مقالات

القِيَم في عصرنا كَوْنية أو لا تكون

د. عبد المجيد الشرفي

يكاد الملاحظون يُجمعون على أنّ وباء الكورونا الحالي بأبعاده الكونية لا بدّ أن يخلّف نتائج عميقة في شتى مجالات الحياة. ومن الطبيعي، والحالة تلك، أن يوجَد تَوْقٌ مشروع إلى منظومة قِيَم جديدة، نظرا إلى أنّ العديد من المشاكل التي تعيشها المجتمعات التي اجتاحها هذا الوباء ناتجة عن منظومة  لها ضلع في عواقبه الوخيمة. ومِن أهمّ هذه العواقب احتلال عبادة المال والإثراء الفاحش السريع بكل الوسائل المكانَ الأوّل في سلّم القِيَم، على حساب الحرية والمساواة والعدل والكَرَم والإيثار والتعاون والرحمة وحبّ الخير للآخر. لكنّ ما يجدر الانتباه إليه أنّ منظومة القيم ليست منظومة إرادية وقائمة بذاتها، معزولة عمّا يحيط بها، بقدر ما هي إفراز لاختيارات ذات صبغة سياسية – اقتصادية في الدرجة الأولى، إذ من المؤكّد أنّ النظام الرأسمالي، وخصوصا منذ أن ساد شكله المتوحّش الذي لا يراعي في الحياة إلا الربح الوفير، ولا يهتمّ بما ينجرّ عنه من كوارث بيئية ومن مَآسٍ اجتماعية، هو المسؤول عن هذا الوضع الكارثي الذي لا يستفيد منه سوى الأقوياء، إن بين الدول أو داخل كل دولة.

فهل سينهار هذا النظام الرأسمالي وقد وصل إلى حدّ اختلّت فيه كل التوازنات؟ إننا لسنا متفائلين كثيرا في هذا المستوى، لا لأنّ للرأسمالية، بإيمانها بقدرة السوق المتناهية، إمكانيةَ الخروج سالمة تماما من الأزمة الحالية، والتأقلم مع مقتضيات حماية البيئة وتوفير قدر أدنى من العدل، بل لأنّ البدائل لهذا النظام لم تتّضح بعدُ بما فيه الكفاية بعد سقوط المنظومة الشيوعية وتعثّر التجارب الاشتراكية. ونخشى أن يَحمل لنا المستقبل المنظور في جراب الرأسمالية المنتصرة عَودةً إلى الأنظمة الاستبدادية والفاشية التي تستغل الشعبوية لفرض أنماط من العيش لا تستجيب لتطلعات الناس الى الكرامة في كنف الحرية.

وينبغي أن لا نغفل من ناحية أخرى عن أن منظومة القيم عموما غير قابلة للتغيّر السريع. وما ذاك إلا لأنّ تغيير العقليات أصعب وأبطأ من تغيير الظروف المادية. وكثيرا ما رأينا عبر التاريخ تعايش منظومات قيمية عتيقة مع أوضاع جديدة كل الجدّة ماديا، في مفارقات عجيبة تحتاج إلى استخلاص الدروس من نجاحها، كما هو الشأن في اليابان منذ القرن التاسع عشر، وقد نجح نجاحا باهرا في اكتساب مهارات العصر مع الحفاظ على تراتبية اجتماعية صارمة وعلى وضع دوني للمرأة.

على أنّ ما يدعو في المقابل إلى قَدْر معقول من التفاؤل هو أنّ إمكانيات التواصل التي وفّرتها الثورة الرقمية بثّت في أرجاء المعمورة طموحات مشتركة إلى ما يضمن الحريات الفردية والجماعية، بصرف النظر عن الاعتبارات الإثنية واللغوية والدينية وغيرها. والأرجح فيما نرى أنّ البشرية مُقدِمة على صراعات حادّة على كل الأصعدة يجدر بنا أن نكون مستعدين لمواجهتها بالعلم والمعرفة لا بالخرافات والأوهام. فذلك هو ما يحمّلنا مسؤولية بناء منظومة قِيَم ليست نسخة من الماضي بل إبداعا خلاقا ننخرط به في التاريخ ولا نكون فيه عالة على غيرنا أو واقعين تحت سيطرة هواة السياسة وتجار الدين وجشع المستغلين.

إن تونس صغيرة لا محالة بمساحتها وبِعَدَد سكّانها، ولا شك أنها كانت تكون أقدر على هذا البناء لو تحققت الوحدة المغاربية المنشودة، لكن لا شيء يمنع إن صحّ العزم ورغم كل الصعوبات من أن تكون برجالها ونسائها، وبفضل عبقرية شعبها وكفاءة نُخَبها، في طليعة الذين يتوصلون إلى الحلول التي تبحث عنها البشرية قاطبة، وأنموذجا يُحتذى في الارتقاء بمستوى الوعي بالمواطَنة بكل شروطها لدى كل الفئات، وفي جعل الاقتصاد في خدمة الجميع لا في خدمة أقلية محظوظة. وليس هذا بعزيز عليها متى آمنت بقدرتها على ذلك، وتخلصت من العُقَد التي تعيقها عن ما يحقّق السِلْم والأمان والسعادة والتقدم. ولِنذْكُر دائما أنّ القيم في عصرنا كونية أو لا تكون، وإن تعددت السبل إليها والمظاهر التي تتجلى فيها.   

Skip to content