مقالات

“العمل عن بُعد” في تونس بين ضرورة وضع تشريعات وتقييم التّجربة

فوزي الشيباني
كاتب عام مساعد سابق للجامعة العامة للنّفط والمواد الكيمياويّة

مع كلّ أزمة اقتصادية واجتماعية أو كارثة طبيعية تُصيب البشرية تُولد من رحمها مفاهيم جديدة وأنماط اقتصادية مُحدثة تساهم في إعادة رسم خارطة جديدة للتوازنات السياسية والاقتصادية لبلدان العالم ومجتمعاته.

وما نعيشه اليوم من تفشّي جائحة الكورونا وما خلّفته من آثار سلبية على عديد القطاعات لدليل على المتغيّرات العميقة التي ضربت البشرية في جميع المجالات.

إذ امتدت رياح التغيير إلى ما بعد ما هو صحّي واقتصادي لتشمل المسائل التشريعية والجوانب الاجتماعية، حيث ساهمت في خلق أشكال جديدة لأنظمة العمل وصيغ مُحدثة في أنماط عقود الشغل كالعمل عن بعدتستدعي منّا المزيد من البحث والاهتمام.

  • فما هو العمل عن بعد؟ وما هي إيجابياته وحدوده؟

  • ما مدى تلاؤم التشريعات المحلية والدولية مع هذا النظام الجديد للعمل؟

  • وكيف يمكن التفاعل مع هذه العلاقة الشغلية تنظيميا وتشريعيا؟

-I تعريف العمل عن بعد:

لم تتطرّق مُنظّمة العمل الدّولية إلى ظاهرة العمل عن بُعدولم تصدر بعد أيّ اتفاقية تُنظّم هذا النّمط الجديد من العمل الذي انتشر في العديد من بلدان العالم للحدّ من الآثار السلبيّة لجائحة الكوروناعلى المستوى الصحّي والاجتماعي والاقتصادي.

لكن بالاعتماد على القوانين المُقارنة وبالخصوص الاتفاق الإطاري الأوروبي الخاص بالعمل عن بعد (L’accord cadre sur le télétravail)المُمضى بين الكنفدراليّة الأوروبيّة للنّقابات (CES) واتحاد الصّناعات وأرباب العمل بأوروبا (UNICE) بمدينة بروكسل في 16 جويلية 2002، وهو أوّل اتفاق تطرّق إلى مفهوم العمل عن بُعد،

تمّ تعريف العمل عن بُعدهو: ” شكل من أشكال تنظيمي أو إنجاز عمل باستعمال التكنولوجيّات المعلوماتيّة في إطار عقد أو علاقة شغلية ينصّ على عمل بالإمكان إنجازه عادة بالمقر الرّسمي للمؤجّر يتمّ إنجازه بصفة مُنتظمة خارج هذا المقر

ولسائل أن يسأل هُنا عن مزايا هذا الشّكل التنظيمي المحدث للعمل وحدوده وانعاكساته على العامل والمؤسسة ومدى نجاعته في ظل غياب التّشريعات الكافية محليّا ودوليّا لتنظيم العلاقة الشغلية بين العامل عن بعدوصاحب العمل.

-II مزايا العمل عن بعد وحدوده:

1- مزايا العمل عن بعد:

يسعى المؤجّر من خلال اعتماد هذا النّمط الجديد من العمل إلى ترشيد النفقات والضّغط على تكاليف الإنتاج: شراء وكراء مقرات العمل ومصاريف تأثيثها وتجهيزها والحدّ من نفقات استهلاك الكهرباء والماء

كما أنّ العمل عن بُعديُساهم في تجنيب المؤسسة إهدار الوقت الناتج عن الضغوطات الطارئة مثل الظروف المناخية السيئة والالتزامات العائلية الفجئية.

كما أنه يساهم في ضمان استمرار نسق العمل في حده الأدنى حتى في حالات الطوارئ أو حصول القوّة القاهرة مثل الزلازل والفيضانات أو انتشار الأوبئة.

من ناحية أخرى، فإنّ أهم المنافع التي يمكن أن يستفيد منها العامل عند أدائه لعمله عن بعد، تتمثّل في المزيد من الأريحيّة والاستقلاليّة في العمل داخل فضاء عائلي مألوف بعيدا عن مختلف الضّغوطات الناتجة عن العمل داخل الفضاءات المفتوحة (Open Spaces) أو المشتركة.

