مقالات

العز السياسي

فطين حفصية
صحفي

أعلن رئيس الجمهورية قيس سعيد عن التدابير الاستثنائية في 25 جويلية 2021 وملحقها الإجرائي في 22 سبتمبر 2021 ثم خارطة الطريق قبل غروب العام الماضي وهو في ساعة “العز السياسي” وفق تعبير ونستون تشرشل الشهير قبيل وضع الحرب العالمية الثانية أوزارها، ساعة العز هذه ليست جامدة في الوقت لأن الجميع ينام بعين واحدة في غرفة الانتظار الطويل التي تعيشها البلاد، وكلما دارت عقاربها تتالت الأسئلة حول المستقبل والقادم وتوجهت رأسا إلى من بيده المقود فالوقت كالسيف.

أتت الليلة الفاصلة بين ال 20 و21 من مارس الجاري لتقفل أول قوس زمني سياسي يتعلق بالاستشارة الوطنية بعد 65 يوما من إطلاقها الرسمي، فجاء خطاب الرئيس ليعطي إشارة المرور الثانية نحو الطريق الانتخابي الأكثر ازدحاما بالأسئلة في الذهنية السياسية العامة للتونسيين وهو الاستفتاء المرتقب يوم 25 جويلية القادم حول الدستور والنظام السياسي بعد كلمة مطولة تجاوزت نصف الساعة لكن مرة أخرى دون طرح واضح لا يستدعي أسئلة.

 مع الثقل الرمزي للمناسبة حيث اعتاد التونسيون  في ذكرى الاستقلال على خطابات رئاسية تستذكر قوة اللحظة ونضال السابقين واللاحقين ألقى رئيس الجمهورية بـ”حجرة سياسية” غير مفصلة في مياه النقاش الراكدة تتعلق بأن الاستشارة الوطنية التي شارك فيها ما يزيد عن نصف مليون شخص طيلة أكثر من شهرين بقليل هي أول حلقات الحوار الوطني المؤدية إلى هذا الاستفتاء،  ومضى في القول “سيتواصل العمل لتنظيم الاستفتاء في تاريخه المحدد بعد أن يتم تشريك الجميع في إبداء آرائهم ومواقفهم واقتراحاتهم بالنسبة إلى النظام السياسي الجديد”.

 نفهم هنا على الأقل أن ما يسميه الرئيس بـ المقاربة الجديدة المعتمدة على “الديمقراطية الاليكترونية” ستكملها “ديمقراطية حوارية” مع شركاء مفترضين لم يحددهم خطاب منتصف الليل أو يبسط طريقتها وزمانها، لم يتحدث سعيد كثيرا عن الاستشارة التي فتحت نقاشا واسعا حول النجاح أو الفشل وإن اعتبر أنها حققت أهدافها مقارنة بما حصل عليه البعض من أصوات في الانتخابات لكنه عاد إلى الأمر الضاغط وهو ضرورة الذهاب إلى الاختبار الحقيقي الأبرز لخارطة الطريق بأقل مربعات التشكيك والمعارضة.

من ضمن الاشتراطات الكبيرة لآلة السياسة في إدارة الأزمات الاستثنائية سرعة القرار ووضوحه، ويبدو رئيس الجمهورية الذي كسب منذ أشهر نقاطا كثيرة على حساب الأحزاب بالنظر إلى تعفن المشهد السياسي غير قاطع في الموقف من كل المجتمع السياسي والمدني- المساند له أو المعارض – وموقعه في هذا الحوار الذي سيطلقه: من سيدعى إليه ومن لا يدعى؟ كيفية عرض المقترحات المتعلقة بالنظام السياسي والدستور: هل هي مباشرة أم غير مباشرة عبر وسيط مؤسساتي مثلما حصل سابقا أثناء مقترحات الأحزاب اسم رئيس حكومة مرشح؟  وأخيرا ماهي قنوات هذا الحوار وتفصيلاته المكانية والزمانية والتشاركية؟

يفهم أيضا من القرار أن رئيس الجمهورية يريد توسيع الجبهة الاستشارية التي ستنتج بدورها جبهة تقريرية لما ستقوم به اللجنة التوليفية من صياغة، فحين تتوسع دائرة الحوار التي يبدو اتجاهها العام راغبا في تعديل الدستور ومناهضا لكل تشتت للسلطات مثلما كان الحال سابقا تكتسب هذه الاستشارة ثم الحوار نوعا شرعية أكبر قبل طرحها على الاستفتاء ويمكن بالتالي نزع التهم التي ترمي بها المعارضة والقائلة بالمرور بقوة نحو أهداف مسطرة.

 إن ذلك لن يكون نهاية القصة إذ سنكون أمام استشارتين: واحدة شعبية وطنية وأخرى حزبية مدنية ويقود ذلك إلى تمش منهجي عام: هل ستؤلف اللجنة الخاصة في عملها الاستشارة الشعبية على حدة ثم الاستشارة السياسية المدنية وتقوم بتجميعهما أم أنها ستنتظر انتهاء كل “الاستشارات” لتقوم بالتوليف والصياغة وما يطرحه ذلك من أخذ محاذير قصر الوقت أمام تدبر هذه الاستشارات والحوارات الواسعة؟ 

يفترض الحوار المرتقب ضبط ترتيبات دقيقة  وآليات فالحوار الوطني الأول كان كلاسيكيا مباشرا اعتمد على راع له وهو رباعي المنظمات مقابل أحزاب سياسية فاعلة وعدد من المكونات المدنية والحقوقية والشخصيات الوطنية والخبراء، وفي الحالة الراهنة يبدو الأمر صعبا والمنطق يقتضي الاتجاه إلى تضييق ما أمكن من مشاركين لإضفاء مزيد من النجاعة والسرعة كما تبدو حدود رئيس الجمهورية ممتدة ليكون نظريا – لا خصما أو حكما – بقدر ما يكون سلطة رمزية رقابية على اتجاهات هذا الحوار ولو بشكل غير مباشر وهنا سيتخلى عن موقفه العام من الوسائط قبل الساعة صفر المحددة للاستفتاء مقابل “تشوق” الأحزاب  لاستعادة دورها الأساسي في إدارة الشأن العام  تمهيدا لدخول السباق الانتخابي التشريعي القادم.

بعد 8 أشهر عن التدابير الاستثنائية ركب المزاج الشعبي والسياسي والمدني في أغلبه 3 موجات : الانتظارية، النقدية الإسنادية، المؤيدة تماما والمعارضة إطلاقا ومع طي الفصل الأول من خارطة الطريق لازال كل هؤلاء يتفقون على الكلمة الأكثر تداولا في نفق الأزمة الطويل وهي وصول وضع البلاد إلى “عنق الزجاجة”  فالمواطن التونسي البسيط والطبقة المتوسطة المنهكة أصبحت تبحر ضد كل التيارات ولا يجب أن تحجب المعركة السياسية بقية المعارك الاقتصادية والاجتماعية في المفكرة اليومية لرئيس الجمهورية  فساعة  العز السياسي لا يمكن أن تستمر إلى ما لا نهاية ولو كان صاحبها قادرا على رسم خط فوق الرمل.

Skip to content