مقالات

السياسات العمومية للإعلام .. بين إرادة المهنيين وتخاذل الدولة

علي بوشوشة
صحفي

 يعمل الصحفيون والهياكل المهنية لقطاع الصحافة والمنظمات الشريكة ذات العلاقة بموضوع حرية التعبير والصحافة والنشر والاتصال السمعي البصري، منذ  2011 إلى اليوم بطريقة تشاركية من أجل خلق فضاء آمن لممارسة حق حرية التعبير والصحافة الحرة، وضمان تطوير المنتوج الإعلامي وصحافة الجودة التي تضطلع بمسؤولياتها. إلا أن المناخ السياسي العام وغياب إرادة سياسية ورؤية واضحة حال دون هذا الهدف الذي سيجعل من القطاع رافعا للانتقال الديمقراطي ومرفقا عاما ينصف قضايا المواطن، ويلتزم بالمهنية دون يقع في ابتزاز الحاكمين.

مفهوم السياسات العمومية

وتعتبر السياسات العمومية لقطاع الإعلام بمثابة خارطة الطريق أو الاستراتيجية التي تصوغها الهياكل المهنية والحكومة من أجل توفير بيئة مواتية لممارسة مهنة الصحافة والإعلام، مع ضمان شروط الديمومة والجودة، كالتشريعات الضامنة لحرية الرأي والتعبير والصحافة، والتمويل العمومي لضامن استمرارية  إعلام عمومي متجدد ومبتكر. إلى جانب منظومة تكوين جامعي فعالة وآليات شفافة  لدعم المؤسسات الإعلامية الخاصة والجمعياتية. 

ومن أهم أدوار هذه السياسات، هي المحافظة على مناخ الحريات وعدم التراجع عنها، والحفاظ على وجودة الإعلام و إنارة الرأي العام. كما تتضمن مسارات واضحة لتطوير وتجويد المشهد الإعلامي. 

ودفعت الهياكل المهنية بالشراكة مع المنظمات ذات الاهتمام، الحكومات المتعاقبة، إلى المساهمة في صياغة استراتيجية وطنية للسياسات العمومية لقطاع الإعلام تحدد المسؤوليات  والأهداف وحدود المتدخلين.

حكومات دون رؤية إصلاحية للقطاع

ساهم عدم الاستقرار السياسي في البلاد، وتغير الحكومات بشكل متسارع دونما ضمان لاستمرارية الدولة وبرامجها، وغياب رؤية واضحة لقطاع الإعلام، تعد من أهم الأسباب التي عطلت لقاء الدولة بالهياكل المهنية من أجل وضع خارطة طريق تضمن إعلاما محايدا وصحافة حرة ذات جودة . 

ورغم ضغط الهياكل المهنية والصحفيين ودفعهم نحو الانطلاق في مسار صياغة سياسات عمومية للقطاع، والتمهيد من خلال تنفيذ دراسات معمقة للواقع والإشكاليات الحقيقية للقطاع، إلا أن الحكومات المتعاقبة تركتها سجينة الرفوف ولم يتم تثمين مخرجاتها وتوصياتها، والاستفادة منها في صياغة سياسات تشارك فيها السلط التنفيذية كرئاستي الحكومة والجمهورية، إلى جانب الهياكل المهنية (مجلس الصحافة /الهايكا /نقابة الصحفيين) والمؤسسات الاعلامية ذاتها، والمؤسسات الإعلامية من أجل العمل على تحسين جودة الإعلام.

وحتى الدراسات التي أنجزتها المنظمات والهياكل المهنية ذات العلاقة في المجال الإعلامي أغلبها وضع على الرف من طرف المسؤولين في الدولة دون مبررات، لم يقع الاستفادة منها خاصة وأنها تعد مؤشرات ضرورية لتحديد الإشكاليات وصعوبات العمل الإعلامي، وهو ما يترجم غياب ارادة سياسية اصلاحية. 

الأسس ومراحل الصياغة

تعتبر سمية رجب الأستاذة بمعهد الصحافة وعلوم الاخبار بمنوبة “اختصاص تلفزة” في حديثها لـ” الجريدة المدنية”، أن السياسات العمومية  للإعلام تعتمد على  شؤون ثلاثة تصنفها كما يلي:

 علمي أكاديمي تأسيسي، يهتم بتحديد الإشكاليات في علاقة بالجمهور والعمل الإعلامي وأخلاقيات الصحافة والتعديل والتعديل الذاتي وتحديد الحلول. ينطلق من الغوص في الأسباب القريبة والبعيدة وتاريخية العمل الصحفي قبل وبعد الثورة، ثم يتجه نحو تحليلها وإيجاد الحلول. 

محدد مهني تطبيقي، يعنى بممارسة الصحفية، وهنا اللاعب الأساسي هي الهياكل المهنية التي تعمل على حماية القطاع وتطويره في آن واحد، وهي تحديدا نقابة الصحفيين ومجلس الصحافة و الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي البصري. 

أم المحدد الثالث فهو التأصيل التشريعي، الذي يمثل الغطاء القانوني لممارسة حرية الصحافة والعمل الاعلامي، ويتمثل في سن  نصوص قوانين متكاملة ومتطورة ومتقدمة، تضفي المشروعية وتضمن الحقوق وفق التشريعات الدولية والدستورية.