ويُساهم العمل عن بُعدفي مزيد التصرّف في الزّمن من خلال إعفاء الأجير من التنقّل من وإلى مقر العمل وهو ما يؤدّي بدوره إلى توفير قدر أكبر من أوقات الفراغ يُمكن للعامل أن يوظّفه في قضاء بعض التزاماته الخاصة (إيصال الأبناء إلى المدارس، عيادة طبيب أو أحد مُقدّمي الخدمات الصحية، القيام بأنشطة رياضية…) دون الحاجة إلى طلب تراخيص مُسبقة من صاحب العمل.

كما يُساهم العمل عن بُعدفي الضغط على الالتزامات المالية اليومية للعامل عن بعدمثل مصاريف التنقّل ومصاريف الأكل خارج البيت والتي عادة ما تكون أسعارها مرتفعة في المدن.

أما من الناحية الاجتماعية يساهم العمل عن بُعدفي إدماج بعض الفئات الهشّة في سوق الشغل مثل ذوي الاحتياجات الخاصة الذين يعانون من صعوبة التنقل من و إلى مقر العمل وهو ما يساهم بدوره في ضمان المبدأ الدستوري في حق الشّغل لكلّ الفئات.

من ناحية أخرى، فإنّ العمل عن بُعدله انعكاسات بيئيّة إيجابية ذلك أنّ الحدّ من تنقّل الموظّفين من وإلى مقرّات عملهم يساهم في التّقليص من استهلاك المحروقات والحد من ارتفاع مستويات التلوّث وتلافي الازدحام المروري وحوادث الطرقات.

2- حُدود العمل عن بُعد“:

مُقابل هذه الايجابيّات والمزايا للعمل عن بُعدفإنّ عددا كبيرا من العمّال النّاشطين في هذا المجال لا يزال ينظر إلى هذا النّمط الجديد من العمل بشيء من الاحتراز نظرا للانعكاسات السلبيّة التي رافقت بداية التجاء المؤسسات والإدارات العمومية إلى هذا الشكل الجديد من العمل، ومنها:

  • العُزلة التي يعيشها العامل عن بعدبعد تحوّل علاقته المهنيّة مع زملائه ومنظوريه من علاقات مباشرة داخل مقرات العمل إلى علاقات افتراضية محكومة بتكنولوجيا الاتصال وهو ما قد يساهم في تفاقم شعوره بالوحدة والانعزال والضغط النفسي.

  • المخاطر الصحيّة التي يتعرّض لها العامل عن بعدوخاصة على مستوى البصر وأمراض العظام والمفاصل نتيجة جلوسه المستمر وتركيزه المفرط على الشاشات الالكترونية.

  • التّداخل الممكن بين حدود الحياة الشخصيّة والحياة المهنيّة بالنّظر إلى إمكانيّة امتداد أوقات العمل على حساب أوقات الرّاحة.

  • صعوبة تقييم أداء العامل أثناء العمل عن بُعدقياسا بمستوى زملائه وهو ما قد يؤثّر سلبا على تطوّر ممارسته المهنية وتدرّجه في المسار المهني.

  • الحدّ من التمتّع من الدّورات التكوينيّة المهنيّة ومن المشاركة في الفعاليّات النقابيّة داخل المؤسسة وصعوبة التّواصل مع الممثلين النقابيين أثناء مواجهة بعض المشاكل المهنية الطارئة.

  • العمل عن بعديُثقل كاهل الأجير بمصاريف إضافية محمولة في الأصل على المؤجر (مصاريف التكييف، مصاريف الانترنت، مصاريف الكهرباء…).

بالنّظر إلى كلّ ما سبق عرضه، يمكن أن نلاحظ بسهولة الضبابيّة التي تميّز العلاقة بين العامل عن بعدوصاحب العمل، وهو ما يدفعنا إلى التّساؤل عن القوانين المنظّمة لهذا النّمط الجديد من العمل.

فما هي الحلول والمقترحات الممكنة التي قد تساهم في تنظيم وتأطير هذه العلاقة الشغلية المُستجدّة؟

-III من أجل إيجاد إطار قانوني للعمل عن بعد:

1- دوليا:

اقتصر عمل خبراء منظّمة العمل الدولية على إعداد دراستين استقصائيتين الأولى بشأن أدوات العمل والثانية بشأن العمالة والعمل اللاّئق في ظل ظروف مُتغيّرة(1) التي اهتمت أساسا بمنافع وحدود ترتيبات العمل عن بعد“.

