أولى والأطراف الوازنة في الحوار الوطني من جهة ثانية.

يتم تعديل الدستور، بجملة واحدة، وهي وتعتبر وثيقة الحوار الوطني الجزء الأساسي الذي لا يتجزأ من هذا الدستور، والأعلى قيمة من قيمة بقية الأحكام التي تدخل في مجالها.

الأحزاب السياسيّة… كل الأيادي على الزناد

الأحزاب السياسية بعضها يتربّص بالبعض. وإنّ الجدل السياسي حول شكل الحكومة التي يجب أن تسود و تحكم البلاد جدل ليس بالجديد فمنذ تشكيل أول حكومة بعد الثورة و عند تشكيل كل الحكومات المتعاقبة يتصاعد التجاذب بين كافة الأطياف السياسية حول شكل الحكومة و بين المناداة بحكومة سياسية تخضع لنتائج الانتخابات و بين حكومة تكنوقراط و مستقلين و بين حكومة كفاءات مطعّمة بشخصيات سياسية ..و غير ذلك من المسميات المتعددة نجد أنفسنا كل مرة تحت قهر الغطاء السياسي للأحزاب من جهة و مجموعات الضغط من جهة أخرى..وحتى قرار رئيس الحكومة هشام المشيشي بتشكيل حكومة كفاءات مستقلّة اصطدم بمعارضة سياسية واسعة و لكن لم يرتق إلى درجة الصدام للغاية البراغماتية لدى الجميع

أنا براغماتي إذن فأنا موجود

الجميع لا يعنيه شكل الحكومة بالقدر الذي تعنيه مصلحته المباشرة في التعامل مع هذه الحكومة خاصّة و أن الصدام هذه المرّة قد يؤدي إلى حل البرلمان و إعادة الانتخابات و في هذه الحالة ستتعدّل النتائج الانتخابية حسب مؤشرات جديدة يشتد فيها استقطاب ثنائي بين النهضة من جهة و ما يسمى بالأحزاب “الدستورية” سليلة النظام السياسي الذي كان يسود قبل الثورة مع بروز تيار قد يرتدي بزّة الاستقلالية عن الأحزاب

الان نرى بالواضح صداما في الرؤية فمنهم من يرى أن لهم سلطة تمثيلية مستمدّة من نتائج الانتخابات و تفويض شعبي عبر الانتخابات في حين أن أنصار الحكومة التقنية يعتبرون أن للحكومة القادمة سلطة ذاتية مستقلة عن السياسيين..إذن هو المأزق “الأخلاقي” الذي نقع فيه الآن و سيكون له تأثير مباشر على مآلات الحكم.

زيف الاستقلاليّة

لعل حكومة مهدي جمعة التي جاءت نتيجة ثمرة للحوار الوطني لا تزال في البال فهي مثال واضح “للنفاق السياسي” إذ شكّلت تحت عنوان الاستقلالية و انتهت إلى تشكلات حزبية مختلفة فأثبتت أن “الاستقلالية” لا تعدو إلا أن تكون وهما . فحكومة وحدة وطنية لا يزال يراود الأحزاب الأكثر تمثيلية مثل النهضة و قلب تونس و ائتلاف الكرامة و التيار الديقراطي خاصة و بدرجة أقل حركة الشعب و تحيا تونس..و لكن المضيّ قدما في تشكيل حكومة كفاءات مستقلّة قد يستفيد منه في واقع الأمر حركة تحيا تونس و قلب تونس و يحافظ على التهدئة مع الدستوري الحر لأن المخزون “الإداري” في رسم سياسات الدولة قد يتماشى و توجهات هذه الأحزاب التي تجد أنصارها في الإدارة و دليلي في ذلك ما استثمرته حركة نداء تونس و حركة تحيا تونس لتثبيت حزبيهما في مفاصل الدولة منذ انتخابات 2014

أما النهضة و التيار و حركة الشعب سيكونون من أكبر الخاسرين لهذه المعركة و سيقفون بين الحكم و المعارضة لأن حكومة “كفاءات مستقلّة ” ستجعل منهم على مسافة مع دواليب الحكم و بالتالي خسارة مواقع سياسية و إدارية متقدّمة . الآن ما سيحسم هذا الجدل هو مدى القدرة هشام المشيشي على تجميع الفرقاء السياسيين حول شخصيات وطنية تستجيب لمتطلبات سياسية و اقتصادية واضحة بعيدا عن مجموعات الضغط التي لا تظهر بوضوح للرأي العام و لها مصلحة مباشرة من طبيعة نظام الحكم ولها مصلحة كذلك بتجاوز شرعية الانتخابات ونتائجها والاتجاه نحو الفرز السياسي الذي لا يستجيب للقاعدة الأولى في الديمقراطية والتمثيلية وهي الانتخابات.

مأزق الحلّ

إذا تولى حلّ المجلس و الحال انه لم يقع لا تنقيح القانون الانتخابي و تغيير النظام الانتخابي و وضع شروط تتعلق بنزاهة المترشحين إضافة إلى شفافية التمويل والمصادقة على مشروع الهايكا و مشروع قانون تنظيم شركات سبر الأراء دون هذه التغييرات الجوهرية فانتخابات تشريعية لن تنتج مجلس أحسن ولا تضمن الوصول إلى حكومة منسجمة و قادرة على مواجهة كل المشاكل التي تعاني منها البلاد لكل هذا لن نرى تحسنا.

وإذا أبقى على حكومة تصريف أعمال فذلك يعني أن الأزمة ستتعمق بل قد تنفجر لهذا على رئيس الجمهورية و رئيس الحكومة المكلف والأحزاب إيجاد حل بل من واجبهم الوصول إلى تكوين حكومة قوية ومنسجمة وقادرة على الاستمرار و ضمان أدنى استقرار إلى حلول تاريخ الانتخابات المقبلة

Skip to content