حوارات

القاضي عماد الغابري: « المقاربة الجديدة في مجلة الجماعات المحلية تشاركية يساعد فيها القضاء الإداري على اتخاذ القرارات الصحيحة من الناحية القانونية والشكلية»​

آمال الشاهد
صحفية

نص الدستور التونسي في آخر باب السلطة المحلية، في الفصل 142،  على أن القضاء الإداري يبت في كل النزاعات المتعلقة بتنازع الاختصاص بين الجماعات المحلية فيما بينها وبين السلطة المركزية والجماعات المحلية

وقد وضع هذا الفصل القضاء الإداري في قلب مسألة الحكم المحلي ومبدأ اللامركزية لأنه سيكون الفيصل في ممارسة الحكم المحلي وفي تدعيم استقلالية القرار والحوكمة وإدارة الشأن اليومي في المستوى الجهوي.

وللنظر أكثر في علاقة القضاء الإداري بمسألة اللامركزية واستقلالية التسيير المحلي والجهوي ودوره في تدعيم معاني الديموقراطية وخاصة طابعها التشاركي، طرحنا هذه الأسئلة على القاضي الإداري ورئيس وحدة الاتصال بالمحكمة الإدارية السيد عماد الغابري.

نعرف أنه منذ الاستقلال تم تركيز محاكم القضاء العدلي بكامل الجمهورية، على عكس القضاء الإداري الذي بقي مطولا مرتكزا بالعاصمة تونس فقط. منذ متى أصبحت للمحكمة الإدارية دوائر داخل الجمهورية؟

هذا السؤال في علاقة مباشرة مع مسألة الجماعات المحلية. حينما قررت الدولة الشروع في تجسيد اللامركزية الترابية وإنشاء نظام جديد للبلديات وللجماعات المحلية في 2018، وكان حينها لزاما القيام بانتخابات بلدية على مستوى الجهات، وهذا مجال يختص به القضاء الإداري، لأن القاضي الإداري هو بمقتضى القانون قاض انتخابي يراقب العملية الانتخابية، كان من الضروري إنشاء محاكم إدارية جهوية تنظر في النزاعات الانتخابية وخاصة منها التي تتعلق بصحة الترشحات والإجراءات.

وقع حينها التفكير في صيغة معينة ينص عليها قانون 1972 المحدث للمحكمة الإدارية، وهي إحداث دوائر جهوية، تم إحداث 12 دائرة جهوية ، تنظر في نزاعات الانتخابات ولكنها تصبح كذلك في نفس الوقت قضاء إداريا جهويا، تبقى مستقرة في الجهات، وتجسد بذلك في مرحلة أولى ما نسميه بلا محورية القضاء الإداري، في انتظار التمكن من إرساء لامركزية للقضاء الإداري بأتم معنى الكلمة.

فقط للتبسيط ما هو الفرق بين اللامركزية و اللامحورية ؟

اللامحورية تعني أن تلك الدوائر التي أحدثناها في 2017 استعدادا للانتخابات البلدية لسنة 2018، هي امتداد للمحكمة في المركز، ليست لها استقلالية مثل التي تتمتع بها المحاكم العدلية الابتدائية مثلا، هي دوائر تبقى راجعة بالنظر للمركز.  في الدستور نتحدث عن محاكم إدارية ابتدائية جهوية، هنا نتحدث عن اللامركزية، التي تقتضي وجود هرم قضائي ممتد جغرافيا على مستوى كامل التراب الوطني، وعلينا كذلك إحداث محاكم استئنافية جهوية لأن القضاء الإداري يخضع لمبدأ التقاضي على درجتين.

نحن اليوم على مستوى القضاء الإداري في مرحلة انتقالية، شرعنا في اللامحورية ، لكننا سنستكمل هذا التمشي احتراما للدستور من أجل تفعيل لامركزية القضاء الإداري.

هل أن الدوائر الموجودة حاليا في إطار اللامحورية التي كنت تفسرها لنا، تغطي كل ولايات الجمهورية حاليا؟

حينما قررنا إنشاء هذه الدوائر فكرنا في المعيار الذي على أساسه سيقع إنشاء الدوائر الاثني عشرة، واخترنا إحداث دائرة قضائية إدارية في كل مقر ترابي توجد به محكمة استئنافية عدلية، وقد كانت توجد حينها 12 محكمة استئناف عدلية بالجمهورية. هنالك إذن دوائر قضائية إدارية تغطي أكثر من ولاية واحدة. وفي مراحل قادمة ستتطور هذه الدوائر وسيكبر عددها لتصبح محاكم إدارية مستقلة بذاتها في إطار اللامركزية.