كما تقدّم الاتحاد الأوروبي أشواطا مهمّة في صياغة تشريعات مؤطّرة للعمل عن بعدإذ أن العديد من الحكومات وإثر إمضاء الاتفاق الإطاري الأوروبي الخاص بالعمل عن بعد سنة 2002، اتجهت إلى إبرام اتفاقات مع المنظّمات النقابيّة وأرباب العمل شملت على حد سواء أعوان الدولة وعمّال القطاع الخاص ويمكن لنا أن نذكر في هذا المجال:

  • الاتفاق الوطني بين القطاعات المهنيّة حول العمل عن بعد الممضى بباريس في 19 جويلية 2005 بين النقابات الفرنسية ومنظّمات أرباب العمل بفرنسا الذي عرّف في مادّته الأولى العامل عن بعدبما يلي: “يُعتبرعاملا عن بعدكلّ أجير في مؤسسة يعمل عن بعد سواء عند انتدابه أو بعده وفقا للشّروط المنصوص عليها في اتفاقية قطاعية أو اتفاقية مؤسسة طبقا لطبيعة نشاطها والأصناف المهنيّة لأجرائها“.

ولإعطاء هذا الاتفاق الوطني حول العمل عن بعدصبغته القانونية في تشريع الشغل الفرنسي، تمّ تضمين مُقتضياته في قانون التخفيف من الإجراءات الإدارية أو ما يُعرف بقانون وارسمان “Loi Warsmann الصادر بتاريخ 22 مارس 2012، ثم تنزيله بعد ذلك في قانون الشغل الفرنسي ضمن الفصول من 9-1222L إلى 11-1222L.

  • أما أعوان الدولة فقد تمّ إدراج نظام العمل عن بعدفي الفصل 133 من القانون عدد 347/2012 الصّادر بتاريخ 12 مارس 2020 المعروف بقانون سوفادات ” Loi Sauvadet”.

ولمعرفة مدى تلاءم هذا النّمط الجديد من العمل مع واقع الأجراء المهني والاجتماعي، قامت الشركة الرّوسية كاسبرسكيالمختصّة في الأمن الإلكتروني بدراسة استقصائية شملت أكثر من 8 آلاف موظّف من الشركات الصغيرة والمتوسطة من قطاعات وبلدان مختلفة خلال شهر أكتوبر 2020 بيّن أنّ %74 من الموظفين يرغبون في إعادة النّظر في طرق العمل السّائدة قبل بداية الأزمة الصحية المُرتبطة بتفشّيفيروس الكورونانظرا للاستفادة التي حصلوا عليها من هذا النمط الجديد من العمل ومنها: قضاء المزيد من الوقت مع عائلاتهم (%47)، الاقتصاد في المال (%41) القدرة عن العمل عن بعد (%32).

2- محليّا:

في تونس، لم يتطرّق المُشرّع إلى هذا النّمط الجديد من العمل ولم يسعى إلى تنظيمه في حين أنّ العديد من مؤسساتنا الاقتصادية سواء في القطاع الخاص أو العام وكذلك في الإدارات العمومية التجأ إلى العمل بهذه الآليّة خلال فترة الحجر الصحي الذي تمّ إقراره من طرف الحكومة،

وهذا ما يؤكده السيد خالد السلامي المدير العام لوحدة الإدارة الالكترونية برئاسة الحكومة في تصريح له لوكالة تونس إفريقيا للأنباء بتاريخ 12 جوان 2020:” العمل عن بعد كمفهوم وإطار قانوني ليس موجودا في تونس وإنما هي تجربة خاضتها الإدارة التونسية مضطرة كإجراء احترازي للتوقي من تفشّي فيروس الكورونا المستجد في محاولة لتمكين الموظفين من مواصلة عملهم أو جزء منه من خلال بقائهم في منازلهم في فترة الحجر الصحّي“.

وهذا ما بيّنته أيضا الدراسة التي قام بها المعهد الوطني للإحصاءبالتّعاون مع البنك العالميفي إطار متابعته للتأثيرات الاجتماعية والاقتصادية لجائحة الكوفيد-19″ على الأسر التونسية خلال الفترة الممتدة من 29 افريل إلى 8 ماي 2020 التي تمّ نشر نتائجها يوم 28 ماي 2020 والتي أفادت بأنّ واحدا من كلّ عشرة من الأجراء استطاعوا مُواصلة عملهم خلال فترة الحجر الصحّي اعتمادا على نظام العمل عن بعد“.