وما يمكن اتباعه تمهيدا لإيجاد الحلول، هو الغوص في أمهات المشاكل وأولها مشاكل أهل القطاع “الصحفيين”، بما أنهم ضحايا لمنظومة تحاول أن تسيطر على نشاطهم وانطلاقا من الوضع الاقتصادي للصحفيين، ثم الطرف الثاني وهي الجماهير، خاصة وأننا نتحدث عن إنارة الرأي العام وحق النفاذ إلى المعاملة. 

تقول د. سمية بن رجب أنه ” يجب ضبط  الإشكاليات أولا وقبل كل شيء، فإذا كانت هناك مشاكل تتعلق بالجودة فيجب البحث في أسبابها العميقة وما يعيق الصحافة التونسية أن تكون صحافة جودة ترتقي إلى مستوى انتظارات  الجماهير و إنارة الرأي العام. وإذا كنا نتحدث عن إشكال في مسألة المهنية والانخراط في مجال احترافي يكون فيه الصحفي فاعلا وله دور كبير في تنشيط المجال وتقريب المعلومات من الجماهير، يجب البحث في عمق المسألة لماذا لا يقع  الإعتماد على صحفيين محترفين لهم تكوين أكاديمي، يقومون بهذه المهمة. أما إذا كنا نتحدث عن جانب الحريات والجانب السياسي، حيث يوجد نوع من التداخل والتنافر، فلابد من فهم أسبابها.

وبعد تقصي مواطن الخلل، يتم تحديد الجهات والأطراف المسؤولية والمؤثرة للنظر في الحلول والعمل على تطبيق وتنزيل هذه السياسات والحلول وهي المذكورة سلفا، النقابة الوطنية للصحفيين ومجلس الصحافة والهياكا من جهة، ورئاسة الحكومة وممثلي الدولة من جهة ثانية، وممثلين عن الجماهير من جهة أخرى، حتى نتوصل إلى سياسات عمومية تتوافق مع ما يطلبه مستقبل تونس خاصة في هذا الظرف الخاص.

واختتمت محدثتنا بالقول إن بعد صياغة الاستراتيجية وبداية تطبيقها، لابد من أن تكون هناك مرحلة متابعة وتقييم، تكشف هل كانت هذه المخططات ناجعة وساهمت في إضفاء فاعلية داخل القطاع  أم لا. 

وضع سياسي غير ملائم 

أما الجانب السياسي المعقد في تونس الذي تراوح بين فتح المجال بشكل حر في بعض الأحيان حرية غير مسؤولة، تجلت في انتشار الأخبار الزائفة  و خطاب الكراهية وظواهر أخرى سيطرت على المشهد الإعلامي لسنوات خاصة في الفترة الأخيرة التي كثرت فيها مظاهر العنف في الخطاب الإعلامي، وبين التضييق على العمل الصحفي وسد كل منافذ الحصول على المعلومة، خاصة مع السياسة الاتصالية للرئيس الذي يعد الطرف السياسي الوحيد الذي يسير الدولة.

وبحسب محدثتنا سمية بن رجب، فإنه في ظل هذا الوضع السياسي الانتقالي الحرج، خاصة بعد نقلة 25 جويلية 2021، لا يمكن الحديث عن دسترة القوانين لأننا في حاجة إلى مؤسسة البرلمان، حيث لا  يمكن صياغة نصوص جديدة ذات شرعية. ولكن قد تمثل هذه الفترة فرصة للنقاش وبحث الحلول لمراجعة النصوص القانونية المنظمة للقطاع واستشراف ما يمكن أن يطبق لتطوير القطاع.

ودعت في ذات السياق إلى مراجعة المرسومين 115 و 116 لسنة 2011، خاصة وأنهما وضعا في ظرف دقيق ولم يتم الإحاطة بكل الجوانب المطروحة في الوقت الحالي. مؤكدة أن الحكومة تتحمل مسؤولية في جزء مما آلت إليه أوضاع القطاع من رداءة بسبب منح بطاقة صحفي محترف لغير ممتهني الصحافة و المتكونين فيها، داعية إلى ضرورة أن يكون خريجي معهد الصحافة والمتكونين أكاديميا هم العنصر الفاعل في القطاع خاصة في صياغة المضامين وفقا لما تفرضه أخلاقيات المهنة.

من جهته يعتبر النقيب السابق للصحفيين ناجي البغوري، أنه لا يمكن الحديث عن سياسات عمومية  للإعلام إلا في منظومة حكم ديمقراطية، في حين أنه في التجربة التونسية لا يمكن الحديث عن سلطة مسؤولة ونظام حكم ديمقراطي، بل هي دولة مارقة تحاول كل مرة السيطرة على الإعلام وتطويعه لخدمتها. مضيفا أن الدولة التونسية بمختلف مؤسساتها لا تنطر إلى قطاع الإعلام على  أنه مرفق عمومي وخدمة عامة وسلطة رقابية وأحد أضلع الانتقال الديمقراطي، وأن كل هذا تسبب في تعطل مسار السياسات العمومية. 

وفي ظل تعطل شبه تام لكل مؤسسات الدولة، خاصة المعنية منها بموضوع السياسات العمومية للإعلام وإصلاح الإطار التشريعي، في الوقت الحالي٫ فإن هذا الهدف الذي يعمل عليه مهنيو قطاع الإعلام وشركائهم سيتواصل تعطله إلى حين.

Skip to content