ولكن هل أن طبيعة القضاء الإداري تشبه طبيعة القضاء العدلي خصوصا من ناحية درجة احتياج المواطن له، هل نحن مطالبون بإحداث المحاكم الإدارية في كامل الجمهورية بنفس عدد المحاكم العدلية؟

تعلمين أن مسألة قضاء القرب هي مسالة حيوية ومهمة، ينظر القضاء الإداري في النزاعات التي تكون الإدارة طرفا فيها، لو كان المعيار الذي طبقناه لإنشاء الدوائر القضائية الإدارية شاملا أكثر لعكس الحاجة الملحة للمواطنين في التقاضي الإداري. المعيار الذي يتحدث عنه الفصل 15 من قانون المحكمة الإدارية هو معيار جغرافي أو معيار ترابي، الإدارات التي يقع النظر في نزاعاتها هي فقط الإدارات المحلية والجهوية التي يشملها الإطار الترابي للولايات التي يشملها القضاء الإداري في الجهات. يبقى جانب مهم من النزاعات الإدارية خاضعا للمركز، في تونس العاصمة، وهي النزاعات ضد الإدارة المركزية، وهي أكثر عددا من بقية النزاعات كلها.

وقد لاحظنا أن حجم أو عدد الملفات التي تعرض حاليا على الدوائر الجهوية صغير، لأن اختصاصها مازال محدودا، لا يتعدى الاختصاص الترابي، لذلك يقع حاليا إعداد مشروع لمجلة القضاء الإداري، وهو في مراحل إعداده الأخيرة، سيتضمن تغييرا لمعايير الاختصاص الجغرافي للمحاكم الجهوية، ستصبح محاكم وسيوسع نطاق عملها ليصبح النزاع مستندا على معيار مقر المدعي وليس على المعيار الترابي للمكان الذي تنتمي إليه جغرافيا الإدارة المعنية بالنزاع.  هذا ما سيحقق قضاء القرب ويجسد مبدأ تقريب مرفق عام القضاء من المتقاضين، وسيعفي المتقاضين من عناء التنقل إلى أماكن بعيدة عنهم مع ما يكلفهم ذلك من مصاريف وتعب، وهم في الغالب من الفئات الهشة والمتواضعة ماليا.

هنالك اليوم مؤشرات تظهر أن حجم العمل لهذه الدوائر الجهوية مازال صغيرا، إلى جانب ربما ما قد نعتبره عملا غير كاف في التعريف بوجود هذه الدوائر والإعلام حولها.  مازالت ثقافة التقاضي الإداري غير منتشرة بالشكل الكافي في المجتمع التونسي خصوصا بالجهات، و مازال عدد كبير من المواطنين يعتقدون أنه « إذا كان خصيمك الحاكم، لشكون باش تشكي» كما يقول المثل التونسي …

الجانب الإيجابي في مسألة قلة أو ندرة الملفات أو العرائض التي ترد على الدوائر في الجهات هو أن العمل يتم بشكل سريع وآجال البت فيها لا تمتد على مدة طويلة، كما يقع عادة هنا في المركز، هذه الدوائر لا يعاني المتقاضي فيها من بطء عمل القضاء الإداري.

المسألة هنا في المركز محكومة كثيرا بالإمكانيات التي تتصرف فيها المحكمة الإدارية، فعدد القضاة الإداريين لا يتجاوز 200 قاض وقاضية، منهم خمسون قاض فقط في الطور الابتدائي، مقابل عدد من العرائض يرد على المحكمة يصل إلى الآلاف،  فكل قاض إذن يشتغل على حجم عمل يحتوي على 500 ملف قار يعمل عليه خلال السنة الواحدة، ترين أن الإطار البشري عدديا ضعيف جدا ومن الحلول الواجب اعتمادها انتداب المزيد من القضاة، إلى جانب تغيير الإجراءات، فطور التحقيق يتسبب في تعطيل كبير لآجال البت في الملفات، لأنه يتبع إجراءات إدارية ثقيلة وبيروقراطية، تطول فيها مرحلة المراسلات بين المحكمة والإدارة أو الإدارات المعنية بالنزاع  ولا توجد في هذه المسألة آجال مضبوطة ومحددة بنص القانون تجبر الإدارة على الرد في غضونها، كل هذه السلبيات وغيرها سيقع العمل على تجاوزها وعدم تكرارها في مشروع مجلة القضاء الإداري الجديدة.   