وفي نفس الإطار، قامت الجامعة الوطنيّة للخدمات الرقميّةالتّابعة للاتحاد التّونسي للصّناعات والتّجارة والصّناعات التقليدية بعمليّة استقراء لأراء عيّنة مُكوّنة من 62 مؤسسة ناشطة في مجالات الخدمات الرقميّة لمعرفة تأثيرات الجائحة كانت نتيجتها أنّ %84 من شركات القطاع الخاص العاملة في الميدان الرّقمي اعتمدت العمل عن بعدلتجاوز الصّعوبات التي فرضها الحجر الصحي.

أمّا بخصوص الإجراءات الحكوميّة، فإنه مع تفشّي جائحة الكوروناولغرض التوقّي من انتشارها ولضمان استمراريّة العمل والمحافظة على صحة العمال وعلى مواطن شغلهم، أصدر رئيس الحكومة وعملا بالتّفويض الذي منحه إياه مجلس نواب الشعب الذي تضمّن القانون عدد 19 المؤرخ في 12 افريل 2020 عددا من المراسيم ومن أهمّها المرسوم عدد 2 لسنة 2020 المتعلّق بسنّ أحكام استثنائية وظرفية لتعليق العمل ببعض أحكام مجلة الشغل بهدف تكييف شروط العمل المعتمدة مع تدابير الحجر الصحي الشامل المعلنة في تلك الفترة، ومنها تمكين المؤسسات من تعويض ساعات العمل الضائعة بسبب انقطاع مشترك عن العمل (الفصل 92 من مجلة الشغل) وكذلك مراجعة إسناد الراحة السنوية خالصة الأجر (الفصل 117 من مجلة الشغل).

لكن هذه الإجراءات ذات الصبغة التشريعية بقيت محدودة التأثير، حيث كان من الأجدر إقرار إجراءات أخرى مصاحبة تكون أكثر جدوى ونجاعة، وهذا ما تعرّض له الدكتور حاتم قطران ، الأستاذ بكلية العلوم القانونية والاجتماعية بتونس في مقال له بمجلة ليدرز الصادرة باللغة العربية بتاريخ 22 افريل 2020، إذ أوضح : ” كان من المفروض أن يذهب هذا المرسوم إلى أبعد من ذلك وأن يتمّ توفير أساس قانوني لنمط العمل عن بعدوهو أمر غير مُنظّم في قانون الشغل والحال أثبت أنه أكثر الوسائل فعاليّة للعديد من المؤسسات والعمال لمكافحة انتشار فيروس الكورونا” “كوفيد-19″ كما أضاف: “نظام العمل عن بعد هو الحل الرئيسي لضمان استمراريّة نشاط المؤسسات بأنواعها حيث أنه يساعد على الحفاظ على نشاط العمّال مع ضمان سلامتهم كما أنها الطريقة المفضّلة للحفاظ على الاتصال بين المؤسسات ومختلف المتعاملين معها“.

أمّا في ما يتعلق بالمحافظة على استمرارية المرفق العام وديمومة نشاط المؤسسات العمومية، فقد أصدرت الحكومة أمرين يتعلقان بسنّ أحكام استثنائية لعمل أعوان الدولة والجماعات المحلية والمؤسسات العمومية:

  • الأمر الأوّل: صدر تحت عدد 153 بتاريخ 17 مارس 2020 تضمّن توزيعا جديدا للأوقات وأيام العمل والتّقليص في ساعات العمل بالنّسبة للنساء الحوامل والأشخاص المصابين بالأمراض المزمنة (مرض السكري غير المتوازن أمراض تنفسية مزمنة على غرار الربو الأمراض القلبية مرض الفشل الكبدي الأمراض السرطانية).

كما مكّن الأشخاص المعنيين بعدم الالتحاق بمراكز العمل واعتبارهم في حالة مباشرة.

