مقالات

الصادق بلعيد.. المسافر بين الدساتير

فطين حفصية
صحفي
عشية 14 جانفي 2011 لما كانت تونس تعيش “كسوفا دستوريا” عقب هروب الرئيس الراحل زين العابدين بن علي إلى المملكة العربية السعودية، إثر انتفاضة شعبية عارمة، كان العميد السابق وأستاذ القانون الدستوري الصادق بلعيد يقطع في تصريح إعلامي شهير لقناة الجزيرة القطرية ليلة شك دستورية شتوية طويلة بيقين إجبارية المرور من الفصل 56 من دستور الجمهورية الأول سنة 1959 نحو الفصل 57 منه الذي ينهي الشغور النهائي الحاصل في منصب رئيس الجمهورية وتولي رئيس البرلمان آنذاك فؤاد المبزع كرسي قرطاج بشكل مؤقت بدلا عن الوزير الأول محمد الغنوشي الذي أمسك عهدة بسويعات قليلة.
 
تداعى أعضاء المجلس الدستوري المرتبكين ليلتها على عجل صباح الغد وبمن حضر إلى مقر المجلس بباردو ليتلو رئيسه فتحي عبد الناظر صريح الفصل الذي نادى بتطبيقه بلعيد أمام كاميرا القناة الوطنية ويبث إلى عموم الشعب التونسي والعالم، ومنذ تلك اللحظة التي كانت فيها البلاد تشهد انفلاتا أمنيا كبيرا وقفزا فوق “المجهول الانتقالي” سيطفو إسم العميد الصادق بلعيد على سطح الأحداث كلما قامت “حرب دستورية” بجنود الاختصاص أو ظهر خصام حول ترسيم حدود الفصول.
 
بين هذا وذاك ومن القصبة 1 إلى القصبة 2  أعلن بلعيد نفسه خبر نعي دستور 1959 والحاجة إلى الانطلاق في تأسيس جديد،  وانتقلت بذلك الهيئة القطارية طويلة الإسم (الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي) لتمسك باليد التشريعية المؤقتة ثم تسلمها إلى مجلس وطني تأسيسي استعدادا لدخول الجميع بعدها في دين الدستور الجديد أفواجا.
 
من أشهر هذه الفصول عدد 80 من دستور 27 جانفي2014 الذي أغرق الساحة الدستورية الأكاديمية والسياسية التونسية في النقاش والتفكيك والدوران إلى اليوم بين منطقتين : منطقة التصحيح ومنطقة الانقلاب بعد إجراءات 25 جويلية 2021 ورفع علامة الخطر الداهم حين كانت لائحة ضحايا الجائحة قد أتمت عشرين ألف شخص، دفع بلعيد منذ اللحظة الأولى ومن في صف قراءته من أهل الاختصاص بمقولة أحد الآباء المؤسسين للدستور الأمريكي جيميس ماديسون “إذا كانت الناس ملائكة فلا داعي لكتابة الدستور”، أما خصوم هذا التأويل فقد ذهبوا إلى أنه لا قداسة لنص لكن جوهر الدساتير يغلب ظلالها.
 
إن الرجل الثمانيني يراه أنصار “المقاربات الجديدة” رئاسة وأحزابا وأفرادا فرضية إصلاحية في إشكالية العقل المؤسساتي الانتقالي المأزوم منذ 10سنوات والمشتت حكمه بين القصور الثلاثة : قرطاج والقصبة وباردو، واعتبر متابعو الشأن العام أن الحلقات الأكاديمية القانونية التي لطالما جمعت رئيس الجمهورية والطالب السابق قيس سعيد بالعميدين الصادق بلعيد ومحمد الصالح بن عيسى والأستاذ أمين محفوظ لم تكن سوى ورشة مفتوحة لإعادة تدوير المشهد بشكل جذري ووضع مسطرة قانونية ودستورية وسياسية جديدة في حين تقول المعارضة بتشكيلاتها المتقاطعة وأجسامها المتنافرة إن العميد وهو في عمر الحكماء سيكون “عراب” 26 جويلية ولو كان صرخة دستورية مكتومة في وادي قيس سعيد السحيق.
 
سجن الهوية والمعركة المريرة 
 
تتسع سيرة العميد ومساره إلى حقب عديدة ومكتبة تأليفية ثرية، فمن دراسته بقسم الأدبيات الكلاسيكية اليونانية واللاتينية ثم الفرنسية بالمدرسة الصادقية انتقل إلى دراسة القانون بفرنسا وهو أستاذ متقاعد من تدريس القانون بالجامعات التونسية وزائر بكبريات الجامعات الفرنسية والأمريكية والعربية وعضو في جمعيات وفعاليات قانونية ودستورية إقليمية ودولية عديدة، له مؤلفات عديدة أبرزها “القرآن والتشريع: قراءة جديدة في آيات الأحكام” و”عشر سنوات من الحوار العربي الأوروبي : محاولة تقويمية” وبحث في “سلطة القاضي الإبداعية والحكمية” حيث يعتبر نقاد أن ما كتبه يتجاوز البعد القانوني المتعارف عليه إلى النظر في عمق القانون وجذوره وأصوله الفلسفية والابستمولوجية في حين يؤكد أنه ألقى بوقت كثير ليحفر عميقا في السؤال “الثقيل” : إلى أي مدى يمكن أن نقول بأن هناك تشريع إسلامي أم هناك تشريع قرآني؟
 