حسب تقديراتكم متى نتحول من طور لامحورية القضاء الإداري إلى طور لامركزيته؟

يبقى هذا الأمر رهين الإرادة السياسية للسلطات، نحن بصدد اعداد مشروع المجلة الجديدة للقضاء الإداري، وسنقوم بالإجراءات القانونية لكي تمر أمام مجلس النواب للمصادقة عليها، الأمر الجيد أن الترتيب الهرمي للقضاء الإداري وتركيبته وطابعه اللامركزي أمر محسوم لأن كل ذلك مذكور بوضوح في الدستور ولن يكون بابا للاجتهاد أو الانقاص منه، 

لا نحتاج إلا صياغة القوانين التي ستنزل هذه الأحكام الدستورية. حينما تقع المصادقة إذن على هذه المجلة الجديدة سيقع الشروع في تحويل اللامحورية إلى لامركزية وستتحول الدوائر القضائية الإدارية الجهوية الحالية إلى محاكم إدارية قائمة بذاتها.

وهذا ليس مطلب القضاة وحدهم بل هي مطالبة تأتي من الجميع ومن المجتمع المدني لأن قضاء المواطنة وقضاء القرب هو حاجة يومية ملحة، ولأن الشأن القضائي أصبح مسألة عامة تناقش وتراقب بشكل علني ومفتوح  ومن حق الناس أن تتابع هذا الشأن وأن تعلم، فنحن نصدر أحكامنا باسم صاحب السيادة وهو الشعب التونسي.

هنالك أمر آخر على غاية من الأهمية وهو القفز بمرفق عام القضاء من طابعة التقليدي الباياتي والخروج به إلى طور الرقمنة وتعصيره، وتطوير الإدارة القضائية لكي تصبح إدارة الكترونية تتخلص من البيروقراطية ومن كثرة الأوراق، ونحن بصدد إعداد مخطط استراتيجي للقضاء الإداري سينصص على هذه التفاصيل وسينفذها، ولدينا آجال نهائية تربطنا وتلزمنا في تطبيق مسار التعصير والرقمنة. اذكر لك مثلا أنه ليس لنا إلا أجل ثلاث سنوات لكي نلغي كل المعاملات الورقية ولتصبح الإجراءات رقمية مائة بالمائة، حتى لو بقيت كتابة العرائض من قبل المواطن على الأوراق (شكليا) إلا أن كل متابعة الملف في المحكمة بعد ذلك سيكون مرقمنا ومنظما حسب تطبيقات علمية واضحة تعد للغرض، سيكون كل ملف متضمنا جميع الوثائق اللازمة للتقاضي موثقا ومضمنا في تطبيقة على الحاسوب، هذا سيساعد كثيرا في التحكم في الآجال وفي التحكم في الفضاء (لن يعود مكتب القضاء مكتظا بالأوراق وبعلب الارشيف وبالملفات المتراكمة، سيكون كل شيء مضمنا  في الحاسوب.

لقد بدأنا بعد في إعداد نماذج لعرائض إلكترونية وللإمضاء الإلكتروني… ولكن كل هذا يبقى رهين مسار تشاركي لكي ينجح، لأن الإدارة هي طرف أساسي في النزاع والمحامون أيضا هم حلقة هامة وبالتالي فمن الضروري أن ينخرطوا في هذا المسار الجديد الذي يعتمد على الرقمنة حتى تنجح المحكمة في إصدار أحكامها بشكل سريع بعيدا عن التعطيل البيروقراطي والروتين الإداري المعهود. وحتى المواطن بشكل عام معني بهذا التمشي لأنه يتمتع بالحق في الولوج إلى المعلومة وبالتالي فنحن مطالبون بعرض أعمالنا ونشاطنا بكل وضوح على موقع رسمي للمحكمة يعرض كل أعمالها وأحكامها ووظائفها الاستشارية وغيرها…