كما فوّض الفصل السابع من هذا الأمر الحكومي لرؤساء الهياكل الإدارية على ألاّ تقلّ خطّتهم الوظيفية عن مدير إدارة مركزية أو خطة معادلة الترخيص لبعض الأعوان الرّاجعين لهم بالنّظر للعمل عن بعدوذلك بالنسبة للأعمال التي لا يتطلّب تأمينها التّواجد الفعلي بمقرّات العمل.

أمّا الأمر الثاني الذي صدر تحت عدد 773 بتاريخ 5 أكتوبر 2020 فقد خوّل للوزير ولرؤساء الهياكل الإدارية اتخاذ قرار تكليف الأعوان العموميين للعمل عن بعدوذلك في صورة توفّر وسائل العمل عن بعدواستجابة الوظائف لتأديته مع إمكانيّة تكليف النساء الحوامل والأشخاص المصابين بالأمراض المزمنة المذكورة سابقا من العمل عن بعدبصفة كليّة خلال المدة المعنيّة المذكورة في نص الأمر (2) ممّا سيمكّن الأعوان العموميين من تأدية مهامهم خارج المواقع الرسمية للعمل عبر استخدام وسائل الاتّصال الحديثة.

وفي قراءة لهذين المرسومين، نلاحظ أنّ الحكومة سعيا منها على استمراريّة المرفق العام، أدرجت نظام العمل عن بعدلأوّل مرّة ضمن أحكام استثنائيّة وظرفيّة (2) أي أنها أحكام اقتصرت على فترة زمنية محدودة وبمناسبة حدوث جائحة صحيّة.

كما أنه لم يقع إفراد هذا النظام المستجد للعمل بأمر حكومي خاص به في حين أنه كان من المفروض تضمينه في قانون أو مرسوم لإعطائه الصّبغة والحجيّة القانونية اللازمة تمهيدا لإدراجه ضمن أحكام مجلّة الشّغل.

وما يمكن ملاحظته أيضا أنّ هذا الإجراء جاء مُسقطا من الطّرف الحكومي ولم يكن محل تشاور أو اتفاق مع بقية الأطراف الاجتماعية.

وان استثنت هذه الإجراءات بعض القطاعات كالأمن والجيش والصحة والنقل والطاقة لبعدها الحيوي والسيادي فان بعض القطاعات التي شملتها الإجراءات الحكومية الاستثنائية، قطاعات التعليم مثلا، لم تستفد بالقدر الكافي من مزايا العمل عن بعدنظرا لضعف البنية الأساسية من تجهيزات وشبكة ربط بالانترنت ونقص في التكوين مما جعل التواصل بين الطلبة وأساتذتهم مهمة شبه مستحيلة، فضلا عن تقييمهم وإجراء الاختبارات.

كما أنّه تم استثناء عمّال القطاع الخاص من هذه الأحكام الاستثنائية والظرفيّة وخاصة منها اعتماد هذا النظام الجديد من العمل، وبذلك يتعرّض عمال القطاع الخاص مرة أخرى لمظلمة إجرائية وهو ما يتعارض مع المبدأ الدستوري (3) الضّامن للمساواة في الحقوق والواجبات أمام القانون من غير تمييز.

وعلى الرّغم من أنّ ضمان السلامة الصحية والمستلزمات الحياتية للمواطنين أثناء فترات الأزمات الصحية تقع على عاتق الدولة التي من واجبها السهر على ضمان الاستمرار العادي للمؤسسات الاقتصادية والمرافق الحياتية والصحية، فإنه في المقابل لا يمكن أن نتجاهل دور الأطراف الاجتماعية ومنظّمات المجتمع المدني وعلى رأسها الاتحاد العام التونسي للشغل.

فإلى أيّ مدى تفاعلت الهياكل النقابية بالاتحاد العام التونسي للشغل مع المتطلّبات التشريعية لتنظيم هذا النمط الجديد من العمل؟ وما هي الحلول والإجراءات الممكنة؟

-VI الاتحاد العام التّونسي للشّغل ومُحدثات العمل عن بُعد:

لتبيّن تفاعل الهياكل النقابية للاتحاد مع هذا النّمط الجديد للعمل يُمكن لنا الإشارة إلى تصريح الأخ محمد علي البوغديري، الأمين العام المساعد للاتحاد المسؤول عن القطاع الخاص لجريدة الصباح بتاريخ 30 نوفمبر 2020 والذي أفاد أنّ: ” هذا المنوال من العمل هو مستجد وارتبط في تونس وفي سائر بلدان العالم بتفشّي جائحة الكورونا وهو مفهوم بحاجة إلى مزيد البحث والتعمّق من حيث تأثيراته الاقتصادية والاجتماعية وحتى الثقافيةموضّحا الحاجة إلى حوار اجتماعي عميق باعتبار اختلاف وجهات النظر بين الاتحاد وأرباب العمل.