من هذا الحقل المعرفي فتح العميد جبهة “الهوية” سابقا ولاحقا لما أفاد أنه سيعرض على رئيس الجمهورية مسودة للدستور لن تتضمن ذكرا للإسلام دينا للدولة وأعد لهذه المعركة ما استطاع من “قوة” حد أنه توجه بشكل لا لبس فيه نحو عواصم الغرب بالقول التالي : 80% من التونسيين ضد التطرف وتوظيف الدين من أجل أهداف سياسية وهذا ما سنفعله تحديدا…  لدينا أحزاب سياسية أياديها متسخة، أيها الديمقراطيون الفرنسيون والأوروبيون شئتم أم أبيتم ، نحن لا نقبل بأشخاص وسخين في ديمقراطيتنا.
 
يعول هنا على الاستفادة من تجارب الشحن الإيماني السابقة والمعارك الآنية بين “حشود روح الأمة”  و”حشود الشعب يريد” معتمدا على استراتيجيته اتصالية  تقطع الهواء عن كل صراع هووي وتوجه سهام نقدها اللاذع للإسلام السياسي وضواحيه السياسية والمدنية، وإذا كان الراحل المؤسس أحمد بن صالح قد وضع نص الفصل الأول من دستور 1959 في جيبه قبل عرضه على الجلسة العامة يوم تبني الدستور ومعرفة الجميع بنصه وفواصله، فإن العميد قد شرع رسميا في تركه “شريدا” داخل المقولة التي يتقاسمها وسعيد “نحن نصوم ونصلي بأمر من الله وليس بناء على الفصل الأول من الدستور”.
 
ومع شغله عمادة كلية العلوم القانونية والسياسية والاقتصادية بالعاصمة بين سنوات 1977/1971 إلى تسميته رئيسا للهيئة الوطنية الاستشارية لإعداد دستور “الجمهورية الجديدة” في 20 ماي الماضي يكون رجلا بطبعات مختلفة : طبعة الراحلين بورقيبة وبن علي ثم طبعات 2011 و2014 و2022، هذه الطبعات ستلاحق القانوني المخضرم صعودا ونزولا في وسائل الإعلام كرجل مؤثر وقامة علمية وضعت يدها في “عجين” كل الدساتير التونسية والتعديلات التي طالتها وإن بتناقض حاد : إما بشكل تقني أكاديمي يعتمد الصرامة أو كإبرة طيعة في تطريز فصول دستورية على المقاس يعبدها الحكام العرب كعبادة أجدادهم الأوائل للأوثان سابقا.
 
لا يلتفت بلعيد إلى التصريحات المتعاقبة منذ تسميته الرسمية أو ما يلاحقه من “ثقوب سوداء” تتعلق بمهادنته الدستورية للسلطان أحيانا أو فشله بين عامي 1978 / 1982 في قيادة لجنة الدفاع القانونية التونسية أمام محكمة العدل الدولية بلاهاي حول الأحقية التونسية لما يعرف بالجرف القاري وهو جملة رواسب صخرية في البحر تسبح فوق ثروات طاقية وسمكية هائلة وذهبت السيادة عنها في النهاية إلى ليبيا بل أن “خصمه  المدرسي”  عياض بن عاشور ورغم حرب التصريحات بينهما دافع عليه في تصريح صحفي حديث بالتأكيد أنه كان من بين الموقعين القلائل على وثيقة تم إرسالها إلى الرئيس السابق بن علي في العام 1994 وحذر فيها 18 جامعيا من كل الجامعات التونسية من حدوث ثورة في البلاد في صورة تمادي النظام في التسلط والقيصرية.
 
يقف التونسيون على باب الأيام ليحكموا على دستور جديد يرأس العميد بلعيد هيئته الاستشارية إذ يكرر في كل مرة كلماته المحبذة “ليس لي دستور في حقيبتي للمرور بقوة” وأنه لا بد من دستور يقطع مع الديمقراطية التحيلية أو المغشوشة وينهي التنكيل بالتاريخ والواقع، في المقابل يعرف الشارعان السياسيي والمدني المعارض مخاضا قبل الكشف عن مخرجات اللجان الفرعية المنبثقة عن الهيئة ومن ثمة شد الأحزمة للموقف النهائي في الاستفتاء المنتظر على هذا الدستور في 25 جويلية القادم : إما المقاطعة النشطة أو الاختيار بين إجابتي القبول أو الرفض وبين نعم ولا تطير الأرواح مثلما يقول شيخ المتصوفة الأكبر محي الدين ابن عربي.
Skip to content