هل تطلبت عملية تركيز الدوائر المحلية أو الجهوية للقضاء الإداري ميزانية كبيرة؟

لم تتكلف هذه العملية أموالا كثيرة، ولكن الإشكال أن ما تم إنجازه لا يستجيب للطموحات، وهذا يرجع بالأساس لأن المؤسسات القضائية في تونس لا تحضى بالاستقلالية المالية، وهي من النقاط التي يجب أن يعمل عليها المجلس الأعلى للقضاء ليجد لها الحلول، مازال القضاءان العدلي والإداري لا يتحكمان في موارد مالية خاصة بهما، تمنحهما سهولة في التصرف وفي التسيير، وتمنحهما اختيار الظروف الملائمة للعمل للقضاة وللمتقاضين، المقرات التي تم تركيز الدوائر الجهوية بها ليست كلها على ما يرام وهنالك زملاء يعملون في ظروف وبإمكانيات غير مناسبة.

للتذكير لقد كان القضاء الإداري يزعج كثيرا السلطة لأن أحكامه المستقلة كانت تلغي قرارات صادرة عن الوزراء وكبار المسؤولين في الدولة فكانت هنالك دائما محاولة للتنقيص من شأنه والتعتيم عليه، ومن ذلك مثلا تركه في مقرات غير لائقة مثل المقر القديم للمحكمة .في نهاية الأمر تبقى مسألة تكريس استقلالية القضاء رهينة الإرادة السياسية إن وجدت.

هل ستؤثر كل هذه التغييرات، التي حدثتنا عنها، في طريقة تسيير وتنظيم القضاء الإداري في ممارسة الديموقراطية فعلا على أرض الواقع؟ 

أعطت مجلة الجماعات المحلية دورا كبيرا للقضاء الإداري الجهوي. كانت السلطة المركزية فيما مضى تمارس الرقابة على أعمال البلديات والمجالس الجهوية وقد كانت رقابة إدارية مركزية، أما الآن ومن خلال الباب السابع للدستور، وهو المتعلق بالسلطة المحلية، أنشأ منظومة جديدة هي منظومة الرقابة القضائية اللاحقة، وهذا يمنحها أكثر سلطة، وقد كانت المقاربة السابقة أمنية أكثر منها مقاربة ديموقراطية في علاقة بين السلط. وبعد سنة 2014 اصبحت المقاربة ديموقراطية، لكن مع أخذنا بعين الاعتبار أن الجماعات المحلية هي كيان إداري وليست بمنظومات سياسية، فحتى لو كانت مجالسها منتخبة إلا أن وظيفتها هي خدمات القرب والمصالح المحلية والمرافق العمومية المحلية.

وأعود بك إلى الرقابة القضائية، إذ يمارسها طرفان: المحكمة الإدارية ودائرة المحاسبات. وتقوم المحكمة الإدارية بنوعين من الرقابة : رقابة في إطار وظيفتها الاستشارية إذ تخضع قرارات الجماعات المحلية لاستشارة مسبقة للمحكمة الإدارية الجهوية، وقد شرعت عدة بلديات في أخذ رأي المحكمة الإدارية في مشاريع قراراتها، ورقابة ما بعدية في إطار وظيفتها القضائية كمحكمة تنظر في النزاعات القضائية المتعلقة بقرارات الجماعات المحلية سواء من خلال الدعوى الاصلية في تجاوز السلطة أو الدعوى الاستعجالية بتوقيف التنفيذ وقد منح القانون صلاحيات واسعة للمحكمة الإدارية في مجال توقيف تنفيذ قرارات الجماعات المحلية، كما حصل تغيير في فلسفة الطعن أمام القضاء إذ أصبحت الإدارة المركزية في موقع المتقاضي وبإمكانها الطعن أمام المحكمة الإدارية في قرارات الجماعات المحلية، بعدما كانت في السابق تمارس عليها الرقابة.

وهنالك تكريس في المشروع الجديد لمجلة القضاء الإداري لمبدأ الفصل بين هتين الوظيفتين فالقضاة الذين يمنحون الاستشارات الماقبلية بخصوص قرارات الجماعات المحلية لا ينظرون في دعاوى تجاوز السلطة أو توقيف التنفيذ. يمكننا إذن أن نستنتج أن المقاربة الجديدة في مجلة الجماعات المحلية هي مقاربة تشاركية بينها وبين القضاء الإداري الذي يساعدها في اتخاذ القرارات الصحيحة من الناحية القانونية و الشكلية من خلال تدعيم الوظيفة الاستشارية للمحاكم الإدارية الجهوية. 

Skip to content