كما أضاف:” إنّ قسمي الدراسات والتوثيق والقطاع الخاص بالمنظّمة الشغلية منكبّان على دراسة هذه الظاهرة وما تتطلّبه من قوانين منظّمة لها، على أن تكون خلاصة حوار اجتماعي جدّي من أجل تحديد تأثيراتها على سوق العمل والحياة الاجتماعية للعامل“.

وفي نفس السياق تعدّ الجامعة العامة لتكنولوجيا الاتصال والخدمات بالاتحاد سباقة في الاهتمام بهذا الموضوع، ذلك أنها نظّمت بالتعاون مع اتحاد النقابات النرويجية يومين دراسيين حول العمل عن بعد” (1و2 ديسمبر2020).

وعلى اعتبار الارتباط الوثيق بين تكنولوجيا الاتصال والخدمات من جهة، والعمل عن بعد من جهة ثانية، فإننا نرى أنّ مخرجات هذين اليومين الدراسيين قد يدفعان إلى بلورة منطلق لحوار يفضي إلى تنظيم العلاقة الشغلية بين مختلف الأطراف في تجربة العمل عن بعد“.

ونعتقد أنه يمكن الانطلاق من المجلس الوطني للحوار الاجتماعي باعتباره الهيكل المختص للتداول في هده المسائل حسب ما هو موكول له من مهام مذكورة في قانونه المنظّم (عدد 54 لسنة 2017)، على أن يكون الحوار بين مختلف الأطراف الاجتماعية المكوّنة له منطلقا لإبرام اتفاقية إطارية جماعية تكون بدورها حجر أساس لمشروع قانون يهدف إلى تنقيح مجلة الشغل بشكل ينظّم العمل عن بعدويبرز خصائصه وأحكامه وحالات اللجوء إليه، وإيجاد صيغة جديدة لعقد شغل تحت عنوان عقد عمل عن بعديُدرج ضمن الفصل 6 من مجلة الشغل وإضافة ملاحق تكميلية لعقود العمل الأصلية الجاري بها العمل.

وبالاطلاع على بعض التجارب المقارنة ومن اجل التعريف بهذا النظام المستجد للعمل وبخصائصه وبآلياته وبالحقوق والواجبات المحمولة على الأطراف المتعاقدة لانجازه، يمكن أن نقترح أن تتضمن الاتفاقية الإطارية الجماعية بعض المسائل الهامة التي نذكر منها:

  1. التعريف بالعمل عن بعدوخصائصه:

  • يعتبر العمل عن بعدشكلا من أشكال تنظيم العمل، يتمّ إنجازه خارج مقرات العمل الرسمية للمؤجّر باستعمال تكنولوجيا المعلومات وأدوات الاتصال الحديثة.

  • من خصائصه أنه:

  • يتم إنجازه بشكل دائم ويهمّ الأعمال التي يمكن تأديتها بشكل كلّي خارج مقر العمل الرسمي للمؤجر، أو بشكل جزئي حيث يتمّ تقسيم أوقات العمل إلى حصص بين ما سينجزه العامل بمكان العمل الرّسمي ومكان العمل عن بعد، وتكون هذه الحصص إمّا ساعات في اليوم أو أياما في الأسبوع أو في الشهر.

  • يقوم على الصيغة الطوعية لأدائه، حيث لا يكون بأي حال من الأحوال رفض العامل العمل عن بعدسببا لقطع العلاقة الشغلية أو لتغيير شروط العمل أوالمسّ من حقوقه.

  1. التنصيص على هذا النمط الجديد من العمل في عقود الشغل عند الانتداب وكذلك في الملاحق التكميلية للعقود المبرمة الجاري بها العمل على أن تتضمّن هذه العقود والملاحق التكميلية البيانات التالية:

  • مكان أو أماكن العمل عن بعد.

  • المهام والواجبات المكلّف بانجازها.

  • مدّة التّكليف بالعمل عن بعد، وعند الاقتضاء التوزيع الزمني بين مكان العمل عن بعدومكان العمل الرّسمي للمؤجر.

