مقالات

الشاذلي القليبي… السيرة والمسار

الشاذلي القليبي
فطين حفصية
صحفي
حين كان جمع من القيادات العربية يتداولون في طرابلس الغرب أسس “جبهة الصمود والتصدي” ردا على استعداد الرئيس المصري انور السادات  الذهاب الى القدس لم يتوقع متابعو مطبخ القرار العربي أن الوزير الشاذلي القليبي الذي انتصف عمره الخمسيني سيكون أمين عام جامعة الدول العربية ربيع العام 1979بعد هبوب رياح الخلافات على أوتاد الخيمة الاقليمية.
انفضت قمة بغداد العربية المنعقدة بعد ذلك في خريف ساخن  تحت نفس العنوان  “الصمود والتصدي”  بطرد مصر من الجامعة وتجديد اللاءات التاريخية ثم انهاء عرف الرئاسة المصرية لها بصعود تونسي الى سدة إدارتها.
 
 مثل هذا  المستجد نقطة تحول في مشوار القليبي ولما كان  الامين العام الجديد يهم بمصافحة الرئيس الحبيب بورقيبة في لقاء وداع بروتوكولي بقصر قرطاج خاطبه الزعيم التونسي بأسلوبه العامي المباشر “ماتهربشي علي” … ولم يخطئ مرة أخرى حدس الرئيس فبعد سنوات  كان بورقيبة خارج الرئاسة والقليبي مستقيلا من الأمانة. 
ان التودد الذي أطلقه بورقيبة  قدم تلخيصا عن علاقة الرجلين فهو مدير ديوانه الرئاسي ووزيره للثقافة والاعلام في حقبة السبعينات وهو “ريشته الفراسة والقلم”  عند كتابة خطابات الرئيس المفوه بطبعه ….
 
 وعلى عكس ماهو متعارف فإن من دفع نحو ترشيحه لرئاسة جامعة الدول العربية واقناع بورقيبة بمقترحه هو وزيره الاول الهادي نويرة  ورغم  التباعد الذي طرحته  المسؤولية العربية فقد ظل القليبي بورقيبي العقل والفعل حد إفراده بكتاب حمل عنوان “أضواء من فترة حكم بورقيبة” وغاب فيه دوره تماما.
 
ولما سئل الرجل ذات مرة وهو الذي تموج بين المسؤوليات والقرار لماذا لا تكتب مذكراتك الخاصة أجاب ببديهته الحاضرة  أن الذاكرة خائنة في اغلب الاحوال وأن “الأنا” من شأنها ان تكيف الماضي بما هو أجدر.
 
  كان لهذا الماضي عمقه في تحديد خياراته فعندما كان يود دراسة الطب بالعاصمة الفرنسية أواسط الأربعينات تغيرت بوصلة القرار الدراسي بعد رسالة وردته على عجل من أستاذه الأديب والمفكر والوزير محمود المسعدي قال له فيها :”إذا كنت تعتقد ان الطب الذي تتوجه لدراسته يخدم البلاد فإنك مخطئ”.
ركب اثر  الرسالة رهان الأدب والفلسفة بالسربون بالحصول على شهادة في اللغة  والادب العربي ثم التبريز ووسعت معالم باريس وصالوناتها ومسارحها من فسحة آفاقه الفكرية… سرعان ما القى بمحفظة التدريس جانبا في بواكير الاستقلال عندما تم تكليفه بمنصب المدير العام للاذاعة الوطنية سنة 1958 مع التحضير لانطلاق “الاذاعة المرئية” فحولها على قلة الامكانيات الى ورشة عمل مفتوحة وخلية تأثيث برامج متنوعة وهادفة تشق طريق “التونسة” إدارة وهندسة وطواقم صحفية وتقنية.
مساحة الفعل بين الثقافة والإعلام والديبلوماسية 
 
تابع حمل المعارك الكبيرة التي تخوضها تونس  عندما دعي الى شغل حقيبة الثقافة في العام 1961  فبناها حجرا فوق حجر مثلما كان يردد وحول مدنا وقرى كثيرة الى حظائر ثقافية مفتوحة تشيد فيها المنشآت الثقافية والمسرحية والسينمائية والمراكز الفنية والمكتبات العمومية والمتنقلة وتنظم فيها المهرجانات اذ كان يرى وهو “المثقف السياسي” ان الثقافة أداة ناعمة للتطوير والتغيير ولو كان “النظام خشنا”.
 
بدا  القليبي مجموعة كفاءات ثقافية وديبلوماسية واعلامية وسياسية  زادها “الصدق القومي” والسعي الى تحريك “الفعل العربي” المنهك أنذاك بالهزائم وخلال عهدة  احد عشر عاما  قضاها على رأس جامعة الدول العربية سار بكل حكمة وهدوء  فوق الألغام السياسية والخلافات الموضوعة أمام تنقية الأجواء العربية وتثبيت السقف الادنى للتضامن العربي. 
الاستقالة المحملة بالأوجاع  
 
مثل خطاب استقالته من أمانة البيت العربي يوم الاربعاء الخامس من سبتمبر 1990 قبل دك قوات التحالف الدولي للعراق دكا حالة الاحباط التي وصلها مجهوده المكوكي بين العواصم العربية  فقال فيه “لقد التزمت الصمت كل هذه الايام كمثل من يجلس على الجمر  وأنا لا أنحاز الا الى الطرف العربي” 
 
طرف كان ينقسم وقتها بين نعم ولا لضربة عسكرية ضد العراق وبين نعم ولا تطير الأرواح على قول ابن عربي، فكان الامر كذلك بعد ان طار كل وهج لعمل عربي مشترك وانتقلت الحروب العربية الباردة إلى حروب على الأرض.
 
هواجس القلق العربي تحملها جل شهاداته وكتاباته إذ تحتفظ الذاكرة المكتبية للقليبي بمؤلفات عديدة اهمها “العرب امام قضية فلسطين” و”امة تواجه عصرا”  و”من قضايا الدين والعصر” و”الشرق والغرب” و”السلام العنيف اليوم وغدا” وكانت آخر اصداراته التي نشرت في العام 2019 بعنوان “تونس وعوامل القلق العربي”، مؤلف تم تقديمه بداية العام الحالي وفيه وضع الراحل أمام القارئ وجهي قطعة النقود : وجه اول عن الثورة نشأة ومآلات مفتوحة وثان اقترح فيه وقفة تأمل لاتخاذ مايقتضيه الوضع للمصارحة وبعث أمة متماسكة الأركان متنامية الطاقات مثلما يقول.
 
لقد بقي الى اقتراب غيابه عن سن تناهز الخمسة وتسعين عاما يمشي كتفا بكتف مع قضايا بلده وامته ويؤكد ان معركة المسافات الطويلة للخروج من الحالة التي وصلنا اليها تقتضي الاستهلال بالمسافات القصيرة والمراجعات الموجعة وقراءة التاريخ الزاخر بالحكمة بروية علنا نعثر على المفتاح الذهبي لحل مشاكل حاضرنا… رحم الله الشاذلي القليبي فقيد البلد والأمة.
 
Skip to content