  • التنصيص على أنّ العاملين عن بعدلهم نفس الحقوق الفردية والجماعية على غرار زملائهم العاملين في المقرات الرسمية للمؤجر الواردة في الاتفاقيات المشتركة وبالتشريع الجاري به العمل من ذلك وصولات الأكل المنتفعين بها وكذلك رخص المرض والمرض المهني المنسوب للعمل والإقرار بشكل صريح بأن حادث الشغل الذي يقع للعامل عن بعدعلى موقع العمل وأثناء وقت أدائه لعمله يعتبر حادث شغل ويعامل على هذا الأساس.

  1. حماية الحياة الخاصة للعامل عن بعدوالتمييز بصفة واضحة بين الأوقات المهنية والأوقات الشخصية حتى لا يقع الخلط بين أوقات العمل وأوقات الراحة والاتفاق مُسبقا مع المؤجر حول الفترات الزمنية التي يمكنه خلالها الاتصال به لتوفير التوازن الضروري بين حياته المهنية وحياته الخاصة.

  2. عند وضع أنظمة لمراقبة أداء العامل عن بعدبمقر سكناه من طرف المؤجّر يجب التوفيق بين الحق في المراقبة من جهة وحرمة الحياة الخاصة للعامل من وسائل المراقبة الالكترونية المعتمدة، تطبيقا للمبدأ الدستوري الضامن لحماية الحياة الخاصة والمعطيات الشخصية للمواطنين(4).

  3. توفير أنظمة حمائية تضمن أمن وسرية المعطيات والوثائق الالكترونية التي يقع تداولها أثناء العمل مع احترام معايير الأمن السيبراني التي تحددها التشريعات الوطنية ذات العلاقة والتي نذكر منها:

  • القانون المتعلّق بحماية المعطيات الشخصية (عدد 63 لسنة 2004).

  • القانون المتعلّق بالحق في النّفاذ إلى المعلومة (عدد 22 لسنة 2016).

  • القانون المتعلّق بالسلامة المعلوماتية (عدد 5 لسنة 2004).

  1. إيجاد آليات تضمن التواصل المستمر والمباشر بين العامل عن بعدوزملائه في العمل لتجنيبه مختلف الآثار السلبية المتأتية من العزلة، وفي هذا الإطار يمكن لنا أن نستشهد بالاتفاقية الإطارية الأوروبية لسنة 2002 التي نصّت في مادتها التاسعة: “على المؤجر التأكد من القرارات المتخذة لتجنب عزلة العامل عن بعدعن بقية زملائه في المؤسسة من ذلك تمكينه من الالتقاء بصفة دورية بزملائه وتمكينه من النفاذ الى المعلومات المتعلقة بالمؤسسة“.

  2. إجراءات الصحة والسلامة المهنية المحمولة على المؤجر من ذلك اتخاذ التدابير اللازمة المناسبة لحماية العامل ووقايته من المخاطر المهنية وتوفير وسائل الوقاية وإعلام العامل عن بعدبالأخطار التي يمكن أن تمسّ صحته وسلامته أثناء العمل لا سيما في ما يتعلق باستعمال الحواسيب ومختلف وسائل الاتصال الحديثة.

  3. ضبط انتقال العامل إلى العمل عن بعدوشروط عودته إلى أداء عمله بالمقر الرسمي للمؤجر، وقد وضّح الاتفاق الوطني بين القطاعات المهنية حول العمل عن بعدالممضى بباريس في 19 جويلية 2005 في مادته الثالثة هذه المسالة كما يلي : ” إذا لم يكن نظام العمل عن بعدجزءا من شروط عقد العمل عند الانتداب، يمكن للمؤجر والأجير وبمبادرة من أحدهما الاتفاق على إنهاء هذا الشكل التنظيمي للعمل وتنظيم عملية عودة العامل إلى سالف عمله بمقر المؤسسة، ويتمّ تحديد شروط هذه العودة بموجب اتفاق ثنائي أو جماعي. أما إذا كان نظام العمل عن بعدجزءا من شروط عقد الانتداب، فيمكن للأجير التقدّم لاحقا لأي وظيفة شاغرة يمكن تأديتها داخل مقر المؤسسة تتوافق ومؤهلاته، كما تكون له الأولوية في الحصول على هذه الوظيفة الشاغرة“.

  4. حق العامل عن بعدفي الحصول على التكوين المهني الضروري للتطوّر في مساره المهني كبقيّة زملائه العاملين بالمقرات الرسمية وكذلك الخضوع لنفس المقاييس والسياسات التقييمية .

  5. يتكفل المؤجر بكلفة الأجهزة والبرمجيات والاشتراكات وأدوات العمل المتعلقة بمزاولة العمل عن بعدوكذلك التطبيقات والوسائل التقنية الآمنة لعقد الاجتماعات عن بعد بالصوت والصورة.

  6. الحق في قطع الاتصال(4) : للعامل عن بعد الحق في قطع الاتصال عن جميع الأنظمة الاتصالية والمعلوماتية التي تربطه بالمؤسسة وذلك خارج أوقات العمل القانونية ( بعد ساعات العمل اليومية، الراحة الأسبوعية والرخصة السنوية الخالصة الاجر، ورخصة المرض وحوادث الشغل، عطل مرض….). ويمكن في هذا المجال الاستئناس بالقوانين المقارنة ومنها القانون الفرنسي المسمى قانون العمل“. المؤرخ في 08 أوت 2016 الذي ينصّ على أحقية قطع الاتصال لكل أجير عن نشاطه المهني خلال فترات راحته.

  1. حماية الحق النقابي للعاملين عن بعد“:

لعلّ من أهم سلبيات العمل عن بعدصعوبة التّواصل مع الممثلين النقابيين للأجراء على الرّغم من المشاكل التي قد تحدث نتيجة أداء هذا النّمط المستجد للعمل، وعليه يجب أن تنصّ هذه الاتفاقية الإطارية المشتركة على ضرورة حماية الحق النقابي المكفول دستوريا وكما ضمّنته الاتفاقيات الدولية والتشريعات الوطنية.

كما يجب الحفاظ على تواصل العمال وممثليهم النقابيين وممارسة حقهم في الترشح والانتخاب لمختلف الهياكل التمثيلية العمالية وإلزام أصحاب العمل على توفير وسائل الاتّصال الحديثة ووضعها على ذمة ممثليهم النقابيين ليتمكنوا من الاتصال بمنظوريهم وعقد الاجتماعات واللقاءات النقابية عن بعد.

الخاتمة

قد يبدو لنا ونحن نناقش مسألة العمل عن بعدأنّ مجال تأثير هذا الشّكل التّنظيمي للعمل يقتصر على الميدان الاقتصادي والتشريعي فقط.

لكن أغلب الدّراسات الدوليّة الحديثة بدأت في الاشتغال على الجانب النّفسي للعاملين عن بعد، وعلى التّأثيرات النفسيّة وعلى العلاقات الاجتماعية في ظلّ تكريس دائم للتّباعد الاجتماعي حتى خارج فترات الأزمات والجوائح، حيث يعتبره العديد من الأخصائيين السّلوكيين والاجتماعييّن تكريسا للفردانيّةولهيمنة الآلة ووسائل الاتصال الحديثة على العلاقات البشريّة الكلاسيكيّة بما فيها العلاقات العائلية.

  1. فهل يكون للعمل عن بعدمستقبل في تونس في ظلّ محدوديّة وعي أصحاب القرار السّياسي والاقتصادي بأهميّة التّكنولوجيا وضعف البنية التحتيّة المتعلّقة بوسائل الاتصال الحديثة، وغياب التّشريعات المؤطّرة؟

  1. وما هو مُستقبل العمل النّقابي في العالم وفي تونس في ظلّ تنامي هذا الشّكل التّنظيمي المُحدث للعمل المبني على التّباعد الاجتماعي والمهدّد للقيم والمبادئ الأساسيّة للعمل النّقابي كالوحدة والتّضامن والعمل النّضالي المشترك؟

(1) (الفقرات من 614 إلى 623) من الدراسة بشأن العمالة والعمل اللاّئق في ظل ظروف مُتغيّرة

(2) (من 6 أكتوبر إلى 31 أكتوبر 2020).

(3) الفصل 21 من دستور البلاد: المواطنون والمواطنات متساوون في الحقوق والواجبات، وهم سواء أمام القانون من غير تمييز.

(4) الفصل الرابع والعشرون من دستور البلاد: ” تحمي الدولة الحياة الخاصة وحرية المسكن وسرية المراسلات والاتصالات والمعطيات الشخصية

Skip to content